يعيش المسلمون والغرب أزمةً في التمييز بين قيم الحرية والقداسة وموقف المجتمعات الإسلامية منها ومدى قدرة الغرب والمسلمين على التعايش في مجتمعاتٍ موحدة تحت القيم والنظم العلمانية أو في مجتمعاتٍ مفتوحة وحرة، فيما يبدو بأن الزمن والتغيرات التقنية في العقدين الأخيرين منذ بداية الألفية الثالثة قد بدأت تصنع فرصاً ما لانتصار أحد هذه القيم وتراجع الأخرى.
شارلي إيبدو، صحيفة فرنسية ساخرة تصدر أسبوعياً في باريس وتقوم بنشر رسومٍ ساخرة من اليمين الكاثوليكي والأديان، تشعل أزمةً جديدةً بعد نشرها صوراً ساخرة من نبي الإسلام سبتمبر أيلول الماضي، بين ردود الفعل الإسلامية والسجال الفكري في الأوساط الثقافية حول قيم حرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات الإسلامية المنعزلة في الدول الأوروبية.
الصحيفة سبق وأن قامت بنشر صورٍ ساخرة من الإسلام في العام 2011م فيا أعادت نشرها في العام 2012م، إلا أن ما بلغ بها الشهرة كان حادث شارلي إيبدو الإرهابي في يناير 2015م، والذي قضى فيه معظم محرري وصحفيي المجلة على يد إرهابيين فرنسيين ينتمون لجماعاتٍ إرهابيةٍ إسلامية.
في السادس والعشرين من سبتمبر أيلول الماضي، ألقت الشرطة القبض على شابٍ مسلمٍ من أصولٍ باكستانية كان قد أقدم على طعن فرنسيين أمام مقر المجلة الساخرة شارلي إيبدو كرد فعلٍ على الرسوم المسيئة للنبي محمد، والتي قال بأنها استفزت مشاعره حسب تصريح الشرطة الفرنسية.
تسارعت الأحداث وتداعت لتصل مستوى سجالٍ سياسيٍ دوليٍ، فيما ترتفع مخاوف الأوروبيين من هجماتٍ إرهابية تستهدف الأبرياء، كالتي شهدتها فرنسا منذ هجمة شارلي إيبدو العام 2015م والتي راح ضحية الهجمات الإرهابية فيها لما يزيد عن مائتين وستين ضحية.
الإٍساءة لنبي الإسلام وردود فعل الدول والمجتمعات الإسلامية لها قصةٌ طويلةٌ من الأحداث وطبيعة التعاطي الدولي مع الأزمات الناجمة عن هذه الممارسات التي تعتبرها المجتمعات العلمانية جزءاً من حرية التعبير.
قصة الأزمة الغربية الإسلامية
نشرت صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية في العام 2005م رسوماً ساخرة من الإسلام ونبيه في مقالٍ بعنوان وجه محمد، وهو ما أتبعه العديد من الإجراءات التي سببت أزمة علاقاتٍ هي الأسوأ للدنمارك والبلدان الأوروبية والعربية منذ الحرب العالمية الثانية.
رسوم يولاندس بوستن الساخرة كشفت الغطاء عن مدى هشاشة أمن الحريات في أوروبا ومدى تخوف الرسامين والصحفيين الأوروبيين من توجيه النقد والسخرية من الإسلام خوفاً من أية ردود فعلٍ تكلفهم حياتهم.
ومن جهةٍ أخرى أصرت الكثير من وسائل الإعلام والصحافة الحرة في أوروبا على التضامن مع يولاندس بوستن والدفاع عن قيم حرية التعبير وحق السخرية كجزءٍ من هذه الحرية، أمام التهديدات الإسلامية والعمليات الإرهابية التي قد تقلق أمن المواطنين في أوروبا.
صحفٌ ألمانية ونرويجية وأخرى فرنسية، كانت من ضمنها شارلي إيبدو، شاركت في هذه الحملة وقامت بإعادة نشر الصور الساخرة دعماً لقيم حرية التعبير والصحيفة الدنماركية التي سرعان ما قدمت اعتذاراً بالعربية بعد ردود الفعل الواسعة في العالم الإسلامي والدنماركي.
مواقف الأمس
احتجاجاتٌ واسعة عمت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عقب نشر الرسوم واشتداد الأزمة، فيما استمرت الجماعات الإسلامية في هذه البلدان والحكومات في الإنجراف مع موجة ردود الفعل العنيفة.
في السعودية، أصدر علماءٌ فتوى بتحريم تداول الصور المسيئة بين المسلمين واتهام مرتكب ذلك الفعل بالتعاون مع الكافرين في عملهم، فيما قاد التجار السعوديون والمواطنون حملة مقاطعةٍ للمنتجات الدنماركية امتدت لمختلف البلدان العربية والإسلامية.
وعلى المستوى الرسمي فقد قامت السعودية، إيران، مصر، سوريا، العراق، ليبيا، تركيا ودولٌ أخرى بدعوة رئيس الوزراء الدنماركي لاجتماعٍ عاجل بوصف الإساءة جرماً لن تسكت عنه دول الإسلام، وهو ما رفضه الأخير بدعوى أن ذلك حرية تعبير تكفلها بلاده ولا يمكنه أن يجبر الصحف على عدم نشرها.
الرئيس الإيراني في حينها، أحمدي نجاد، دعا إلى إيقاف الاتفاقيات التجارية مع الدول التي قامت وسائل الإعلام فيه بنشر الرسوم المسيئة، فيما قامت العراق بذلك فعلياً بعد إيقافها لمجموعةٍ من الإتفاقيات الإقتصادية مع كلٍ من الدنمارك والنرويج.
ومع اشتداد الهجمات وتعرض سفارات الدنمارك والنرويج لاعتداءات المتظاهرين في أكثر من بلدٍ عربيٍ وإسلامي، كان أبرزها ما حصل من اعتداءاتٍ متكررة على السفارات في كلٍ من دمشق وبيروت، بالإضافة للمظاهرات الدامية التي حصلت في أفغانستان وباكستان وراح ضحيتها العشرات عقب محاولاتهم الإحتشاد للقواعد الأمريكية.
البرلمانات العربية شجبت ونددت بحملة السخرية من الإسلام في أوروبا وهددت بردود فعلٍ مختلفة، فيما وصلت الأزمة الدبلوماسية لسحب سفارات بعض البلدان العربية والإسلامية من الدنمارك وبعض الدول الأوروبية أو استدعاء سفرائها للتشاور والتهديد بإغلاق سفاراتها.
مواقف الأمس كانت بمثابة أزمةٍ دوليةٍ يتمنع فيها المسلمون عن التفاهم وقبول الاعتذارات والتبريرات الغربية التي وصلت إلى تخلي وسائل إعلامٍ عالمية عن حق حرية التعبير في خضم هذه الموجة كالسي ان ان وغيرها.
مواقف اليوم
شارلي إيبدو تعيد نشر الرسوم الساخرة التي تبعها قيام شابٍ شيشانيٍ لاجئٍ في فرنسا بذبح معلمة على خلفية عرضه هذه الرسوم في حصةٍ دراسيةٍ تتحدث عن حرية التعبير.
يظهر الفارق هنا أن العالم الغربي أصبح أكثر تمسكاً بقيمه عن التنازل لمراعاة مشاعر المسلمين المتعصبين، حيث خرج الرئيس ماكرون في خطابٍ له، عقب القبض على الشاب الباكستاني المشتبه به أمام المقر السابق لشارلي إيبدو، يصف الدين الإسلامي بوقوعه في أزمةٍ في كل مكانٍ في العالم وأن الخطر الأمني الذي تعيشه فرنسا كان بسبب تساهلها مع المجتمعات الإسلامية المنعزلة ومراعاة مشاعرها على حساب قيم الجمهورية العلمانية والحرية.
على العكس من موقف جاك شيراك الذي انتقد صحيفة شارلي إيبدو نشرها للرسوم الساخرة بعد الصحيفة الدنماركية في العام 2005م وقدم اعتذاره للصحيفة، ماكرون يخرج أكثر حزماً ويعلن نية بلاده الاستمرار في خطته لحماية الجمهورية وقيمها، واصفاً ما تفعله شارلي إيبدو بحرية تعبير ومعلناً إصراره على دعم حرية التعبير ونشر هذه الرسوم في حفل تأبين المدرس الفرنسي ضحية الإرهاب الإسلامي حسب تعبيره.
الموقف الديني في السعودية هو ذاته تغير عن الموقف في العام 2005م والذي أفتى بتكفير من ينشر الرسوم بين المسلمين واعتبرها علماء وهابيون بمثابة الحرب على الله والرسول، يخرج اليوم الشيخ الفوزان في فتوىً له على وسائل الإعلام الرسمية يقول فيها بأن الإساءة للنبي كانت موجودةً منذ بداية الإسلام ولكن النبي كان يعرض عن ذلك حفاظاً على الإسلام والمسلمين وينهى أن يقتل أو يهدر دم أحدٍ يسيء إليه.
تضامنٌ في الداخل العربي والإسلامي
في العام 2005م قامت صحيفةٌ سعودية بإعادة نشر الرسوم المسيئة في مقالٍ يشجب هذه الممارسة إلا أن الصحيفة أغلقت وحُكم على محررها بالإعدام لولا تراجع الحكومة السعودية عن تطبيق الحكم فيما بعد بسبب ضغوطٍ مارستها منضماتٌ دولية.
في العام 2020م، تنتشر رسوم شارلي إيبدو الساخرة في منصات التواصل الإجتماعي بصورةٍ واسعة في المجتمعات العربية على يد المسلمين العلمانيين والمعارضين للتوجهات المتطرفة وأخرين لا دينيين عرب دعماً لقيم حرية التعبير ووجوب تقبل المسلمين للسخرية كما يسخرون هم من بقية الأديان ومعتنقيها بصورةٍ أكثر فظاعةً حسب تعبير معظمهم.
ويتضح جلياً إحجام غالبية الدول العربية والإسلامية عن اتخاذ قراراتٍ في هذا الشأن بذلك القدر الذي حدث من ردود فعلٍ رسمية في حادثة نشر الصحيفة الدنماركية للرسوم الساخرة في العام 2005م، فيما بقيت صورةٌ أقل كثافة من الامتعاضات الشعبية التي تستثمرها جماعات الإسلام السياسي ورموزها في الحكومات عبر إلقاء تصريحاتٍ عبثية هنا وهناك دون أي إجراءاتٍ فعلية على أرض الواقع.
حين أعلن ستيفان شاربونييه الذي قضى في حادثة الهجوم الإرهابي على شارلي إيبدو عزم الصحيفة نشر الصور الساخرة من الإسلام، قال أنهم سيستمرون بفعل ذلك حتى يصبح أمراً اعتيادياً بالنسبة للمسلمين كما هي السخرية من المسيحية واليهودية كذلك، فهل بدأ شاربونييه في تحقيق هدفه؟ يبدو أنه قطع شوطاً طويلاً في تحقيقه.