في ذكرى مرور قرنٍ من تأسيسها، تظل الرابطة القلمية لأدباء المهجر برئاسة جبران علامةً فارقةً في تاريخ الأدب العربي استطاعت أن تخرجه لرحاب العالمية وكسرت العزلة الأدبية التي ظلت تحتكر الشكل الأدبي في صورته التقليدية القديمة البعيدة عن الواقع الاجتماعي لمجتمعات القرن العشرين.
بُعَيد الاحتلال العثماني والنكسة الحضارية التي ألحقها بالمجتمعات العربية على مدى أكثر من خمسة قرون، كان الناتج الأدبي مستمرًا في استحضار قوالب الأدب وأساليبه بحنينيةٍ لعصور ازدهاره العباسية والأندلسية ببحورها ونحوها وعروضها وحتى مواضيعها نفسها. هذا الأمر كان أشبه بمرثيةٍ فنيةٍ تزيده بعدًا عن مجتمعه المحلي والمجتمع الإنساني ككل.
كانت محاولة كسر هذه النمطية بالذات أشبه بإعادة ترتيب وصياغة فكر المعبد داخل دينٍ شرسٍ وعنيفٍ أيضًا، وقد كانت الرابطة المهجرية في الولايات المتحدة من الأدباء العرب كجبران ونعيمة وأبوماضي ورفاقهم هم رواد هذه الحركة التي لم تقف عند تغيير القالب الأدبي في اللغة العربية بل تجاوزته لمواضيعه التي تلمس حاجة المجتمعات العربية حتى وقتنا هذا.
إنه وحين دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي مثالًا وملاحظة مراحل تطوره من حيث الأسلوب والقالب الأدبي والموضوعات التي يتبناها، نجد أن الحركة الأدبية كانت متأخرةً عن ذلك وظلت الطبقة الأدبية عالقةً في مكانها لقرون، ولذا كان من المحتم محاولة خلق أسلوبٍ أدبيٍ جديد عني به جبران وأقرانه في ما يسميه الدكتور الناعوري بالأسلوب الجبراني.
الأسلوب الجبراني كما يبدو في أعمال جبران كالنبي والأجنحة المنكسرة ومرداد لميخائيل نعيمة يظهر أقرب منه للطابع الرومانسي في العصر الإنجليزي من حيث مخاطبة الشعور والمجرد واستخدامه للغة الشاعرية والنثر الشعري أو الموسيقي مثالًا.
التأثر الصوفي الطابع ظاهرٌ على أعمال هذه الفترة وهو ما برز في فلسفة جبران وأدباء الرابطة من وحودية الوجود والعلاقة الفردانية بالذات الخالقة، وهو بالإضافة لأثره الأدبي كان له أثره الاجتماعي أيضًا في معتقداتهم وتأثير إنتاجهم الأدبي على الموروث الديني التقليدي للمنطقة العربية كما سنأتي للحديث عنه.
إن الأسلوب الجبراني والنمط الرومانسي بشكلٍ عام له ارتباطه الوثيق أيضًا بالفلسفة الصوفية وعملية تخلُّقِ الفن، أي ما يمكننا وصفها بالمدرسة التعبيرية في تاريخ الأدب العربي الحديث التي تحمل هذه الفكرة والفلسفة حول تشكل الفكرة والموضوع الأدبي وخروجه في شكله الفني للمتذوقه، والتي كما يقول الدكتور جابر عصفور ما زالت طاغيةً على الأسلوب الأدبي العربي وظاهرةً في الكثير من النصوص الأدبية، والذي يمكن أيضًا الاطلاع على النظرية التعبيرية أكثر حول هذه الموضوع في كتابه نظريات معاصرة.
لقد منح هذا التغيير العلاقة بين الأديب والقارئ بعدًا أقرب وأكثر أُلفةً من حيث جمال العبارة وبساطة المفردات ومخاطبتها للشعور الذي جعلها أقرب للجميع على نفس ما قاله نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) على أنه كتابٌ للجميع، ولعلها أحد الأسباب التي جعلت الدكتور الناعوري يحتمل تأثر الأسلوب الجبراني بأسلوب نيتشه على وجه التحديد في كتابه هذا، ناهيك عمّا اتسم به أسلوبه السردي من نثر موسيقي يجمع بين النص المرسل والشاعرية والإيقاع الموسيقي كما عند نيتشه ووايتمان.
بالمناسبة، فحركة أدباء المهجر أيضًا كما هي صنعت تحولًا في الشكل الأدبي العربي على مستوى اللغة والأسلوب، بحثت في موضوعات مختلفة ومغايرة عما كانت تتسم به العصور السابقة من حيث ما يمكن تسميته بأدب اللحظة، أي تمحور الموضوع في الحدث ذاته وانكفاؤه عليه وهو الأسلوب نفسه الذي اتسم به النص الأدبي المتخلق عبر استدعاء هذه الأساليب القديمة لولا ما أحدثته حركة أدباء المهجر في الولايات المتحدة والبرازيل من تغيير.
هذا التغيير مثلما كان ثورةً على النمط التقليدي القديم في قولبة العمل الأدبي، كان أيضًا بمثابة ثورةٍ نقدية للركود والجمود الفكري المتعصب للتقاليد القديمة والميثولوجيا الكهنوتية، بصفة المعبد كآلة تشكيل وعي المجتمع العربي عمومًا وتأثيره الحاسم في تقرير مصيره.
كتب سلوتردايك كتابه (الإنجيل الخامس لنيتشه) حول كتاب هكذا تكلم زرادشت تحت هذا العنوان الذي كان نيتشه نفسه حين أنهاه تحدث لأحد أصدقائه أنه كتب الإنجيل الخامس. وهو كما يقول نيتشه عنه أنه بمثابة اعتذار زرادشت عن الأخلاق التي هي من صنيعته وبوصفها خطأً شنيعًا ارتكبه في إدراكه ديناميكية الصراع بين الخير والشر، في بعثٍ وخروجٍ جديد له يكشف عن الحكمة ويعلن موت الإله.
في الرابطة القلمية لأدباء المهجر التي يرأسها جبران كان أبوماضي هو أقرب أعضائها للجرأة حول هذا الأمر الذي يعرضه نيتشه حول الانقلاب على المعبد وإنكار مسلماته اليقينية حول الغيب في الكثير من أشعاره.
يتحدث سارتر ناقلًا عن دوستويفسكي قوله في إحدى مناظراته “إنه إذا ما أنكرنا وجود الرب، فكل شيءٍ مباح!” ، هي ذاتها محاولة أدباء المهجر الوقوف في وجه السطوة الكهنوتية للمعبد على المجتمع العربي العالق في سلاسل الشريعة والرؤية التقليدية للنبي ولله. ولذا كان لا بد من إعادة تقديم هذين الاثنين بصورة مختلفة عما يألفها العرب ويعرفهم عن طريق المعبد لتمثل هذه الخطوة حركة إصلاحٍ دينيٍ واجتماعيٍ تخرج من الوسط الفني الأدبي المهجري ذي الطابع الإنساني.
وبالفعل بدأ جبران في كتابة أناجيل جديدة تقدم وتؤرخ مسير وفلسفة مسيحٍ آخر غير الذي يعرفه الناس ويقدمه المعبد، إلهًا ونبيًا أكثر إنسانيةً وقربًا من البشر، يقدم لهم الحرية ويعاملهم كأحباءٍ ويوصيهم بالحب والسلام. المسيح ابن الإنسان، المسيح الذي رآه جبران كما يقول الدكتور ثروت عكاشة.
كان كتاب النبي وحديقة النبي بمثابة توثيقٍ لرحلة مسيحٍ آخر يعرفه جبران كآخِر حوارييه وأصدقهم يحاول تقديم العلاقة الإنسانية مع الآلهة بمثابة علاقةٍ تقوم على علاقة البشر مع بعضهم، وعلى الحب وبالحب وحده تنقلب على كل قيود الشريعة التي استمر في وصفها بهذا الوصف في قصصه القصيرة وفي الأجنحة المنكسرة وتمجيده لأبطال الرواية في خروجهم عن المألوف وعن الإطار الأخلاقي التي يضعها لهم المجتمع.
خليل الكافر، عيسى ابن الإنسان، الأجنحة المنكسرة وحديقة النبي والكثير غيرها كانت ثورةً قيمية وفلسفية حقيقية في وجه التقليدي والماضوي المظلم ومفتاحًا يؤسس لإصلاحٍ دينيٍ يتأخر عنه واقع المجتمع الشرقي قرونًا في حين كان قد انتهى منه الغرب ومضى يشق طريق خلوده ورخائه الحضاري، والذي للأسف مازالت المجتمعات الناطقة بالعربية تقبع في قيود وسلاسل هذا التقليدي بعد مرور قرنٍ من الزمان عليها وعلى حركة جبران ورفاقه في المهجر.
من جهةٍ أخرى وبتأريخ بعض النقاد العرب ينتهي العصر الحديث في تاريخ الأدب العربي مع النكسة العربية ستينيات القرن الماضي، والذي كان أدب المهجر مكونًا أساسيًا لها كان قد انتهى بعد تفكك رابطة المهجر ووفاة جبران وسقوط رفاقه تباعًا بعد 11 عامًا من عطائها، إلا أن لثورتها على القديم نكسةً أخرى خاصةً بها وهي ما سمي بالصحوة الإسلامية نهاية سبعينات القرن الماضي.
الصحوة الإسلامية وظهور الإسلام التقليدي في مشاريع سياسية مختلفة أعاق جهود الأدب المهجري ومحاولته انتشال المجتمع العربي من واقعه المتأخر في السباق الحضاري الجاري من حوله، بمثابة قيم المعبد وسطوته السياسية والاجتماعية على الوعي العربي أهم أسباب تخلفه وتأخره أمام الأمم الأخرى.
في وقتنا الحالي، مسمى “المهجريون” و”أدب المهجر” أصبح أقرب للتعريف بأدباء العربية المهجرين والمنفيين واللاجئين في مختلف بقاع العالم بعد أن كان عنوانًا يعرف به أعضاء الرابطة القلمية في نيويورك أو أقرانهم في رابطة البرازيل، وهم الآن في هذه اللحظة أمام امتحانٍ أصعب في مواصلة هذه الثورة المهجرية في مجتمعاتهم الأم والعودة من حيث بدأ جبران ورفاقه.