رواية لعالم شديد الذاتية، بطل يلعب دور الراوي، والعالم أجمع يتمحور حوله، وأفق موضوعات حساسة عن التدين ووجود الله ، والأخلاق، وهوية الفرد في الحياة، وبين هذه الخطوط كانت صفحات رواية “وداعا أيتها السماء” للكاتب وباحث الدراسات الإسلامية حامد عبد الصمد ، وعند التعامل مع هذه الرواية نقديًا، يجب فهم طبيعة الأدب الذي تقدم، إذ تميل الرواية لغلبة الأفكار على الأحداث، فتطرح الرواية آراء واضحة عن الحياة والناس في مصر وألمانيا واليابان بشكل مباشر، مما ينهي أنها نوع من الكتابة الذاتية الصرفة، عن محطات هامة في حياة بطل الرواية وأسئلة وجودية عن ماهية هذا البطل الذي لا يمكنه الاندماج التام، بين أهل الريف ولا المدينة في مصر، كما لم تفارقه مشاعره حتى مع السفر لبلاد الفلسفة كألمانيا، أو بلاد الروحانيات كاليابان.
تتسم الرواية في كل أجزائها بطابع أنثروبولوجي، إذ يوجد وصف لحياة الناس في البلدان التي يزورها البطل، ويخيم على هذا الوصف روح الصدمة، فالناس في الريف لديهم أساطيرهم الخاصة عن طبيعة أهل البلد، فهم لا يسرقون وبناتهن لا يمارسن الدعارة، على عكس أهل البلاد المجاورة، فكل الشرور تأتي من الخارج، أما أهل المدينة كالقاهرة، فهم يحيون في قسوة صارمة، وكأن اسم المدينة هكذا لأنها تقهر أهلها، وقد تعرض شاكر –بطل الرواية- لحادثة اغتصاب في صغره من أحد الأطفال العاملين بالورش، وهي الحادثة التي لم ينسَها طيلة رحلته، كما أن الناس في ألمانيا لا يختلفون كثيرًا، فالموظف المصري بسفارة ألمانيا في القاهرة كان يستميت من أجل عرقلة سفر شاكر إلى الخارج، بينما موظف المطار الألماني ينظر لشاكر نظرة تقول على حسب وصفه: “أنت إيه اللي جابك، هي المشرحة ناقصة قتلى”. وكأن البيروقراطية لا ترحب بشاكر في أي مكان.
تبدأ الرواية بوصف طوابير المصريين ليلاً في انتظار بدء العمل بسفارة ألمانيا صباحًا وكأن الجميع يفكر بالهجرة، لدرجة وصف شاكر لسفارة ألمانيا بسفارة النجاة، وبالرغم من سوء الأحوال في مصر، يذكر البطل أن المصريين يتحايلون على البطالة بسبب عدم حبهم لكلمة عاطل، كأن يقف أحدهم بجانب هذه الطوابير أمام السفارة ويبيع الشاي، ويشير شاكر لنظرة ابن عمه عن فجر الفتيات الغربيات، وهو نفس ما يشاع بين أهل القرية عن فجر بنات البندر، وكأن الرواية تشير لعدة مركزيات ثقافية، تحط من قدر كل ما هو خارجها، حتى لو كان ممثل تلك المركزية هامش بالريف.
تبدأ الصدمة الحقيقية لشاكر عند الذهاب لألمانيا، إذ أن الألمان ليسوا زرقي العيون ولا شقري الشعر ولا حتى طوال القامة، فتفاجأ أمام حقيقة أن الألمان بشعر بني وعيون داكنة، كما لم يجد الفلاسفة بالشوارع، بل وجد القمامة والمشردين، مما جعله يشعر أن كل بقاع العالم بقعة واحدة تختلف شكلاً إلا أنها تحمل المضمون نفسه في النهاية، من درجات الحياة العادية وظلم القهر وعدم الراحة، ورغم الوصف السلبي والطبيعة المتناقضة للناس بألمانيا ومصر، يذهب شاكر إلى درجة حياد تجعله يسحب الأحكام نفسها على نفسه أيضًا، حين التقى بفتاة أجنبية في مطار القاهرة اعتقدت أنه يختلف عن بقية المصريين ولم يرغب في أخذ الهدايا منها، لكنه اعترف أن معاملته الجديدة كان سببها رغبته في الذهاب بها إلى إحدى الفنادق الفاخرة وأخذ عمولة 25% على كل ليلة تقضيها بالفندق.
لم يفارق شاكر في ألمانيا النفاق الذي ادعاه بالقاهرة أمام الفتاة الأجنبية، وظل بألمانيا يدعي التدين والأخلاق، كان يمارس النفاق بشدة، كان يقضي الليل يشاهد أفلام البورن ويدفع للعاهرات عبر التلفون دون أن تدري زوجته، وكأن هناك تناقضا شخصيا لا يمكن تسويته داخل شاكر نفسه أو داخل الآخرين حسب رؤيته لهم، وفي هذه الأثناء يحاول شاكر الاندماج مع ثقافة الألمان إلّا أن ذلك ينقله لصدمة جديدة إذ يصاب بانزلاق غضروفي على أقل محاولة للتزلج على الجليد، كما أن محاولته الاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية الألمانية لم تكن أبدًا مجدية، فكما لم يستطع أن يكون ريفيا، لم يستطع أن يكون قاهريًا، ثم يتكرر الشيء ذاته، فلا يمكنه أيضًا الحياة كالألمان.
يعيش شاكر حالة من الهوس الجنسي، إذ لم يتعرض في صغره للاعتداء الجنسي مرة واحدة بل مرتين، مرة قبل أن يدخل المدرسة عن طريق إحدى الصبيان “الصنايعية”، ومرة أخرى بالمدرسة من زملائه مجتمعين بالتناوب في الاعتداء عليه، جعلت هذه التجارب آلام الهوية أشد صراعًا داخله، فهو لم يكن يعرف إلى أي مكان أو ثقافة ينتمي، إذ يراه أطفال القرية صليبيًا، وهو في نظر أهل المدينة ريفي، وفي نظر الألمان عربي مسلم، ولكنه حقًا لم يكن يعرف من يكون؟ وإلى أي ثقافة ينتمي؟ وحتى جنسيًا، بسبب أحداث الاعتداء تلك، أصبح يشعر بالانجذاب للأطفال، وقد حاول في مرة الاعتداء على طفل ولكنه تراجع في اللحظات الأخيرة، كما أنه كان شديد الانجذاب سريع الهياج تجاه النساء، وكان في نفسه شعور بنقص يحاول إثبات عكسه، يسعى دومًا لتأكيد رجولته، ليتعمق صراعه الهوياتي وينتقل حتى إلى الميل الجنسي، فلم يعد واثق تمامًا، من هويته الجنسية دائمًا.
لا تحتوي الرواية على بناء درامي متكامل، فكل الفصول سرديات شخصية للبطل، الذي يعاني من صراع الهوية وعدم الشعور بالانتماء، ويمكننا تحديده عدة سمات تحرك البطل وتشكل سلوكياته، على رأسها دور الأب القاسي رجل الدين المؤثر اجتماعيًا بين أهل القرية، لدرجة أن شاكر كان يربط بين قوة وصرامة والده وقوة وصرامة الله في البطش والعقاب، والطبيعي حين تكن ابنًا لشيخ ستسيطر الأجواء الدينية بكل مثالياتها على حياة الابن، الذي يتفاجأ بوجود الحشيش في درج أخيه، بل أن والده أيضًا يتعاطى هو الآخر الحشيش، كانت مثل هذه الصدمات أمرا دائما في رحلة شاكر أثناء بحثه عن الله ، إذ يصطدم دومًا بتناقضات الواقع مع استقامة الأفكار، وكأنها معاناة تغلف الحياة، ثمة غياب للكمال، وكان هذا الغياب هو المحرك الرئيسي في رحلة بحثه عن الله .
الرواية أشبه باعترافات جان جاك روسو أو مذكرات لويس بونويل، تتميز بجرأة البطل في تعرية ذاته والتعبير عن أخطائه والشعور بالنقص، ولكنّ بها جانبا أيدلوجيًّا يرفض ثقافة مجتمعه، إذ إن هناك حوارات كثيرة وأحداثًا داخلها تدور حول موضوعات اجتماعية وقضايا هامة كختان الإناث والذكور، ومفهوم الشرف وحصره في جسد المرأة، بخلاف الهوس الجنسي، المتمثل في تطلعات وأفعال شاكر وأجزاء من حياته تعرض فيها للاغتصاب مرة بالشارع والأخرى بالمدرسة، كما سرد طبيعة التنمر بين الأطفال كأمر معتاد وجزء من ثقافة عامة تقوم على القهر، إذ يرى شاكر أن النساء لسن مقهورات تمامًا، وأن بعضهن داخل القرى يقدن الرجال، إلا أن ثقافة الناس مركبة تعتمد على قهر متبادل للأضعف دائمًا، وهذا ما رآه شاكر في تعرضه للاغتصاب خارج البيت، وضربه من والده داخل البيت.
لقد كان شاكر متقلبًا دائمًا لا يجد أرضًا صلبة يثبت أقدامه عليها، ومن حفظ القرآن لحب الصوفيين للبحث عن الله، ومجاراة الماركسيين، والانضمام إلى الإخوان المسلمين، ثم السفر إلى ألمانيا ومن ألمانيا الهروب الصغير إلى اليابان، ثم العودة بين هنا وهناك، لم يجد شاكر نفسه في كل هذا الهروب، لم يستطع مواجهة والده بحقيقة ما يحمل من مشاكل داخله، لا يمكنه حل شيء، إلا لوم نفسه، لوم الآخرين لوم الحياة، كان بائسًا لدرجة عدم الانتماء لأي شيء، يبحث عن الله لينقذه من كل هذا الضياع في العالم والأشياء، فأينما ذهب وكيفما فكر، كان لا يجد إلا ألم، ونقص ومعاناة. وكان سؤاله الغاضب دوما أين كان الله حين تعرض للاغتصاب.