في عام 1950 صدرت في مصر عدة قوانين مقيدة لـ حرية الصحافة أشهرها ما يخص القصر الملكي ومنع تداول أي أخبار بشأن العائلة المالكة، وهو ما يعني وقتها فقدان أي مراقبة صحفية على حكام مصر وعلاقتهم بالداخل والخارج.
في هذا التوقيت ثار الإخوان المسلمون على تلك القوانين من حكومة الوفد، وعملت أشهر الصحف الداعمة لهم وهي “المصري” على فضح تلك القوانين مع رفع شعارات حرية الصحافة وخلافه بقيادة رجل الصحافة البارز وقتها “محمود أبو الفتح” وأبيه الشيخ “أحمد أبو الفتح” الذين كانوا بجريدتهم المصري أشهر من عرضوا أسرار قتل الشيخ “حسن البنا” وأرقام سيارة الجُناة في حين رفضت بقية الصحف أن تتورط في هذه القضية خشية توريط نفسها كطرف صراع بين القصر الملكي والجماعة، وكانوا ضد محاولات الحكومة الوفدية بتقييد الصحافة ومنع تداول أخبار القصر على وجه الخصوص.
وإلى وقت قريب كانت حرية الصحافة “من ثوابت جماعة الإخوان كشعار ومبدأ فوق دستوري” تم تضمينه في برنامج حزبهم المفترض في الألفية الجديدة، ومع نشاط وحركة عناصر الجماعة ضد غلق صحفهم الخاصة كآفاق عربية والشعب، وإذا نظرنا في جوهر هذا المبدأ لحرية الصحافة في الفكر الإخواني والجماعات الدينية المنخرطة بالسياسة عموما نجد أنه غير مُحرر بما يكفي لتوضيح ماهيته، خصوصا وأنه شعار فضفاض لم يُحرر مفهوم الحرية نفسه فلسفيا ولا مفهوم الصحافة..حيث سيجري اعتبار أعمال مراسلي الجماعة ومواقعهم الألكترونية مثلا وفق هذا المبدأ وبالتالي فعلى هؤلاء المراسلين التقيد بقوانين الصحافة الملِزمة في النقابة وهي مسألة جدلية كون هؤلاء غير مقيدين في النقابات ولا محسوبين على الدولة بل على الجماعة فقط.
تدور الأيام والسنوات ثم يأتي الربيع العربي الثوري عام 2011 ليبدأ الإخوان عهدا جديدا مع حرية الصحافة، فكل المفاهيم والثوابت التي آمنوا بها في فترة الاستضعاف صارت تهديدا حقيقيا لهم فعملوا على شيطنة وتكفير أي وسيلة إعلامية نقدية من قنوات وصحف وبرامج ومذيعين حتى وصل الأمر بهم لحصار مركز صحافة وإعلام مصر وهي “مدينة الإنتاج الإعلامي” ثم في تهديد أشهر المذيعين الساخرين “باسم يوسف” وغيره من مقدمي برامج التوك شو وقتها الذين كان لهم الدور الكبير في حشد الشارع ضد الجماعة في 30 يونيو 2013.
والآن مع تطور الصراع بين فرنسا وتركيا في عدة ملفات دولية قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حشد أدواته الدينية ضد فرنسا والهجوم على أشهر ثابت من ثوابت الدولة الفرنسية وهو “حرية الصحافة” لاستنكار بعض رسومات فناني فرنسا في مجلة “شارلي إبدو” الساخرة من الدين الإسلامي، مع نشاط إخواني سلفي واسع نجحوا في حشد العوام عاطفيا حتى وصل الأمر لدعوات الثورة والتظاهر في الشارع المصري يوم الجمعة 30 أكتوبر بدعوى الدفاع عن الرسول، وقد علمنا منذ قليل أن حرية الصحافة هي ثابت من ثوابت الإخوان (قديما) في مرحلة الاستضعاف قبل ثورة يناير 2011 لكن تم الانقلاب على هذا الثابت أولا: من حيثية سياسية ضد منافسيهم في الداخل المصري، وثانيا: من حيثية دينية ضد غير المسلمين خارج مصر.
وهنا يُطرح إشكالا مُهما: ما الذي يحدد مفهوم حرية الصحافة خصوصا والإخوان المسلمون يبررون تناقضهم ذلك بأنهم ليسوا ضد الحرية كمبدأ ولكن ضد السخرية والإهانة، فهم رفضوا سخرية باسم يوسف منهم لشعورهم بالإهانة وكذلك سخرية شارلي إبدو، وهنا جوهر الإشكال الذي طرحته في المقدمة أن إيمان الجماعة بمفهوم “حرية الصحافة” سابقا كان ناقصا أو به عوار شديد، حيث لم يعلنوا أو يحرروا مفهوم الحرية المطروح، بمعنى أن لجوئهم لتحرير ذلك المفهوم سيمنعهم فورا من إهانة المعتقدات الأخرى كمثال أو السخرية من الأحزاب المنافسة كمثال آخر، لكن رأينا وهم يسخرون من منافسيهم وقتها كحمدين صباحي والبرادعي مع شتائم وأوصاف مهينة خارج السياق الفني، في وقت رأيناهم ينتفضون ضد سخرية باسم يوسف وهو يعتمد في برنامجه على أقوالهم ومواقفهم بتعليق سياسي وفني.
إن تحرير الجماعات لمفهوم الحرية وإيمانهم به سيفرض عليهم منع تكفير المعتقدات الأخرى والتحريض عليها في السر والعلن، حيث أننا وفي عصر التكنولوجيا والصورة اختفت بشكل كبير هذه الفوارق بين السرية والعلنية ، وكل ما يدور في الغرف المغلقة صار عُرضة بشكل كبير للإعلان.. وفي سياق هجومي.. وهو ما لم تدركه الجماعة بعد أن حياتها الدعوية أكثر من 70 سنة في العمل السري لم تعد مقبولة حاليا وسينتج عن ذلك عناصر إخوانية ودينية عند الآخر ليسوا مجرد عناصر متشددة بل “منافقة تستعمل التقية” وهي صورة أًصبحت ملازمة للعنصر الإخواني حاليا الذي يقول في السر ما لا يقوله في العلن.. وعند افتضاح هذه الأسرار بطريق الصحافة لا يراجع نفسه ولا منهجه السري الذي صنع تلك الازدواجية بل يلقي باللوم كاملا على من أعلن وكشف للمجتمع هذه الأخطاء.
ولتأكيد هذه الازدواجية نعود بالزمن لجيل المؤسسين في الإخوان، حيث نجد لغة مختلفة تماما عن المشهورة اليوم، ففي خطاب المرشد العام الإخواني في 4 مايو 1954م للحكومة نجد هذه الجُملة "وأود أن تطلقوا الحريات جميعًا ، وعلي الأخص حرية الصحافة، فإن في ذلك خير مصر وأمنها وسلامتها" (أحداث صنعت تاريخ لمحمود عبدالحليم 5/ 388) وهنا نرى بوضوح أن المرشد يطالب بجميع الحريات ليست فقط الصحافة، فهل الجماعة فعلا وعموم التيار الإسلامي يؤمن بجوهر كلام المرشد أم كان خطابا تعبويا خارج المنهج لا غير؟
ولتأكيد هذه الازدواجية نعود بالزمن لجيل المؤسسين في الإخوان، حيث نجد لغة مختلفة تماما عن المشهورة اليوم، ففي خطاب المرشد العام الإخواني في 4 مايو 1954م للحكومة نجد هذه الجُملة “وأود أن تطلقوا الحريات جميعًا ، وعلي الأخص حرية الصحافة، فإن في ذلك خير مصر وأمنها وسلامتها” (أحداث صنعت تاريخ لمحمود عبدالحليم 5/ 388) وهنا نرى بوضوح أن المرشد يطالب بجميع الحريات ليست فقط الصحافة، فهل الجماعة فعلا وعموم التيار الإسلامي يؤمن بجوهر كلام المرشد أم كان خطابا تعبويا خارج المنهج لا غير؟
الجواب: إن حرية الصحافة منذ قدوم العهد الإنجليزي وهي منصوص عليها قانونيا، ويشهد بذلك المؤرخ المصري “عبدالرحمن الرافعي” في مذكراته صـ 50 حيث يقول “عادت بي الذكرى إلى مظاهرات اشتركت فيها , وأخرى شهدتها، منذ سنة 1908، مظاهرة طلبة الحقوق سنة 1908 لمناسبة عرض جيش الاحتلال في ميدان عابدين.. ومظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة وإعادة قانون المطبوعات مارس – 1909” ويعني ذلك أن الوعي المصري بأهمية حرية الصحافة كان أقدم من نشوء الإخوان بعقود وأن الجماعة لم ترفع هذا الشعار في صراعاتها مع الحكومة إلا بيقين جازم على أن تلك الحرية حق أصيل لهم كمعارضين وناقدين لنظام الحُكم.
بل أن هذه الحرية كان لها طابعين، الأول سياسي والثاني علمي، ومن أشهر ممثلي الطابع السياسي في الحريات كان الزعماء “سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد” أما أشهر ممثلي الطابع العلمي فهو الأستاذ “سلامة موسى” بمجلته المستقبل سنة 1914م، وبالتالي أصبح رفع شعار حرية الصحافة له وجهين ثوري وعلمي، وكلا الوجهين لهما وقع في النفس جيد أقرب للشعور البدهي الضروري، فالحرية ليست مجرد شعار مُضاف بل ضرورة حياة ومتنفس بشري لحياة الدولة، ومن هذا المدخل صار للإخوان وجود شعبي كبير تضاعف مع الزمن بفضل حرية الصحافة..لكنه ولعدم إيمانهم الراسخ بجوهر تلك الحرية انقلبوا عليها بعد يناير إلى تصرفات وسلوكيات قروسطية هم كانوا ينتقدونها على بعض الجماعات في السابق.
على الوجه الآخر في الفكر الشيعي فقد ظهرت محاولات في نفس الفترة التي عاش فيها سلامة موسى وزعماء مصر ضد الاحتلال الإنجليزي للدخول في الحداثة والإيمان بالحريات، وأشهر تلك المحاولات ما كتبه المفكر الإيراني الشيخ “محمد حسين النائيني” في كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” حيث رفض النائيني مصطلحات كالمؤامرة والتغريب.. إلخ التي شاعت في أوساط الشيوخ والمراجع، وقال ” أن الأمة إذا أرادت أن تسلك سبيل التقدم والازدهار وجب عليها الاعتراف بهزيمتها وتخلفها. وأن تطرح مشاكلها التي تعاني منها بصورة واقعية. وتشخيص أسباب انحطاطها. مؤكداً أن الغرب كان يعاني من مرحلة التخلف الثقافي والعلمي. لكنه، على عكس المسلمين، استطاع بعد ذلك أن يتحرر من الهزيمة النفسية ويخطط للانقلاب. وفند آراء القائلين بأن المبادئ الدستورية هي أفكار غربية بقوله: أن الغرب هو الذي أخذها من شريعة المسلمين. وعندما حصلنا على شيء من التنبيه والشعور، فإن بضاعتنا ردت إلينا” (التيار الإسلامي في الخليج – هاشم الطائي صـ 33).
كما تضمن كتاب النائيني آراء جريئة تركزت حول حرية الصحافة والرأي، وتعليم المرأة، وحقوق الإنسان. وثمة من يؤكد تأثر النائيني بأفكار بعض المصلحين كالأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وكتابه طبائع الاستبداد..(المصدر نفسه صـ 34).
وجوهر فكرة النائيني أن الحريات والإيمان بحقوق الإنسان وفقا لرأيه في الكتاب هو الذي سيعزز إيجابية المجتمع ويجعله قادرا على مواجهة التحديات وينجح في تجاوز العقبات عن طريق النقد الذاتي أولا، والتبّصر بمواطن الخلل ومن ثم العلاج، أما تقييد حرية الصحافة فمصير ذلك دولة فاشلة، وفي التاريخ أدلة على أن تلك القيود كانت سببا في هزيمة كبرى لمصر هي الأشهر ربما في تاريخها القديم والحديث وهي نكسة 1967..حيث أرجع الكثير من المفكرين أسباب النكسة لغياب النقد الذاتي وانتشار الخوف والسلبية في المجتمع بشكل أجبر الجميع على التخلي عن دوره الإصلاحي والتوعوي لحياة مادية فيها من الترف والبذخ ما يكفي للعيش سعداء بعيدا عن تهديدات وبطش السلطة..
ومن ذلك ما كتبه أحمد عبدالله رزة في كتابه “الطلبة والسياسة في مصر” صـ 244 في حديثه عن آثار الهزيمة: “وقد انتقلت قضية الحريات السياسية من الشارع إلى داخل مؤسسات النظام، فعلى سبيل المثال تقدم أعضاء الإتحاد الإشتراكي ـ فى اجتماع لوحدته فى وزارة الثقافة ـ بشكوى يقولون فيها إنه “لم يسمح لهم بالمشاركة فى المسائل السياسية، لأن الخوف والسلبية يتغلغلان في كل ركن من أركان المجتمع ، وركزت توصيات مؤتمر لوحدات الإتحاد الإشتراكي فى جامعة القاهرة في يوليو 1968 على الحريات الأساسية وعددتها على النحو التالى: “حرية الفرد في التعبير والنقد، حرية الاجتماع والندوات السياسية المفتوحة، حرية الاحتجاج السلمى، حرية الصحافة ووسائل الإعلام، وتبعيتها لمؤسسات جماهيرية، كما نادت أيضاً بما يلي:
أ) تشكيل حكومة دستورية.
ب) وضع دستور دائم.
ج) تقرير مبدأ حق الجماهير فى سحب ثقتها ممن ولته حق تمثيلها على كل المستويات.
د) تعريف الجماهير أولا بأول بحقائق الموقف السياسى.
حرية الصحافة أكبر من أن تصبح سلعة في مزاد استهلاكي
فحكام مصر وقتها لم يفطنوا لموضع الداء سوى بعد التجربة الأليمة في يونيو 67 بسيناء، قبلها كانت مفاهيم الديمقراطية والحرية هي مفاهيم بذيئة تليق أكثر بالاستعمار ومنتجاته، لاسيما أن هذه الصورة لحرية الصحافة لم تكن محصورة عند أقطاب النظام الناصري بل في معارضته أيضا لدى الإخوان المسلمين والجماعات، وتشهد على ذلك كتابات سيد قطب في السجون وانشقاق التنظيم الديني لجماعات مختلفة في تصورها لأسلوب الحكم وتوقيت الجهر بتطبيق الشريعة.
أخيرا، حرية الصحافة أكبر من أن تُصبح سلعة في مزاد استهلاكي، بل هي حق للجميع وخصوصا للمفكرين وأصحاب الرأي السلمي، ومن هنا يجب أن يقف المفكرون والنُخَب على تفسير لمعناها يقفز على حواجز الدين والحزبية والمذهبية.. فالذي يحدث حاليا من ثورة إسلاموية راديكالية على حرية الصحافة الفرنسية ومن قبلها على الدنماركية والهولندية هو تعبير عن حالة سلطوية دينية لا زالت تعيش في القرون الوسطى هي التي تتحكم في مشاعر المسلمين في الغالب، ويقودهم في هذا الصراع تيار متشدد مرّ بتجربة عنيفة وفاشلة في مصر وسوريا، وسرعة ارتداد تلك التجارب في نفسه أكسبته عنفا وهمجية لا تُطاق؛ وبالتالي صاروا خطرا على المسلمين أنفسهم قبل أن يصيروا خطرا على الحضارة الغربية.