في زمن لم يعد فيه بالإمكان إخفاء أي تعبير فني أو فكري أو سياسي عن المطالعة والمشاركة والتعليق والتعبير، أصبح من الضروري أن تتغير الأفكار والأيديولوجيات والمفاهيم وحتى الأخلاق، للتعاطي مع هذه المتغيرات، لفهمها وعقلنتها، لتبنيها أو رفضها بشكل حضاري. ما يحدث اليوم في عالم العولمة والتكنولوجيا المفرطة وما بعد الحداثة، لا يمكن السيطرة عليه بفتوى دينية أو قانون دستوري أو محاربة سلطوية. فالواقع يقول لنا دائما إن التطور هو الصيغة المثلى لبناء ما يمكن تسميته بالتوافق المدني، بمعنى أن تكون كل المتغيرات موجودة ومتاحة بشرط أن تحميها رغبة الإنسان في التعلم والمشاهدة والإبداع وكسر الحواجز واليقينيات والمطلقات، ويدافع عن الرأي والحوار والتعددية بدلا من العنف والهمجية في الرد والتعليق. ورغم أن العنف، يعتبر بالضرورة، أحد أوجه السلوكيات البشرية منذ وجود الإنسان على سطح الأرض، إلا أن تقليص نسبته أو تزايد مفاعيله، يخضع بكل تأكيد إلى عوامل أخلاقية وبنيوية وسياسية واجتماعية واقتصادية.
منذ أيام مضت، انشغل العالم بما يحدث في فرنسا ، وما يفعله الرئيس الفرنسي ماكرون في تعاطيه مع الإسلام، وتحديدا الإسلام الراديكالي بحسب وصفه. وهذا التعاطي، وبحسب الثقافة الغربية، والأوروبية تحديدا التي تخلصت من هيمنة الدين على الفضاء العام، كان بالضرورة التعاطي بشكل واضح وشفاف وجريء في التعامل مع مسلك الأديان وممارسة معتنقيه وتأثيرهم في الأمن الوطني والتعايش المجتمعي، ذلك التعايش الذي ضحت من أجله الشعوب الأوروبية بالكثير ودفعت ثمنه بالدماء والضحايا والحروب والانقسامات حتى توصلت للشكل المنهجي والديمقراطي والأخلاقي في التعايش مع الاختلافات واحترام الحريات الفردية، وغيرها من الحريات التي شكلت قوام تلك الدول ومسار تلك الشعوب المتقدمة.
لقد كانت العلمانية ذلك الخيار المتفق عليه، في فرنسا تحديدا، بكل ما تعنيه من وضوح سياسي واجتماعي في فصل الدين عن الدولة وحماية الإنسان، هو الخيار العقلاني الذي جاء تتويجا للثورة الفرنسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبالتالي اهتدت الأمم والشعوب إلى مخلصها الفكري الحداثي، ذلك المنتج الفلسفي الفكري الذي استطاع إعادة الدين إلى مساره الشخصي، وإعادة الشعوب إلى عملها وصناعتها وإبداعها ومستقبلها.
هذا الإنجاز التاريخي الذي مازالت فرنسا تفتخر به، بل وتدافع عنه أمام اليمين السياسي واليسار الراديكالي والرجعية الظلامية، تلازم مع إخفاق أوروبي بدأ منذ ثورات الربيع العربي، منذ الإحساس بالظلم الذي طال الشعوب العربية وممارسة الحكام الديكتاتوريين العرب ضدهم أبشع وسائل التعذيب، منذ أن خرجت غالبية كبيرة من المهاجرين العرب إلى دول أوروبا بحثا عن الأمان والاستقرار والحياة، بدأ منذ أن انتصرت الشعوب الأوروبية بغالبيتها لحقوق الإنسان واستضافت أعدادا كبيرة بل ومهولة من اللاجئين على طول وعرض القارة العجوز أوروبا، بدأ منذ أن استقرت تلك المجاميع في زوايا الدول الأوروبية وبدأت في تشكيل غيتوهات سكنية وجمعيات خيرية ومساجد طائفية ومناهج دينية أرادوا فرضها على من استضافوهم، ليس بطرق ديمقراطية تؤمن بالاختلاف والتنوع، بل بطرق تهديدية إلزامية.
هؤلاء وبعد أن استقروا وشبعوا وامتلأت بطونهم بدل عقولهم وعرفوا معنى الحريات وحقوق الإنسان والعلمانية، انقلبوا بكل جدارة على مستضيفهم، وطفقوا يهددونهم بثقافتهم ودينهم وشريعتهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل طلبوا أموال الدعم من دول الخليج النفطية وجماعات الإسلام السياسي في الوطن العربي، وسكنت مدنهم جماعات الإخوان المسلمين والسلف وكل التيارات الوحشية ذات السلوكيات والأفكار المتطرفة القاتلة الإقصائية. ولم يشفع لهم أن تلك الدول الأوروبية ساعدتهم في تجاوز الأمرين، بل وسمحت بوصول بعض المميزين من هؤلاء اللاجئين وأبنائهم إلى مناصب وزارية وسياسية لا يجرؤون حتى على الحلم بها في مجتمعاتهم العربية والإسلامية. حتى جاءت لحظة الصدام والمواجهة وتطبيق الشريعة بحذافيرها على الشعوب الأوروبية الكافرة المارقة من دين الله.
هنا، لم يفهم هؤلاء اللاجئون وربما حتى اليوم، وهنا أعني بعضهم الكثير وليس جميعهم حتى لا يتم اتهامي أنا أيضا بالتعميم والتجريح. لم يفهم هؤلاء المتطرفون أن حرية الرأي والتعبير حق أصيل للشعوب الأوروبية، وأن ما يمنع الإنسان الأوروبي من الوقوف أمام هذا الحق، بل ويتم محاسبته وسجنه، إذا تجاوز حق الرأي بالتعبير إلى التهديد بالقتل أو إشاعة العنف والعنصرية أو تهديد الأمن العام والسلم الوطني.
لم يفهم هؤلاء أن تلك الصحيفة المغمورة التي لا يتجاوز عدد نسخها بضع مئات في بداياتها، وأصبحت الآن أيقونة الحريات بعد مقتل رساميهم، هي صحيفة لا تجد لها انتشارا أو تشجيعا كبيرين، لأن مسألة السخرية من الأديان والأنبياء ومعتنقيها أمر تجاوزته تلك الشعوب ولا تلقي له أي اهتمام كبير، بل إن السخرية من الأديان في المجتمعات الغربية عموما أمر ليس بالشائع، ولكن كما يقال رب ضارة نافعة، وهو ما استفادت منه هذه الصحيفة في الانتشار والدفاع عنها واعتبارها رمزا لحق الإنسان في التعبير عن رأيه مهما كان مخالفا لرأي الآخرين طالما لا يدعو إلى ما قلناه أعلاه.
المشكلة هنا، إذًا، ليست في الصحيفة ولا في الرسامين ولا في محتوى النشر، بل المشكلة التي يواجهها هؤلاء اللاجئون، ويواجهها أيضا جمع غفير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هي في الثقافة الداعشية التي تجد حاضنتها وفكرها وتاريخها وأخلاقياتها لدينا هنا. تلك الثقافة التي تواجه المختلف بالقتل، والمرأة بالحجب، والحريات بالتحريم، والعلمانية بالتكفير، والمختلف بالازدراء والسجن والنفي والقتل.
تلك الثقافة التي لم تعد ثقافة شعبية أو جماهيرية بل أصبحت ثقافة مؤسساتية تجد مكانها في مناهج التعليم وفي مؤسسات الدولة وفي قرارات الحكام ورجال الدين. تلك الثقافة التي لم يجرؤ أحد من المؤسسات الدينية الرسمية على الاعتراف بخطورتها وهمجيتها وقدرتها على تجنيد القتلة والمخربين في أقاصي الدنيا وأطرافها لقتل الإنسان بدم بارد بلا ضمير.
تلك الثقافة التي منعت الحياة وشوهت الأديان وحاربت القيم الحضارية ودمرت معنى التعايش والاختلاف والحب والفن والحياة. تلك الثقافة، لم تعد عربية وإسلامية فقط، بل تحورت مثل الجينات والفيروسات القاتلة إلى ثقافة معولمة وجدت ضالتها في أماكن الحرية والعدالة والقانون والعلمانية، حتى تبطش بأراضيهم وتهدد بقاءهم وتمنع عنهم الأمن والحب والسكون.
تلك الثقافة الداعشية، بدأها العرب والمسلمين عندما استسلموا للقمع والوصاية والإسلام السياسي وسلطة رجال الدين باسم الحفاظ على الإسلام من التغريب والعولمة والعلمانية، عندما تساهلوا مع المتأسلمين واعتبروهم إخوانا لهم بينما هم أفاعٍ تتحرك وتخطط لتدمر ما بقي لنا من صورة معتدلة أمام العالم.
تلك الثقافة التي قتلت مدرس التاريخ الفرنسي، وقتلت قبله الكثير من الأبرياء من أجل تطبيق الشريعة والدفاع عن الدين. تلك الثقافة التي شربت من مناهجنا التعليمية واختلطت بالعادات والتقاليد ومارست التدين والنقل والتقليد وسكنت المساجد والجمعيات الخيرية، ومنعت كل حرية رأي وحرمت كل معنى للقيم الأخلاقية ودمرت كل خطوة للسلام واحترام الإنسان مهما كان مختلفا.
إن رسومات شارلي إبدو ، لم تكشف لنا إلا عن عمق أزمة الإسلام والمسلمين في فهم معنى الحريات وحقوق الإنسان ومعنى الدولة العلمانية. كشفت لنا عمّا هو مكنون في القلوب، عما يرغبه بعضهم في كيفية الدفاع عن الإسلام، عما تفعله الفتوى الدينية في تجهيز القتلة والمسلحين، عما تمارسه المنابر الدينية في التحريض والدعوة بالهلاك على الغرب وأوروبا وكل من لا يؤمن بالإسلام.
كشفت عن عالم منغلق يعيش فيه المسلمون دون أن يعرفوا أن العالم قد تغير، وأن الإنسان قد تطور، وأن التاريخ لم يعد هو الماضي الديني، وأن ما يحاربه السيد ماكرون هو البداية والخطوات العقلانية للتخلص من الإسلام الراديكالي في أوروبا، ونأمل أن نستكمل نحن تلك النهاية بالتخلص من الإسلام السياسي السني والشيعي، حتى نعيد على الأقل بهجة الحياة، ونبني من جديد دولنا الحديثة والمواطن العربي المسلم ذا الهوية العلمانية والمجتمع الديمقراطي.