علاقة الأدب العربي بمسائل الهجرة والشتات والنفي والمنفى ليست جديدة وجدانيا عند الإنسان العربي وبالأخص العربي المسلم، بل تعود إلى الارتباطات الإسلامية المبكرة بالهجرة، هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة ثم هجرة النبي محمد إلى المدينة. وهذا التأثير جعل من فكرة المنفى في العقل اللاواعي الجمعي أكثر رومانسية وأحيانا تصل إلى الطوباوية كذلك. الشاعر العراقي يحيى السماوي في قصيدته التالية التي يقول فيها بكل وضوح إنه آثر أن يعيش منفيا باختياره ليكتوي بالنار ذاتها التي يكتوي بها وطنه على أن يعود إليه ليقابل الموت، الموت الذي لا معنى له:
يـومي له لـيـلان ِ… أيـن نـهــاري؟
أتـكـون شــمــسـي دونـمــا أنــوار ِ؟
أبحرتُ في جسد الفصول مُهاجـرا ً
طاوي الحـقـول ولـيس من أنصار ِ
أبْـدَلــتُ بالـظـلّ ِ الهـجـيـرَ لأنـني
قـد كـنتُ في داري غـريـبَ الـدار ِ
ورغم ذلك فإن المتتبع للإنتاج الأدبي لأدباء المهجر يستشف حالة الاغتراب والنفي. هناك دوما ذات متأزمة تعاني من صراع الذات أولا، وصراع الذات مع الآخر ثانيا، والصراع مع المعنى والوجود ثالثا. هذه الحالة أو الحالات جميعها يمكن اختزالها في ثيمة مفهوم “الوطن”.. ما الوطن؟ يقول إدوارد سعيد في كتابه (تأملات حول المنفى): “للمنفى شجن دفين لا يمكن التغلب عليه البتَّة، فهو ينبع من الواقع الأساسي للمنفيّ، من الانفصام أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها”. وهذا ما عبر عنه الشاعر اللبناني الشهير فوزي المعلوف في قصيدته عندما قال:
أنا الغريب فلا أهل ولا وطن
إذا انتسبت أمام الناس وانتسبوا
ومن يكون غريباً في موطنه
لا بدع إن أنكرته الأرض والشهب
وفي موضع آخر يقول:
قسما بأهلي لم أفارق عن رضى
أهلي وهم ذخري وركن عمادي
لكن أنفت بأن أعيش بموطني
عبداً وكنت به من الأسياد
إن محاولة التوصل إلى مفهوم لمعنى الوطن حرفيا ومجازيا كانت وما زالت شاغلا مشتركا لأدباء المهجر. الوصول إلى مفهوم يتوافق والظروف التي يعيشها المغترب يقلل عند هذا المغترب حالة الاغتراب مع الذات والآخر، والوجود بشكل عام. في أدب المهجر نجد مختلف التمثيلات والمعاني الأدبية للوطن من وجهة نظر الأديب المهاجر. هذا المفهوم عن الوطن يتشكل نتيجة للتفاعل بين الماضي والحاضر؛ حيث تلعب الذاكرة فيه دورا قويا تشمل التجارب الشخصية، والوطنية، والسياق الذي حدثت فيه الهجرة من الوطن التقليدي، والولاءات الأيديولوجية والطائفية والأثنية التي تمثل مكونات الهوية العامة. هذه الاختلافات الهوياتية أنتجت أو أسهمت في إفراز تمثيلات مختلفة، واختلافات مفاهيمية للوطن كفكرة وواقع، لذلك من غير الممكن الإشارة إلى الوطن في أدب المهجر على أنه مفهوم عام أو معمم أو محدد أو ثابت.
لا أتوقع أن هناك إنسانًا قد يكون مستبعدا من السقوط في هاوية الاغتراب؛ فإذا سلم من الاغتراب عن الوطن واقعا، فلن يسلم منها كفكرة، وإذا سلم من هذه الفكرة، فلن يسلم من الاغتراب الداخلي.. شعور الإنسان بالغربة داخل وطنه. بيد أن إنسان الوطن العربي قد يكون متورطا أكثر من غيره في هذا المطب.. في هذا الواقع المرير.
من منا من لم يتأثر بالمعدل السريع والكبير للهجرة من الوطن العربي.. وطن الولادة، إلى الدول الغربية. وطن المواطنة والكرامة. كما يرها البعض. ورغم أن الهجرة واحدة من الظواهر السائدة التي تميز عصرنا الحديث على النطاق عالمي، إلا أن مشاركة العالم العربي في هذه الموجة المتنامية من الهجرة من مختلف البلدان العربية إلى بلدان أخرى في الغرب مرتفعة جدا. وهذه الثقافة، أعني ثقافة الهجرة تتراوح وتختلف دوافعها من الاجتماعية إلى الاقتصادية والسياسية الناجمة عن التمييز أو الاضطهاد.
*مقدمة ملف “أدب المهجر الحديث“