في كهف صغير في جزيرة بورنيو بأندونيسيا، جنوب شرق آسيا، منذ أربعين ألف عام، ترك رجل أو امرأة بصمة يده على جدار الكهف دليلًا على وجوده. تلك اللوحة هي أقدم عمل فني وصل لنا من أجدادنا الأولين.
انشغل الإنسان دائما بالفن، بالرسم والتصوير، الحيوانات والطيور على جدران الكهوف قبل نشأة اللغة، وبداية التاريخ تخبرنا بأن الفن هو الوسيلة الأولى واللغة الأولى التي عبر بها الإنسان عن ذاته وعن عالمه.
ومع بداية التاريخ في آكد ومصر، سومر وبابل كان الرسم والتصوير هي اللغة الأعظم للتعبير. منذ ذاك الماضي السحيق وحتى الآن كان للفنان خصوصيته وروحه المرهفة التي ترشدنا الطريق.
في الغربة والاغتراب ينضج الفنان، أكان منأى أم منفى، البعد عن الوطن فرصة لاستكشاف الذات والوطن، لاستكشاف الأنا والآخر.
علاء بشير فنان تشكيلي، رسام ونحات عراقي، يعمل أيضا طبيبا جراحا متخصصا في الجراحات التقويمية، كان طبيبا لصدام حسين وله تمثال شهير بعنوان الصرخة في بغداد، هاجر إلى لندن في العام 2003 بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. التقته مواطن للتعرف على مسيرته الفنية والإبداعية والوقوف على أهم لحظات التحول في مسيرته الإبداعية والحياتية. وكان معه هذا الحوار.
حاوره: محمد هلال
- لا أعرف لماذا هويت الرسم مبكرا، ربما السبب في كوني الطفل الوحيد لأسرتي ومجالات اللعب خارج البيت معدومة.
- مهمة الفن الرئيسية في رأيي هو التعبير عن بحث الإنسان عن جوهر الوجود، وجوده ووجود العالم.
- من المحزن والمؤسف أن معظم العرب ولأسباب كثيرة فشلوا في أن يعتمدوا البحث العلمي والمنطق المستند إلى البرهان.
- يقتل الإنسان بدم بارد، ليس من أجل طعامه كالوحوش الضارية لكن من أجل أمور كالعرق والدين والبحث عن المكانة.
- الفن التشكيلي في رأيي أقوى وأكثر عالمية من الكتابة. وأنا مهموم بالإنسان في كل مكان.
البداية في بغداد، متى هويت الرسم؟
لا أعرف لماذا هويت الرسم مبكرا، ربما السبب في كوني الطفل الوحيد لأسرتي ومجالات اللعب خارج البيت معدومة، ليس أمامي إلا اللعب في المنزل أو في منازل الجيران المقربين، وقتها انتبهت لحبي للرسم، لم يكن لوالدي أو والدتي أي اهتمام بالرسم لكنهما شجعاني على ممارسة تلك الهواية.
أما عن بغداد في ذاك الوقت، أذكرها جيدا، كنا نعيش في “محلة الفضل” وهي منطقة قديمة جدا تعود لزمن العباسيين. لم تكن مدينة حديثة ومنفتحة كالمدن في تلك الأيام. كانت كل منطقة منغلقة على نفسها، ولو صادف ومررت في غير منطقتك للفتت الانتباه كونك غريبًا عن تلك الجهة، أعتقد هكذا كان الحال وقتها في تلك المدن القديمة كالإسكندرية أو القاهرة مثلا. ترسخت داخل البغداديين ثقافة التكتل، فالمنطقة والقبيلة والعائلة والطائفة والعشيرة تكتسب أهمية بالغة، رغم ذلك لم يكن أبي أو أمي محبين لهذا النوع من التكتل والانغلاق، منهما تعلمت التسامح مع الآخر.
من الهندسة إلى الطب. كيف أصبحت طبيبا ؟
كنت طالبا متفوقا. في الثانوية حصلت على معدل درجات عال جدا يساعدني في التقدم لأي مسار دراسي أريده. كنت أحب الفن والرسم لكن لم يكن متاحا أن أدرس الفنون في الجامعة، فحصلت على منحة في الهندسة المعمارية في أمريكا. رأيت أن الهندسة المعمارية أقرب مجال دراسي لما أحبه، الفنون.
لم يتدخل والدي في اختياري، لكن أمي، لكوني الابن الوحيد، ولكون الكثير من أفراد العائلة سبقوني لأمريكا ولم يعودوا، رفضت رفضا قاطعا أن أسافر.
فكرت فيما أدرس بديلا عن الهندسة. نصحني أبي أن أدرس مجالا بعيدا عن العمل الحكومي، فدرست الطب. وأصبحت طبيبا.
هل أثرت دراسة الطب في فنك ؟
دراسة الطب أفادتني أكبر إفادة، في تجربتي الفنية وفي رؤيتي للعالم وللحياة. منذ الطفولة وأنا مهموم بالإنسان، وكنت أحب أن أعبر عن مشكلة الإنسان الوجودية من خلال فني، طبعا كل مرحلة يختلف التعبير فيها حسب الإدراك. دراسة الطب قربتني من المنطقة الحرجة التي كنت أتمنى أن أراها وهي رؤية الإنسان من الداخل، شحمه، أوردته وعظامه. وإلى أي درجة يتشابه الإنسان، فجميع البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم ومعرفتهم وذكائهم أو غبائهم وعقائدهم ولغاتهم وثرواتهم ومناصبهم فإن قلوبهم جميعا تنبض بمعدل ٧٥ مرة بالدقيقة. أدركت أن الجميع متساوون، متساوون في عين الخالق، أدركت أن الإنسان يعيش في صراع بين رغباته وبين حقيقته، من هنا اقتربت كثيرا من أزمة الإنسان. ومهمة الفن الرئيسية في رأيي هي التعبير عن بحث الإنسان عن جوهر الوجود، وجوده ووجود العالم
رغم نصيحة الوالد بالبعد مهنيا عن الحكومة أصبحت طبيبا لصدام، فكيف رأيته ؟
تلك مفارقة من مفارقات الحياة، لم يكن لي اختيار في الأمر، ولا يهرب الإنسان من قدره، أنا طبيب. أقدم خدماتي لكل إنسان يحتاج إليها، أكان رئيسا أو عامل نظافة.
كنت الوحيد الذي أجريت عملية جراحية لصدام حسين، لم أشعر ولو لمرة واحدة أنه مريض غير عادي، على سرير المرض يتساوى أمامي الجميع دون أي اعتبارات أخرى.
بعيدا عن علاقة الطبيب بالمريض. كيف رأيت صدام حسين ؟
من المحزن والمؤسف أن معظم العرب ولأسباب كثيرة فشلوا في أن يعتمدوا البحث العلمي والمنطق المستند إلى البرهان والدليل في بلورة وبناء أفكارهم وسلوكهم . قاد هذا السلوك إلى الفوضى في بناء مستقبل واضح المعالم. عمق هذا التخبط هو الفشل التام في الاستفادة من تجاربنا السابقة وعدم تكرار أخطائنا . أفضل أن أترك مضمون سؤالك إلى المؤرخين.
متى تركت العراق ؟
تركت العراق بعد الاحتلال الأمريكي في العام 2003. بعد كل انقلاب في الحكم تعم الفوضى، عايشت الأمر عدة مرات في العراق. بدءا من الانقلاب على الملك في العام 1958 مرورا ب 63 و68 وحتى 2003. يتحول البشر الوديعون لشخوص آخرين يسرقون ويتصرفون بغوغائية. تلك علامة استفهام كبرى لدي.
في العام 2003 تأكدت أننا لم نستفد من أي تجربة سابقة للعراق وهذا أمر مؤلم جدا. رأيت الأمريكان يدعون الناس لسرقة البنوك والمتاحف، الأمريكان دخلوا بيتي لسرقته والبحث عن أوراق، ومن بعدهم ميليشيات عراقية. إلا إن موقفا واحدا كان الأخير بالنسبة لي، من بعده قررت الهجرة وهاجرت، تلك القشة التي كسرت احتمالي كانت حين أوقفتني القوات الأمريكية ومعهم ميليشيات عراقية وأنا في طريقي للعمل لتفتيشي. جمعت حقيبتي وجئت إلى لندن.
ما مفهوم الانتماء من منظورك ؟
كل إنسان هو ابن المكان والزمان، ابن الجغرافيا والتاريخ، بالطبع يتشكل الإنسان في طفولته من حمولة التاريخية والجغرافية، من الأهل والأصدقاء، المدرسة والمجتمع. لكن القراءة قادرة على خلق أفق أوسع للإنسان.
كنت في الطفولة أقرأ كتبا فلسفية، من مكتبة أبي، كانط، هيجل، أرسطو، أفلاطون، وغيرهم. كنت أقرأ ولا أفهم بالتأكيد كل ما أقرأ لكن تأثير تلك القراءات كان كبيرا فيّ. عن طريقهم تعلمت التساؤل عن أصل الأشياء، تعلمت ألا أقبل كل ما يقال لي بسهولة، تعلمت أن أتقصى المعلومة، تلك القراءات أثرت في وجهة نظري للأمور.
بالحديث عن العراق التاريخي والعراق الحالي، علينا أن نتساءل هل هناك اتصال بين الحاضر والتاريخ أم لا؟ هل هناك انقطاع تاريخي بين العراق الحاضر والعراق التاريخي؟
إذا تأملت في تلك المسائل لوجدت أن الانقطاع التاريخي عن الماضي هو السائد. لدرجة التبجح والتفاخر أحيانا أننا لسنا أبناء الحضارات السومرية والأكدية والبابلية، هناك فرق كبير مثلا بين العراقيين والمصريين، في مصر تجد خيوطا أكبر تربط الحاضر بالماضي، رغم الابتعاد الحاصل في العقيدة واللغة، هناك ارتباط حتى لو كانت خيوطًا متخيلة أو مستدعاة لأهداف سياسية، لكن المصريين، المصري العادي في الشارع يشعر بارتباط ما مع تلك الحضارة القديمة.
نستخدم فقط الماضي كغطاء، لأننا لم نعد نقدم شيئا للإنسانية، أما الانتماء الحقيقي في رأيي هو الانتماء للإنسان. فكل تلك الحضارات وكل هذا التاريخ ملك لنا نحن البشر.
كيف ترى أثر المهجر في أعمالك ؟
عززت الهجرة رؤيتي السابقة عن الإنسان ومعاناته. عن قسوته، عن أزماته وأثر رغباته في سلوكه، وكيف يقتل الإنسان بدم بارد، ليس من أجل طعامه كالوحوش الضارية لكن من أجل أمور كالعرق والدين والبحث عن المكانة.
تتكرر رمزية الغراب باستمرار في أعمالك، من أين جاءت وإلامَ ترمز؟
في العام 57، في طريق عودتي من الكلية للمنزل رأيت أطفالا يسحلون غرابا ميتا في الشارع. بعد سنة في الانقلاب على نوري سعيد، تكرر نفس المشهد مع رئيس الوزراء. ولو تأملت في قصة أبناء آدم، فالغراب هو الشاهد على أول جريمة ارتكبها الإنسان في الأرض، من هنا حدث الترابط معي، في حادثة نوري السعيد كنت أنا الشاهد، كنت الغراب.
في الثقافة العربية يتشاءمون بالغراب، كأنهم يشعرون بالذنب ويقلقهم وجود الغراب، يؤرقهم الغراب كشاهد على جرائمهم.
يسيطر الأبيض والأسود على مساحات كبيرة في أعمالك، كيف ترى اللونين؟
اعتاد الانطباعيون العراقيون على استخدام الألوان بكثافة، وكنت مثلهم. مع الوقت صارت لدي قناعة أننا كلما استخدمنا الألوان أكثر فنحن غير قادرين على التعبير عن الفكرة بصورة صحيحة فنلجأ لتغطيتها ببهرج الألوان. بدأت أتخلص مع الوقت من الألوان البراقة، كأن الألوان هي إغراء للإنسان لينشغل بعيدا عن الحقيقة. لا تساعدك تجاوز سطح الأشياء لجوهرها
لديك موهبة أخرى لا يتم الالتفات لها كثيرا وهي الكتابة، لماذا لا توليها أهمية؟
أحب الكتابة، وأكتب أحيانا، الكتابة أيضا تنشغل بالبحث عن الحقيقة، بالبحث عن جوهر الإنسان والأشياء. لكن التواصل عن طريق الكتابة يضيق حيّز التلقي، فلكي أتواصل أعبر عن قضية تشغلني باللغة العربية فأنا أخاطب من يستطيع أن يقرأ العربية فقط. أنا حين أستخدم الفرشاة فأنا أستخدم لغة عالمية يفهمها الجميع، في كل اللغات. الفن التشكيلي في رأيي أقوى وأكثر عالمية من الكتابة. وأنا مهموم بالإنسان في كل مكان.