منذ أكثر من شهرين، وعلى إثر تغريدةخبر صحفي، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر حول “عفو” سلطانيا أصدره السلطان الحالي في عمان ، هيثم بن طارق، عن بعض اللاجئين المقيمين في المملكة المتحدة. تبع هذه التغريدةالخبر لاحقا مجموعة من الأسماء التي تم تقديمها على أنها الأسماء التي شملها العفو! وكغيري من المتابعين أو الناشطين في تويتر، وجدت اسمي في هذه القائمة! كان أن حدث الأمر نفسه، أو بالأصح والأدق، انتشرت الشائعة نفسها في إبريل الماضي من هذا العام، وازدحام الرسائل في حساباتي في مواقع التواصل الاجتماعي اضطرّني إلى كتابة تعليق بسيط حول الأمر حينها في إبريل، الأمر نفسه تكرر في يوليو!
تتابعت الأخبار لاحقا لنرى صورا لاثنين من اللاجئين العمانيين وقد عادا فعلا إلى عمان. قبل الدخول في نقاش مسألة العفو، أودّ التطرق إلى نقطة مهمة، وهي مقدار الضغط النفسي الذي قد يمرّ به الأقارب حالة تداول أخبار كهذه، ودور الآخرين، بصورة متعمدة أو عفوية، في المساهمة في هذا الضغط والتلاعب بالمشاعر مما قد يؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب على الجانب الصحي، أو ازدياد الضغط على الشخص اللاجئ من أجل إقناعه بقبول “العفو”، حتى وإن كان لا حقيقة له، طالما هناك ضمان بعدم التعرض قانونيا لهذا الشخص بعد العودة.
العفو: نظرة عن كثب
لربما المراقب القريب لمدى تلاعب أجهزة الأمن الداخلي ودورها الرئيسي في نشر الإشاعات، رغبة منها في جس نبض الشارع حول أمر ما من جهة، ومن جهة التهيئة لما سيأتي بعد؛ يعلم تماما أن هكذا إشاعات لها ما بعدها. وبالعودة إلى إبريل 2020، حينما ظهرت قائمة “تويترية” تفيد أن المذكورة أسماؤهم قد شملهم عفو سيصدر أو صدر من السلطان الحالي. هذه الإشاعة كانت كفيلة بأن تعطي نوعا من الأمل لهؤلاء الذين تركوا عمان لأسباب قد تكون معلومة، ولكنهم وصلوا إلى مرحلة من اليأس والملل التي أصبحوا ينتظرون فيها فرصة بفارغ الصبر للعودة إلى عمان. وهنا، لا بد من التنبيه، أن مسألة العودة إلى أي بلد، هو حق مشروع لأي فرد، طالما أنه ينتمي لذلك البلد سواء من جهة مسقط الرأس أو الانتماء الجغرافي أو غير ذلك.
لكن توقيت العفو، سواء الإشاعة التي خرجت من رحم تويتر سابقا في إبريل، أدت غرضها إلى فتح باب تواصل بين بعض اللاجئين في المملكة والمتحدة والسفارة، من أجل الترتيب والاتفاق على إجراءات العودة. وهو ما تبعه بعدها “خبر” أُريد له أن يكون من “مصادر خاصة” حتى لا يأتي على شاكلة خبر رسمي، أو ربما كي لا يكون صاحبه متهما بالمساهمة في الترويج لنشر إشاعات جهاز “الأمن الداخلي” من جهة، ومن جهة أخرى، إن لم يُصب الخبر الحقيقة كلها، فإنه قد أصاب بعضها.
ولعل السلطان الحالي، ورغبة منه إلى منع أي تشويش من خارج عمان لمسيرة حكمه الحالية، وربما، أقول ربما، سعيا منه كذلك إلى فتح صفحة جديدة مع جميع المعارضين له، سواء في الخارج أو في الداخل، فإنه قد وجه إلى اتخاذ هكذا خطوات. ولكن بالتأكيد، أنه لم يعطِ أو يُوجه بصدور أيّ شيء رسمي، مثلما يحدث عادة مع المعفى عنهم من السجناء، ولا حتى وسائل الإعلام الرسمية أوضحت الأمر من بعيد أو من قريب أن السلطان الحالي سعى لهذا الأمر أو أمر به. مما يقودنا إلى استنتاج أن الأمر لا يعدو أكثر من مجرد محاولة فردية لبعض المسؤولين من أجل حسم أمر اللاجئينالمعارضين، سواء كان هذا التوجه بحسن نية الغاية منه فعلا عودة كل عماني لأرضه للمساهمة في بنائها، أو الغرض هو التخلص من أي صداع تسبب به المعارضون أو قد يتسببون به في المستقبل. كما لا نستطيع النفي، أن ما أسهم في وجود هذا المسعى وإنجازه هو رغبة دفينة ومتينة للعودة لدى البعض بقبول الشروط مهما كانت طالما أنهم بعيدون عن أي ملاحقة قضائية أو تداعيات أمنية. مع التذكير، أو البناء على نقطة أهم، هو سعي بعض هؤلاء إلى التواصل طواعية مع السلطة رغبة منهم إلى للعودة دو أن يكون عليهم أي تداعيات أمنية تنتج إلى اعتقالهم فور عودتهم، مع الوعد بالتوقف عن متابعة نشاطهم الذي اعتادوا ممارسته وهم في الخارج. وكذلك، حذف كل المحتويات في الفضاء الإلكتروني التي تشكل انتقادا أو معارضة للحكومة.
العفو: مقاربة
لكن السؤال الأهم، هل العفو صحيح قانونا ومنطقا؟ بمعنى: هل الذين يشملهم العفو، أخطأوا أو ارتكبوا جرما ليتم العفو عنهم؟ وهل نوع النشاط الذي تركوا بلادهم بسببه بعد أن تعرضوا للاعتقال والاضطهاد، أصبح مسموحا به ولا يعتبر القائم به مجرما في نظر القانون؟
العفو، يكون لمن أخطأ نعم. بمعنى، أنه لو كان الفرد هنا هو شخص ارتكب خطأ أو جناية يحاسب عليها القانون، والتي على إثرها وقع ضرر على فردأفراد معينين، أو أي جناية قانونية، فالعفو هنا، عاما أو خاصا، يخصهم. مثلما نرى العفو الذي يصدر عادة كل عام عن المساجين. لكن، كذلك لا بد لنا من التوقف على نوع التهم التي اعتقل بسببها هؤلاء، مثل التهم المتعلقة بالرأي وحقوق الإنسان، فهي ليست أخطاء ولا جنايات، حتى بموجبها يتم الاعتقال والحكم بالسجن، أو العفو عن صاحبها لاحقا.
وأنا شخصيا، ومن خلال نشاطي سواء الذي بدأ بصورة كتابية منذ أكثر من عقد من الزمن، أو على صورة تظاهر واحتجاج وغير ذلك، منذ 2011، لا أرى في ذلك خطأ بل حقا من حقوقي الطبيعية والفطرية والإنسانية. انتقاد الحاكم والمطالبة بالتغيير أو الإصلاح السياسي وغيرها من الأمور، حقوق متأصلة، لا يحق للسلطة ولا حتى المجتمع أن يحاسبني عليها ولا أن أُعتقل بسببها.
لذلك، كان السؤال: هل هذا يعني أن اللاجئ أو المعارض يستطيع العودة إلى بلده والنشاط من الداخل؟ إذا كان الأمر غير ذلك، فلماذا يتم تصوير الأمر على أنه “عفو”؟ أو، هل يعتقد الحاكم الحالي أو النظام، أن هؤلاء المعارضين فعلا أخطأوا من خلال مطالبتهم بالتغيير والإصلاح السياسي وتعديل القوانين بما يسمح بسماء حر للتعبير.
إذا كان المعارض، أي معارض، يستطيع العودة اليوم إلى بلده، والنشاط من الداخل بنفس حدة النشاط التي ينتهجها حاليا من الخارج، فلا بد من التسليم أن هناك إصلاحا ما حدث، وأن سقف الحريات الذي لطالما قيدته السلطة في عصر قابوس بالقوانين والملاحقات الأمنية، أصبح في عصر “هيثم” مفتوحا دون قيود! لكننا نعلم تماما أن هذا غير صحيح البتّة، خاصة مع الاعتقالات أو الاستدعاءات التي شهدتها عمان منذ أن تولى هيثم السلطة، بالإضافة إلى قانون الأمن الداخلي الذي شرّع انتهاكات جهاز الأمني التي لطالما شهدت إدانة من ناشطي الداخلالخارج، أو حتى المنظمات الدولية الحقوقية.
كما أنني لا أستطيع تجاهل انضمام السلطنة مؤخرا إلى عدد من الاتفاقيات، منها العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واتفاقية الاختفاء القسري، إلا أننا نعلم تماما أن تطبيق هذه الاتفاقيات تواجهه عراقيل كثيرة متمثلة بالقوانين المحلية مثل قانون الجزاء العماني أو قانون العمل. وللأسف، أداء السلطة منذ تولي هيثم، ومحاولة إسكات الصوت المعارض، أو حتى المطالب بالإصلاح والتغيير الجذري في شكل نظام الحكم، يجعلنا لا نتحفظ قليلاكثيرا حول مدى نية السلطة إلى احتضان وتطبيق بنود هذه الاتفاقيات.
خلاصة:
العفو ليس أمرا مهما طالما أنه فارغ من محتواه. فأنت لا تستطيع أن تصدر عفوا عمّن لم يرتبكوا خطأ بالأساس، كان من الأفضل أن يتم العمل على تعديلتغييرإصلاح القوانين التي دفعت بالمعارضين إلى الخروج من عمان واحترام الحقوق والحريات وصيانتها بالقوانين والتطبيق. كذلك، اللعبة التي تمارسها السلطة الحالية أو نظام هيثم، هي من أجل الظهور بثوب الضحية أكثر منه السعي إلى بدء صفحة جديدة. ذلك أن الظهور بثوب الضحية يجعل المعارضين في موضع الشك، أو أنهم هم من يرفض الإصلاح وأنهم لا يسعون إلا لأهدافهم الخاصة.
النظام العماني نظام مستبد، تغير الأسماء أو المشهد السياسي لا يغير من حقيقة الاستبداد أنه واقع. فتح صفحة جديدة يكون عبر الاعتراف بالخطأ في الماضي والحاضر، الاعتذار عن هذا الخطأ ومن ثم القيام بتغييراستحداثإصلاح القوانين بما يتيح تأسيس أرضية صلبة وحقيقية ملموسة للحقوق والحريات العامة، وليس التغني بشعارات جوفاء في حين أن الواقع يعكس ما هو غير ذلك.