تتهادى أفراح الحياة، كئيبة المنظر وسقيمة الروح، لم تسقَ بماء طهور منذ احتلال القلب لموبقات الحياة، فتناديني كلها وبعض من أحزانها الي العودة للحياة واستنشاق أكسير الوطن على شكل أوراق حارقة غصت في شراييني فأنبتت زهورا متفجرة لا تعرف للحب مكانا ولا للرائحة الجميلة عطرا. فغاصت في متاهات الظلام حريتي من أبحث عنها بكل شوق وبدون قيود أو انتحار، سائلا البراري والقفار عن وجودها أو عن أي أثر لرائحتها المجنونة وأحرفها الناثرة أحلامها فوق القباب وفوق عنان السماء.
إن العشق والحياة هو الأمل ضد كل انهيار وضد ما نراه وما نسمعه من أخبار لا تزيدنا إلا حسرة ومرارة في الليل والنهار. فكيف للعشق والحب أن يولدا وبعضنا يكره الآخر، وبعضنا الآخر لا يطيق الوجود لمن يختلف عنه في الأديان والمعتقدات والأفكار، حتى أضحت حياتنا كقطار خرج عن الطريق وأصبح يسير من غير اتجاه محملا بعجائب الدنيا وبوطن يبحث عن أبنائه بين المحطات. فلم ننثر الورود عبثا في السماء، ولم نفعل المستحيل في الصحراء من غير أن نجد الماء، فتراكمت علينا شهب الحياة وأصبحنا لا نطيق الصبر والعمل حتى الإنجاز، وأرواحنا تلك العاجزة عن فعل المستحيل، ركنت إلى الخوف والرضى بالقليل من الحب حتى انتبهت أجسادنا وعقولنا إلى ما بِنا من خنوع وضعف، فكرهت الخروج من بين الأزهار، فمالت النجوم إلى الحضيض تعلن انتهاء زمن الغرام.
في كل ليالي الصيف العابرة، تعود الأفراح إلى موطنها، تغني للجميع أجمل نشيد، حتى يتلاقى العشاق أصنافا ما بين حزين وسعيد ومكلوم، فتناديهم أقدارهم وما يحملونه من أحلام، فيجمعهم ذلك الصوت المدفون في الأعماق، ينادي خلجات الأنفس وأنين الهوى، فيطلقها أقواس قزح على مدار فصول السنة، تزين القلوب وتزيل الآهات من فوق الأحزان، وجداول الماء لا تنقطع عن المسير في الصحراء، تزين الأحلام وتدعو إلى الغناء كلما جف الضمير، وتقسو علينا أحيانا قطعان السراب ومحطات الشر وكلمات الجهل والموت، تزلزل أفكارنا، تحاول أن تقضي على قدرتنا على التحليق والتفكير والحياة، فلا نملك إلا الألم والأنين والأحلام، لا نملك إلا الانقلاب عليها والسير بعكس الطريق، لنعود بالصدفة والحب والعقل، أقوى من ذي قبل. فهكذا تعلمنا من قوة الرياح، الوقوف في وجه الاستبداد والقمع والجهل والموت أحياء.
لقد حملنا كل خطايانا معنا ، فلن يرجمها أحد، ولن يحملها أحد غيرنا طوال الدرب، فإما أن نعيش معها، أو نتغلب عليها ونقطع القيود من على قلوبنا حتى يعود تدفق الحياة إلى الرمال. وأنت يا من أهوى، لا يتعبك الصراخ والعويل وتقديم القرابين إليك زورا ورياءً ونفاقا، فمن يريدك لزاما عليه أن يقبل الانعتاق من كل جنون وملاذ ووصايا، وأن يضحي بالعزيز وغالي الروح والأثمان. فالحرية لا وطن لها، وأجراس الحق لا يعلو على صوتها، وكل اهتزاز ورعشة في أجسادنا تخط وترسم لنا معالم في الطريق، فلتبتعد ألوان الظلام، ومؤامرات القوم اللئام، فما عدنا نطيق السكوت أو الانهزام، فالليل قبله النهار، والزهور تذبل إن لم يشرق عليها نور الصباح.
إنه يا سادة يا كرام، ميلاد حبيبتي من غير موعد ولا ميعاد، حيث تسمو الأرواح إليها حبا وعشقا واحتراما، وتتهادى من حولها الأهازيج والأشعار والكلمات، وتتكسر من أجلها وكلها قيود السجن والسجان، ونراها تحلق من غير أجنحة أو ربان، فنعشقها أكثر ونجلها أكثر ونقدرها كرامة وعزا لنا. فنحن الأحرف الثائرة في السماء، ونحن البارود الذي يطلقه القلم والسلاح، نرنو إليها لتحضننا كالأم الرؤوم، ونحضنها بغير خوف أو انكسار، تتلألأ جنبات أرواحنا بعبقها الطاهر الزكي، ونحمل نعوشنا وجثامينا بدايات ونهايات لها.
ففي ضوء القمر الخافت، يكبر النور والإنعكاس، وتنتشر مساحات الحب على الأرض والفضاء، حتى تعود حبيبتي وعشقي الدائم الي الحياة، لأبوح لها بما جرى في أحلامي ومن أنا، فتعلن تلك الغضة البهية، تلك الجميلة الشقية، تلك الثائرة الأبدية، بأن الحرية لا تستأذن بالدخول، وأن الحرية لا تباع ولا تشترى بالسوق، وأن الحرية تنتزع نزعا لا خوفا ولا عطية أو منة من حاكم ورجل دين، وبأن الكلمات مكتوب عليها ثمن الدماء والقلوب. فقالت لي ذات يوم، ابحثوا لكم عن منهج يعيدكم إلى الحياة، إلى الحب والإنسان، إلى العقل والسلام والدليل والبرهان، إلى ما بدأ به الإنسان حين عرف كيف يفكر بلا قيد أو سجان، قالت لي ابحثوا لكم عن منهج وسط هذه الحقول فقط، فمن يزرع لا بد له من يوما أن يلاقي المحصول.
إننا اليوم مطالبون بأن ندافع عن الحريات ونلغي القيود وما يريدون أن يفعلوه بنا من جمود، فالقوانين القادمة من الزمن الأغبر ما هي إلا لمحات من سراب يظنه الظمآن ماء حتى يشربه فإذا به علقم وأشواك، ولا يجب علينا إلا أن نقف كالأشجار الباسقة نذود عما نحمله من حريات ومكاسب تاريخية ثمارها العقل والقلم والخيال، وما نحن إلا الفروع الهادرة، زادنا تلك الحريات، وحينها نكون قد أعطينا تاريخ اليوم ما يجعله فخورا بنا وما يجعلنا نكون بين أوائل الأمم بتلك المكتسبات إن أحسنا قيادتها وأدرنا لها العزم الصحيح ودفة الطريق القويم.
إن كل حرية تأتي إلى الحياة هي بمثابة الشمعة التي لا تنطفئ، والنور الذي لا يخفت إلى أبد الآبدين، وكل نفس بشرية قادمة، ومن مختلف الجنسيات والأعراق حاملة لنسمات الحرية، هي بمثابة الدرع الواقي لنا، يعلمنا بل ويقودنا إلى التحدي الأكبر، وهو قهر الأمواج الكاسرة والسجون الباردة والماضويات القاهرة، وسلبها القوة التي تحاول تحطيمنا إلى أن نصل إلى تحقيق أحلامنا وزرع الأمل فوق الحزن وقطف ثمار العطاء بعد طول انتظار وعناء أحزان الأيام.
فيا زهرتي المتعبة فوق بحور الأحزان، أطلي بأغصانك على أمل الحياة وأشرقي وسط الرياح والأمواج لأنك تملكين أسباب الحياة، وكم يكون الندى خجلا حين يتساقط على جنبات أوراقك، وحين يلامس الأرض التي احتوتك، فيسقيها روحا تلد من بعدها سر الحياة.