“إلى سدرة المنتهى رحيلك يا معلم الذي علّم الإعجاز تحطمت به سفينة العمر على صخرة الموت فحقّ للأجيال أن تبكيه، وأن ترثيه، وأن تفتقده راحلاً على جناح غمامة بيضاء إلى سدرة المنتهى”.
هكذا كتب حنا مينة لجريدة السفير في رحيل سهيل إدريس ، إلى جانب جملة من الكتاب والشعراء والفنانين الذين رثوه بحرقة، ولعل نظرة بسيطة على ما نشرته السفير في رحيل سهيل إدريس كافية لنعي أننا أمام شخص استثنائي. إن الحديث عن سهيل إدريس أو سرد بعضٍ من فصول حياته ليس بالعملية السهلة أو الميكانيكية البسيطة.
غادرنا سهيل إدريس في التاسع عشر من فبراير سنة 2008 عن عمر يناهز 83 سنة، كانت مكللة بالكد والعطاء والإسهامات المنقطعة النظير في الساحة الثقافية العربية، فهو قامة أدبية وثقافية وسياسية ستظل موجودة بوجود الأفكار التي دافع عنها والتي نظّر لها وانحاز إلى صفها.
ولد سهيل إدريس ببيروت سنة 1925، درس بكلية الشريعة وتخرج منها شيخا ورجل فقه، لكن بعد تخرجه سنة 1940، سافر ليتابع تعلمه في باريس قصد التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي في جامعة السربون، ومع هذا الطريق الجديد سيطرت عليه غواية الأدب العربي وبدأ مع هذا البحث يلين الغطاء الديني لتتجلى غواية الأدب فيه أكثر ليكتب إثر عودته من باريس “الحي اللاتيني” التي تعد الأثر الذي خط فيه تجربته التي تشبه جل تجارب أدباء المهجر تلك التي تميزت بالتجاذبات وبالثنائيات بين الشرق والغرب، بين الغربة والوطن، بين التحرر والكبت، هذه الثنائيات التي حددت الإطار الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية والتي تؤرِّخ لصاحبها ولجل التجارب المشابهة، والتي قال عنها، أي الرواية، نجيب محفوظ في جريدة النهار أنها معلم من معالم الرواية العربية الحديثة. كما قال أحمد كمال زكي إن سهيل إدريس استطاع أن يجعل النفس الإنسانية مسرحا للصراع بين بيروت وباريس، بين الشرق والغرب: الشرق بأديانه وأخلاقه وتقاليده وصموده ورغبته في التحرر، والغرب بتقدمه وتحرره وثقافته، وبنزعته الاستعمارية أيضا.
نهل صاحبنا من التيارات الفلسفية الغربية وسبر أغوارها، خاصة التيارات الوجودية، عبر جريدة les temps modernes التي كان يديرها جون بول سارتر آنذاك، وعبر القراءات وعبر الاحتكاك المباشر مع عديد الأعلام، ومن خلال الترجمات، وهو ما أثر في فكره وكتاباته فيما بعد. أنشأ كاتبنا مجلة الآداب سنة 1953 بالاشتراك مع بهيج عثمان ومنير البعلبكي وآخرين، ثم تفرد بالمجلة سنة 1956، وفي السنة نفسها أسس دار الآداب رفقة نزار قباني الذي اضطر أن يترك الدار بسبب اجتياح الوزارة الخارجية السورية.
قال سهيل إدريس عن دار النشر تلك في إحدى اللقاءات التلفزية أنها تأسست لتغطي خسائر المجلة؛ ذلك أن مجلة الآداب ليست ممولة من أحد وأنه يرفض التمويلات للحفاظ على حرية الخط التحريري للمجلة. وعمل كاتبنا أيضا في سلك التعليم مدرسا للغة العربية والنقد والترجمة في عدة جامعات ومعاهد. وأسس اتحاد الكتاب اللبنانيين مع قسطنطين زريق ومغيزل ومنير البعلبكي وأدونيس، وانتُخِب أمينا عاما لهذا الاتحاد لأربع دورات متتالية.
في رصيده العديد من الإنتاجات الأدبية بين الرواية والقصص والمسرحيات والدراسات، من أهم أعماله: أصابعنا التي تحترق، الحي اللاتيني، معجم المنهل، كما ترجم “الغثيان” لجون بول سارتر، و”الطاعون” لألبير كامو، والسيرة الذاتية لسارتر، بالإضافة إلى حوالي (20) كتاب مترجم بين دراسات وروايات وقصص.
نحن بصدد كاتب استثنائي استطاع أن يمزج بين تكوينه الديني وبين ما حصله في السربون من معارف بالفلسفة الوجودية ليخرج لنا في نموذج المثقف الملتزم المنتمي لبيئته، المنغمس في قضاياه الحقيقية مشتبكا معها، دون أن تجعل منه الفلسفة الوجودية بالونا يطير بعيدا عن الواقع ودون أن يجذبه التكوين الديني لما تحت الأرض وإلى عوالم الغيب.
فكان نموذجًا للثقافة المتكاملة المتوازنة فهو طالب عربي تحصل على تعليم تقليدي تمكن من خلاله من إتقان لغته وآدابها ثم يكمل تعليمه في فرنسا بالذات، التي كانت وجهة لطالبي العلم والتي أسهمت في تكوين العديد من المفكرين والفلاسفة نظرا للمكانة التي كانت تقدمها للعلماء وللعلم، ثم إنّ صاحبنا لم يكن مجرد روائي عادي (وهو روائي ممتاز) بل كان أيضا صاحب قضية ورسالة، هذه الرسالة والقضية التي بلورها صلب مجلة الآداب، وبعد ذلك في دار النشر التي تميزت بمضمونها العصري المستنير المتشبث بجذوره والمنفتح على القيم الإنسانية في بعدها الكوني والوجودي. أما سياسيا فقد تبنى الفكر العروبي ولعل عدم اندماجه في السياسة بمعناها العملي الحزبي هو ما جعله ينجو من السقطات والعثرات التي يتعثر بها ممتهنو السياسة الذين عاصروه.
وقد كان عنصرا فاعلا من العناصر التي جعلت لبنان يلعب دورا ثقافيا طليعيا على المستوى العربي في النصف الثاني القرن العشرين، ذلك إن سهيل إدريس كان من الذين أدخلوا العنصر العربي أو العروبي في العملية الثقافية التقدمية، ثقافة قادرة على الأخذ من الفلسفات والثقافات الكونية ما يُمَكِّنها من التوغل في واقعها وتحليله تحليلا قادرا على حلحلة الأزمات، وقادرا على إنتاج شكل ثقافي أصيل ومتجدد ومتحرر دون أن يتم إفراغه من محتواه المحلي العميق الذي يربطه بهويته وبالتالي تمثله الوجودي التاريخي والجغرافي، ثقافة تنتمي لجغرافية عربية في زمن معين، لتكون مقاومة زمن الحروب والطغيان وتنتج أشكالا ثقافية مقاومة مثلها، متبلورة في شتى التعبيرات الثقافية من القصة والقصيدة والأغنية دون أن ينفي الالتزام بالقضايا الواقعية، انتماءها للكوني والعالمي …
ومثل سائر أدباء المهجر الذين حملوا معهم الهم الوطني والعربي إجمالا إلى الغرب وحملوا معهم صورة هذا الوطن هناك وبلوروا الصور التي أرادوها لهذا الوطن فإن سهيل إدريس حمل لبنان بين طياته وكان يتجول معه في الحارات الباريسية وحين عاد للوطن أخذ معه الفلسفة الوجودية التي مزجها بعروبته لينحت بها ومنها ومن خلالها ملامح الوطن الذي يريده والذي يطمح إليه، فصب هذه الملامح في مشروع كامل متكامل من الأدب والكلمة الحرة وكرس حياته كاملة في سبيله.
في البدء كانت مجلة الآداب، ومن بعدها دار الآداب، مشروع يحمل ملامح وطن حر، رايته الكلمة الحرة. وهنا لا نستغرب من أنه كان يوصف بـ”المؤسسة الثقافية” العريقة والمتجددة، ففي حوار معه نشرته القدس العربي، سألته “يمنى العيد”: هل تعتبر هذا المشروع بمثابة رسالة؟ وكان جوابه: “نعم، هو رسالة واعية حملتها معي، من باريس، بعد تعرّفي إلى ثقافة الغرب، وبشكل خاصّ إلى فلسفة سارتر الوجوديّة، وذلك من منطلق حرصي على “إبراز الأدب الجديد الواعي الذي يستمد حرارته من أرضنا”. وجعلت من صفحات مجلة “الآداب” مساحةً لحضور الأقلام المبدعة، والأقلام الواعدة، ولكلِّ فكر يناقش ويطرح الأسئلة، ويكشف بجرأة ما غرق في عتمة القمع، وحرمتْه الرقابةُ من الإفصاح. الهويّة العربيّة هي هويّتُنا، والالتزام بقضايا الواقع العربي لا يعني انغلاقاً على الذات، أو موقفاً عنصريّا عدائيّاً من الآخر، أو تمسّكاً أعمى بالتراث، أو إنتاجاً أدبيّاً على حساب حريّة الصنيع الفني الذي هو من شأن المبدعين، كما هو من صميم حريّتهم. هذا الموقف الفكري يتمثّل عمليّاً، بالنسبة لي، في نشر مقالات المبدعين في المجلة، وإصدار كتبهم عن دار الآداب إضافة إلى احتضانهم ومتابعتهم. يكفي أن أشير إلى الروائي الكبير حنا مينة الذي لازم الدار، وإلى الشاعر العظيم نزار قباني الذي التزم، لفترة طويلة، بنشر دواوينه في دار الآداب.”
ومن خلال هذه الإجابة تبين طينة الرجل المبنية بالحروف والكلمات، هذا الرجل الموسوعي بامتياز والجدير بالملاحظة أن إجابته لم تكن مجرد سرد مغرور، بل هذا ما بلوره طيلة حياته في ذلك المشروع الضخم الذي يحمل ملامح “للوطن الحلم” الوطن الآخر الكبير المحرر المبدع المنتج الحصين ضد الرجعية وضد الطائفية والعنف والإرهاب.