من رسوم الكاريكاتور لمجموعة حوادث إرهابية وردود فعلٍ عصفت بالمشهد الفرنسي في واحده من أهم جدالات واقع القيم الجمهورية الفرنسية وتركيبتها الإجتماعية الحالية وصراعات اليمين واليسار أمام المجتمعات الإنعزالية الموازية في الداخل.
أزمة الكاريكاتور وإعتداءاتٌ إرهابيةٌ على أيدي مسلمين، كان أخرها ذبح ثلاثة أشخاص في كنيسة نوتردام في نيس يوم الجمعة التاسع من أكتوبر تشرين الأول 2020م، كانت هي الحدث الأبرز على وسائل التواصل الإجتماعي، والتي تحولت لتراشق تهمٍ سياسية ومحاولة استعطاف الشعوب الإسلامية من قبل تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان الذي خرج مهدداً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومحذراً إياه من الإساءة لنبي الإسلام وواصفاً إياه بالمعتل النفسي.
الرئيس التركي أردوغان دعا الشعوب الإسلامية لمقاطعة المنتجات الفرنسية على غرار ما حدث في العام 2005م عقب نشر صحيفة دنماركية لرسوم ساخرة من الإسلام، وهي الدعوة التي كانت وقد سبقت خطابه على وسائل التواصل الإجتماعي وقيام البعض بتصوير إخلاء مراكز التسوق من منتجات غذائية فرنسية بهدف إتلافها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قرر الخروج في لقاءٍ مع قناة الجزيرة يوجه عبرها رسالةً للعالم الإسلامي حول ملابسات الأزمة الحالية ويوضح سوء الفهم الحاصل حالياً ما بين المجتمعات العربية الإسلامية وفرنسا.
ناشطون عبروا عن سبب اختيار ماكرون لقناة الجزيرة لتوجيه رسالته بوصفها أكثر وسائل الإعلام العربية الموقدة لنار هذه الأزمة وكونها الأقرب للجمهور المتطرف، وهو ما أكد عليه الرئيس ماكرون في مقابلته بقوله أنه يريد توجيه رسالته بشأن ما حصل من سوء فهم متداول في وسائل التواصل الإجتماعي والوسائل التابعة لكم، مشيراً للجزيرة.
اللقاء وحسب ما ورد فيه، فقد حرص الرئيس الفرنسي فيه على التأكيد على مجموعةٍ من القضايا أبرزها توضيح اللبس بشأن وهم تبني الدولة الفرنسية معاداة الإسلام كدين والتأكيد على حق حرية المعتقد كحقٍ أساسيٍ تدافع عنه فرنسا.
” بلدنا بلدٌ ليس لديه أي مشكلةٍ مع أي ديانةٍ في العالم، لأن كل الديانات تمارس بحريةٍ في بلدنا، بالنسبة للفرنسيين المسلمين كما للمواطنين في كافة أنحاء العالم الذين يدينون بالإسلام” يقول ماكرون في لقاءه داحضاً الإدعاءات التي تصف انتهاج حكومته سياسةً عدائيةً مع الديانة الإسلامية.
الجدير ذكره أنه يعيش ما يقارب الستة ملايين مسلمٍ في فرنسا من أصولٍ عربية إسلامية يمارسون شعائرهم الدينية بحريةٍ كما بالنسبة للأديان الأخرى في فرنسا.
الرئيس الفرنسي أبدى من جهةٍ تفهمه لمشاعر الصدمة لدى المسلمين ولكنه أكّد أيضاً أن ذلك يحدث لبقية الأديان الأخرى التي تعايشت مع الأمر كجزءٍ من حرية التعبير التي يستفيد المسلمون أيضاً من تمتعهم بها وامتلاك الحق في ممارستها في بلدٍ كفرنسا.
رسالت إيمانويل ماكرون الثانية كانت التأكيد على التمسك بقيم بلاده العلمانية التي كانت ثمرة عصر التنوير حد وصفه، معتبراً هذه القيم سبب ازدهار وضع بلاده وحريتها.
الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، طالب من جهته في إقرار تشريعٍ دوليٍ يجرم الإساءة للإسلام ورموزه، فيما طالب ناشطون مسلمون على وسائل التواصل الإجتماعي بتشريعٍ كهذا في فرنسا على غرار التشريع الذي يجرم معاداة السامية وإنكار الهولوكوست.
ماكرون بدوره رد على هذا الطلب، الذي طرحه محاوره في قناة الجزيرة أيضاً كأحد أسئلة اللقاء، واصفاً ذلك بالوقوع في لغطٍ وسوء فهم وتمييزٍ أخر ما بين التاريخ والدين والشعوب، أي أنه يُسخر من اليهودية في فرنسا أيضاً باعتبار ذلك حرية تعبير ولكن العنصرية تجاه اليهود تعتبر غير قانونية، والأمر كذلك بالنسبة للإسلام والمسلمين، فالعنصرية تجاه المسلمين غير قانونيةٍ أيضاً وتعمل الدولة على مكافحتها.
وكان نص رد الرئيس الفرنسي على هذا السؤال ” أنت تخلط ما بين أمرين، التاريخ واحترام الشعوب فيما بينها والديانات، فرنسا تكافح معاداة السامية والعنصرية بكل أشكالها”
من جهةٍ أخرى أفاد بأن الدولة ليست مسؤولةً عن ما تنشره الصحف غير الرسمية رغم تفهمه لمشاعر المسلمين الغاضبين من السخرية من معتقداتهم ورموزهم، وفرنسا لا تتبنى السخرية من الإسلام كدولة ولكن مهمة حماية حق حرية التعبير على أراضيها هو مسؤوليتها ” أنا أتفهم هذه المشاعر، ولكن أريد هنا أن تفهم دوري، دوري هنا أن أهدئ الأمور كما أفعل، ولكن دوري في نفس الوقت هو أن أحمي هذه الحقوق، هناك فارقٌ على جميع المسلمين الذين صُدموا أن يفهموه، السؤال ليس أن نعرف إذا كانت فرنسا وممثلها رئيس الجمهورية ترسم كاريكاتورات أو تدعمها، ليس هذا هو الموضوع، لأن الصحافة حرة، هذه ليست صحفاً رسيمة، الحكومة الفرنسية لا ترسم الكاريكاتورات، السؤال هو هل رئيس الجمهورية في فرنسا موافقٌ على إلغاء هذا الحق؟ الجواب هو لا، هذا حقٌ من حقوق الشعب الفرنسي، ويتعلق بالكل، وبالتالي ما هو هام أنه علي أن أحافظ على هذه الحرية”
بالإضافة إلى ذلك فقد تمسك الرئيس ماكرون بقيم بلاده التي أراد في رسالته توضيحها للمسلمين بقوله “فرنسا بلدٌ حريصٌ على حرية المعتقد وعلى ما يسمى بالعلمانية، هذه الكلمة المعقدة جداً والتي تثير الكثير من سوء الفهم، والذي أمل أن نزيله اليوم، أُذكر أنها تعني حرية الإيمان أو عدم الإيمان، وهذا يجعل من فرنسا بلداً نريد أن يكون فيه لكل مواطنٍ أياً كان دينه نفس الحقوق السياسية والمدنية، أياً كان دينه أن يكون مجتمعاً يعيش مع كل الديانات التي تعيش فيه، وهذا شيٌ هام”
وفي تعليقٍ على سبب رسالته هذه في ظل الهجمات الإرهابية التي تعاني فرنسا منها من قبل المسلمين والتي قدر عدد ضحاياها الرئيس ماكرون في العقد الأخير بأكثر من ثلاثمائة قتيلٍ من المواطنين الفرنسيين، حيث وصف رسالته بقوله ” أود أن أوجه هنا رسالة حزمٍ ضد الإرهاب، ضد كل المتطرفين العنيفين، وأيضاً في نفس الوقت رسالة سلامٍ ووحدةٍ، ورسالة قول الحقيقة، هذا هو هدفي الرئيسي من حديثي معكم اليوم”
وحول العلمانية الفرنسية ومشاكل الحكومة مع الحجاب، تحدث الرئيس الفرنسي عن ذلك بوصفه خصوصيةً تمتع به العلمانية الفرنسية من حيث نشأتها في القرون الماضية التي قرر فيها الفرنسيون استبعاد الشأن العام عن الدين وفصل الكنيسة عن المصالح العامة والحكومة، وأن ذلك ليس فقط شأناً خاصاً بالحجاب الإسلامي والمسلمين وإنما بالرموز الدينية الأخرى للدول المختلفة.
وقد كان نص رده على ذلك بقوله ” تاريخ بلدنا بنى الشأن العام أو المصلحة العامة بإخراجها من الدين نوعاً ما، وهذا ما يسمى غالباً بالعلمانية”
وفي سياق مواجهة الإرهاب والمجتمعات الإنعزالية في فرنسا فقد شدد الرئيس الفرنسي على عزم حكومته المضي في حل الجمعيات المشبوهة ومنع حدوث أي حرمان للفتيات والنساء المسلمات في فرنسا وعدم معاملتهن دون قدم المساواة مع الرجل كما هي قيم بلاده.
كما اتهم القيادات السياسية للبلدان الإسلامية والعربية بالمشاركة بطريقة مباشرة وغير مباشرة في شرعنة ودعم عمليات العنف الإرهابية التي تحدث على أيدي المسلمين في فرنسا تجاه بقية فئات الشعب الفرنسي، وأنه وإن لم يكن داعماً للرسوم الساخرة إلا أنه سيحمي حق رساميها في التعبير وحق الشعب الفرنسي من العنف كمسؤولية ملقاةٍ على عاتقه كرئيس للجمهورية قائلاً ” حتى أني لا أتفق مع الهدف من هذه الكاريكاتورات، إلا أني هنا أحمي من رسمها، هذا حقٌ يمارس في فرنسا”
أما في سياق التراشقات التركية الفرنسية في الأونة الأخير وتذبذب العلاقات ما بين البلدين، عبر ماكرون عن احترامه للرئيس التركي كممثلٍ للشعب التركي وأعرب عن تضامنه مع ضحايا زلزال إزمير الأخير مفيداً أن بلاده سارعت بعرض المشاركة في تقديم المساعدة لتركيا.
كما أضاف أن المشكلة الحقيقية مع النظام التركي هو وجود أطماعٍ إمبريالية لدى الأخير في مشاكله في الشرق الأوسط وشرق الأطلسي وشمال إفريقيا، حيث أعلن وقوف فرنسا مع اليونان في الإعتداءات التركية على مياهها الإقليمية كدولةٍ عضوٍ في الإتحاد الأوروبي، مستنكراً أيضاً الإحتلال التركي لشمال سوريا ومحاربة الأكراد بالإضافة لمخالفتها التفاهمات والقرارات الدولية بشأن ليبيا وإدخال تركيا مقاتلين مرتزقة وأجانب للمشاركة في الصراع الدائر هناك.
وواصفاً الأطماع التركية بالمزعزعة لاستقرار المنطقة قال الرئيس ماكرون ” تركيا لها أطماع إمبريالية في المنطقة، وأعتقد أن هذه الأطماع الإمبريالية ليست أمراً جيداً لاستقرار المنطقة”
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أرسل رسالته، ومازالت تبحث عن من يصغي إليها ويتفهم.