“أنت لست لوحدك في هذا البلد، ولذا لا تفرض على أحد رؤيتك وطريقتك في الحكم” حديثٌ للدكتور الراحل أحمد شرف الدين، عضو مؤتمر الحوار الوطني اليمني عن جماعة الحوثيين، مازال صداه يتردد في ذاكرة اليمنيين، فقد كان خطاب الدولة المدنية لأحد جماعات الإسلام السياسي والجهادي مثيرًا للجدل، وجعل الجمهورية تقف على قدمٍ واحدةٍ من وقع مشروع جماعة أنصار الله الحوثيين، فحزب الإصلاح الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن كان أكثر المدافعين عن مشروع الدولة الإسلامية وأصدر رموزه الفتاوى ولوحوا بتهديداتٍ دموية تجاه القوى السياسية إلى أن سقط الدكتور أحمد شرف الدين مغتالًا على أيدي مجهولين في أحد شوارع العاصمة صنعاء.
تقف أمام عملية السلام في اليمن وصناعة استقرارٍ مستدام الكثير من العوائق التي يحتاج اليمنيون لتجاوزها إن وجدت رغبةٌ حقيقيةٌ لدى القوى السياسية البارزة في الصراع، فالامتداد الخارجي لطبيعة الصراع اليمني الذي حولها لمنطقة تنافسٍ إقليميٍ على النفوذ وساحة حربٍ خارجية واحدٌ من أهم هذه الأسباب المعيقة لإيقاع أي عملية سلامٍ وستبقى كذلك مزعزعةً لاستقرار البلاد مستقبلًا، فبقاؤها على هذا الحال يعني استمرار الأسباب المهددة للمنطقة والقوى الفاعلة فيها، والذي سيبادل بنفس السياسة العدائية تجاه الدولة اليمنية مهما كان انحياز موقفها مستقبلًا.
استقلالية القرار والموقف من الصراع الإقليمي
كثيرٌ من البلدان غير المستقرة عقب تحولاتٍ سياسية حولتها لساحة صراعٍ وتنافسٍ دوليٍ على النفوذ، فأفغانستان والعراق تعتبر نماذج حيةٍ على ذلك، وبذات النمط تتمثل مشكلة الأزمة اليمنية، ولكن بشكلٍ أسوأ في تحول البلاد إلى ساحة تنافسٍ للقوى الإقليمية في المنطقة، والذي يعني في واقع اليمن استمرار تدوير الحرب واستهلاك القوى المحلية ضمن صراع التنافس الخارجي.
التحول الديمقراطي للأنظمة أثبت في كثيرٍ من التجارب العالمية نجاحه في استعادة السيادة الوطنية وكبح جماح التنافس الإقليمي والدولي في الداخل، حيث يتحدث عن ذلك صامويل هنتنغتون بأن الدول الديمقراطية ستكون أكثر استقلالية من التبعية للقوى الخارجية، ولذا تستمر القوى العظمى في الحفاظ على أنظمةٍ سلطوية واستبدادية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم لضمان استمرار تبعيتها وحفظ نفوذها في هذه الدول.
مثالًا على ذلك، دول الخليج تعتبر القوى الإقليمية الأقرب للولايات المتحدة، ولذا تحافظ واشنطن على شكل أنظمة الحكم الحالية فيها لضمان بقاء نفوذها في المنطقة، فيما هو النظام السوري يضمن نفوذ موسكو في دعمها لبقاء النظام السلطوي في دمشق، وتعلم هذه القوى أن حدوث تحولٍ ديمقراطيٍ في هذه البلدان لن يسفر عن حلفاء أو أتباع، بل دول أكثر شفافيةً مع شعوبها، ما يعني أكثر استقلاليةٍ في القرار وأقرب للرقابة الشعبية.
ولذا فإن تحقق تجربةٍ ديمقراطيةٍ مستقرةٍ في اليمن يعني نجاحها المبدئي في تحقيق استقلال قرارها السياسي الداخلي وصناعة سياسةٍ خارجيةٍ متوازنة وتقف على مسافةٍ واحدةٍ من كل القوى الإقليمية، بالرغم من أن الولاءات العابرة للحدود للقوى السياسية المحلية تشكل عائقًا أمام نجاح أي عمليةٍ ديمقراطية أو إدارة ملف السياسة الخارجية بشكلٍ متوازنٍ وعبر الدولة وحدها، وهنا تبرز الحاجة للدولة العلمانية المدنية لتجاوز هذا العائق من استغلال السلطة أيديولوجيًا وإعادة عملية السلام لمربعها الأول.
الدولة المدنية هي الخطوة الأولى في تحقيق تجربةٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ في اليمن، فهي ستمنح جوًا حياديًا أمام الصراع الأيديولوجي للقوى المحلية وتوفر مناخًا أفضل للحرية بطريقةٍ سلمية بعيدًا عن الصراعات الدموية، كما أنها ستضمن حيادية الدولة وتوازن علاقاتها الخارجية في كل انتقالٍ ديمقراطي للسلطة.
التحيز الأيديولوجي للقوى السياسية
العائق الآخر أمام الانخراط في عملية سلامٍ وتحولٍ ديمقراطيٍ في اليمن هو تحيز القوى الرجعية الأيديولوجي في البلد، ورفضها فكرة الدولة العلمانية المدنية بوصفها تتعارض مع أيديولوجيتها السياسية، وخصوصا قوى الإسلام السياسي، حيث تتفق قوى الإٍسلام السياسي رغم صراعاتها على إسلامية الدولة وتختلف في تأويلاتها الخاصة للإسلام وتسعى لفرض رؤيتها وسيطرتها على أجهزة الدولة وحصرها بيدها، بالإضافة لتمثيلها امتدادت مشروعاتٍ أيديولوجية خارجية.
ومن الملاحظ أن معظم هذه القوى لا تقبل بخيار الدولة المدنية إلا في حالة الضعف، يقينًا منها بقدرتها على توفير الحماية وحرية التحرك لها كأقلية أو قوة مستضعفة أمام القوى السياسية الأخرى، وهو ما خرج في مشاريع الفرق السياسية ضمن مؤتمر الحوار الوطني التي أجمعت على خيار الدولة المدنية ما عدا حزب الإصلاح، جماعة إخوان مسلمين اليمن، والتي كانت ترى بقاءها في موقع قوةٍ بعد سيطرتها على مفاصل الدولة عقب أحداث الربيع العربي والمبادرة الخليجية لانتقال السلطة وحل الأزمة اليمنية يعني أنها في غير حاجةٍ لنظام دولةٍ محايد وإنما نظام دولةٍ يعكس أيديولوجيتها الإسلامية في الحكم.
أما الآن، ومع تغير موازين القوى بعد مضي خمسة أعوامٍ من الحرب، تبدو الرؤية ضبابيةً حول رغبة القوى في مناقشة مشروع الدولة المدنية رغم بقائها كحلٍ وحيد لاجتماع اليمنيين وإعادة تطبيع الأوضاع الداخلية بين القوى السياسية المحلية، حيث إن المشكلة تبدو في عدم قبول الأطراف المشاركة في عملية سياسية تتضمن الأطراف الأخرى، حيث يمضي كل طرفٍ في صناعة نموذج الدولة التي ينشدها وفق رؤية الجماعة الأيديولوجية، حيث تشرع جماعة أنصار الله الحوثيين في بناء الدولة التي ينشدونها في الشمال، وتستثمر القوى الخارجية القضية الجنوبية لصناعة تحولٍ سياسيٍ آخر يكسب القوى الجنوبية الموالية للتحالف العربي الشرعية الندية أمام حكومة الشرعية، في الوقت الذي ينشغل الإخوان المسلمون في السيطرة على هيكل حكومة هادي وجيشها، الأمر الذي قد يمسي بهم ذات يومٍ حكومةً دون أرض.
الشاهد في الأمر أن إصرار الجماعات الضيقة على احتكار السلطة والمضي في إطالة أمد الحرب أملًا في تحقيق دولهم الموعودة يدفع اليمنيون ثمنه غاليًا في الحاضر دون وجود إرادةٍ حقيقيةٍ لإنهاء الحرب والمضي في عملية سلام تهيئ لاستقلال القرار السياسي والحد من التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي ومجرياته.
مشكلة السلاح
إضافةً إلى ما سبق، تعتبر حيازة السلاح على المستوى الشعبي وبأيدي القوى السياسة خطًا فادحًا وقنبلةً موقوتةً تهدد أي عملية سلامٍ قادمة وستعيد تدوير الأحداث بخسائر أكثر فداحةً، وللأسف يبدو بأن الحلول الموضوعة حتى الآن لا تزال مبنيةً على سياسة دمج المليشيات في تشكيلات الجيش، وهو ما يعتبر خطًا فادحًا يمنع من صناعة قوة ردعٍ وطنيةٍ تؤدي دورها وفق واجباتٍ قانونيةٍ ملزمةٍ وبعيدةٍ عن أهواء ورغبات القوى السياسية، حيث إن القوى المختلفة في خارطة الصراع طبقت ذلك عمليًا عبر إعادة إنشاء جيوشها الخاصة تحت عناوين رسمية في حكومتي صنعاء وعدن.
الأسوأ من ذلك هو أن غياب دور الدولة في تجريم ومنع تجارة وتداول وحيازة السلاح المقدر بأكثر من ثمانين مليون قطعة سلاح في متناول عامة الشعب حسب إحصائيات ما قبل الحرب يوفر غطاءً لتبرير حيازة الجماعات السياسية للسلاح، والذي لن تتورع عن استخدامه لتحقيق أي تغييرٍ سياسيٍ خارج منظومة الديمقراطية والاختيار الشعبي، بالإضافة لرعاية الدولة المباشرة لكبار تجار السلاح في البلاد.
من جهةٍ أخرى، حيازة السلاح وتداوله يجعل من الوضع الأمني الداخلي مهددًا وغير مستقر، ما يعني أنه سيكون له أثر مباشر في التنمية التي تضع الأولوية الأمنية كقضيةٍ أساسية لتحققها، بالإضافة لما يحمل غياب الأمن من آثارٍ تتمثل في إعاقة دور قطاعات الاستثمار التي ستنعش الاقتصاد وتدعم نجاح التجربة الديمقراطية.
نظام القبيلة
النقطة الأخيرة هي تكرار أخطاء الأنظمة السابقة في الحكم بمركب الدولة والقبيلة، فالدولة لا يمكن أن تبنى على إرث نظام قبلي تقليدي يحكم في غياب الدولة ويتدخل في مهامها وشؤونها، فهو لن يشكل عائقًا أمام نجاح الدولة في فرض سيطرتها وتطبيق القانون، بل سيبقى عاملًا مؤثرًا في تعلق الناس بالنظام القبلي ودعمه، فيما يفقدهم الثقة في مؤسسات الدولة المدنية ويضعف من دورها، ولذا فإن أي عملية سلام تتطلب برنامجًا حكوميًا شاملًا يهيئ لانتقال المجتمع اليمني من تركيبته القبلية للمدنية.
فالقبيلة إلى جانب إعاقتها لنفوذ الدولة وتحكمها في مؤسساتها والتفافها على العملية الديمقراطية عبر فرض شخصياتٍ فاقدة للأهلية الإدارية عبر التأثير القبلي في الناخبين، تعتبر مصدر إمدادٍ بشريٍ للصراعات المسلحة شمالًا وجنوبًا ومع مختلف القوى السياسية، ما يجعل بعض القوى السياسية ترى العنف أقصر الطرق لتحقيق مصالحها.
بقاء النظام القبلي يعتبر أيضًا خطرًا أمنيًا في علاقات القبائل مع الجماعات الإرهابية، فنشاط الجماعات الإرهابية كالقاعدة بالتحديد يعمل في الغالب وفق نمط الاستقطاب الفردي في المجتمعات المتواجدة فيها، وينتهي في أغلب صورها في عملياتٍ إرهابيةٍ محدودة، لكن الوضع في اليمن يختلف كثيرًا عن ذلك، حيث تستطيع التنظيمات الإرهابية صناعة قوى عسكرية مسلحة كبيرة عبر استقطاب القبائل، وهنا تنتهي بسقوط مدن ودول في قبضة الجماعات الإرهابية كما حدث في محافظات البيضاء، أبين وحضرموت في الفترة بين 2012م-2015م، وبقاؤها حتى اللحظة مسيطرةً على الكثير من المديريات والمناطق التي تواليها قبائلها وتوفر لها الحماية في ظل غياب الدولة.
ختامًا، لا يزال مشروع الدولة المدنية هو المشروع الوحيد الذي قد يصنع استقرار اليمن ويجمع كل الفرقاء في تنافسٍ ديمقراطي بعيدًا عن ساحات الحرب الأهلية والاستعانة بالخارج، وهو ما تعرفه الكثير من القوى السياسية اليمنية رغم مواقفها الأيديولوجية التي تتبناها تجاه هذه المسألة.