يتركز اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط والمنطقة الخليجية على وجه الخصوص في ثلاث نقاطٍ رئيسيةٍ هي موارد الطاقة الخليجية، قيام إسرائيل والصراع مع المشروع الإيراني في المنطقة.
موارد الطاقة الخليجية
تحول اهتمام الولايات المتحدة صوب الخليج بعد أحداث الحرب العالمية الأولى وظهور النفط، فيما ظهرت طبيعة هذا الاهتمام مع الاتفاقية الأنجلو أمريكية مطلع أربعينيات القرن الماضي، حيث منحت الولايات المتحدة امتيازات التساوي في استثمار موارد الطاقة الخليجية وارتقت بعلاقاتها مع السعودية وبقية الدول الخليجية لتصل لمستوى التعاون في المجالات الاقتصادية، وخصوصاً القطاع النفطي، والسياسية والعسكرية.
تحولت مسألة استقرار منطقة الخليج لأولويةٍ أمنيةٍ بالنسبة للولايات المتحدة لضمان استمرار تدفق النفط الخليجي لأسواقها وتغطية احتياجاتها منه، في حين طالبت الشركات الأمريكية المستمثرة في توفير بيئةٍ آمنة ومستقرة للحفاظ على استثماراتها، وهو ما أبقى على أشكال السلطات الحاكمة في هيئتها الحالية بدعمٍ وحمايةٍ أمريكيين لضمان حلفاء دائمين لواشنطن.
ساهمت الولايات المتحدة في تحقيق استقلال دول الخليج من الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية ووقوف السعودية معها في الحرب بالإضافة إلى دورها في الحرب الباردة منذ مطلع السبعينات، فيما ازداد اهتمام الأمريكيين بالمنطقة بعد تأميم قناة السويس 1956م وظهور خطر القومية العربية الذي بدأ مع الثورة المصرية 1952م، ومشروع ناصر الاشتراكي وتنافس القطبين العالميين في الشرق والغرب، انتهاءً بالثورة الإسلامية في إيران1979م وإطاحتها بأهم حلفاء واشنطن في المنطقة.
عوداً على الاهتمام الاقتصادي الأمريكي بموارد الطاقة في الخليج، تزايدت الأصوات في الداخل الأمريكي وفي مؤسسات رسميةٍ من أن مبررات التواجد العسكري الأمريكي حالياً غير مقنعة، فيما يوصف هذا التواجد بالعبثي وإهدارٍ لمقدرات وأموال الولايات المتحدة في دعمها وحمايتها لأنظمة استبدادية حسب ما جاء في تصنيف مؤشر الديمقراطية العالمي.
بحلول العام 2018م تناقص حجم الاستيراد الأمريكي للنفط الخليجي ليصل لمستوى 2 مليون برميل يومياً فقط، فيما أعلنت الكويت في العام نفسه توقفها عن تصدير النفط للولايات المتحدة وتوجهها نحو السوق الآسيوية التي تستهلك 80% من حجم إنتاجها، فيما تفيد تقارير حكومية أمريكية أن الولايات المتحدة أصبحت تنتج 19.25 مليون برميل من النفط الصخري يومياً وتستهلك ما يقارب 20.4 مليون برميل.
تراجع الاحتياج الأمريكي يقلل من أهمية البقاء العسكري الأمريكي بحجمه الحالي في المنطقة، رغم بقاء أسباب أخرى تبقيها سنأتي عليها، إلا أن هذا يعني تراجع الاهتمام الأمريكي من حيث أولوية تقديم الحماية للأنظمة الخليجية الحالية ووقوفها في وجه أي عملية تغييرٍ سياسيةٍ في منطقة الخليج.
تراجع الاحتياج الأمريكي لنفط الخليج، والذي سيصل لمعدلاتٍ صفرية في حين كان يبلغ 70% من إجمالي الاستهلاك الأمريكي قبل عقدٍ من الزمن، يحتم على الدول الخليجية الاقتراب أكثر من المصالح الأمريكية لضمان بقاء الدعم السياسي والعسكري الذي تقدمه واشنطن إلى جانب ضمان حدوث تغييراتٍ نسبية في السياسة الداخلية، وهو ما يظهر في التغييرات السعودية داخلياً وتعاطي الأنظمة الخليجية مع قضايا تهم واشنطن بالدرجة الأولى في المنطقة، كمسألة إسرائيل والقضية الفلسطينية والصراع مع إيران.
يبقى السؤال الحقيقي هنا، ما الذي يبقي اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة الخليجية اقتصادياً وسياسياً؟، وهو ما يمكن الإجابة عليه بأن مسألة اهتمام واشنطن بالنفط الخليجي رغم تراجع أو انعدام احتياجها له يكمن في كونه عامل قوةٍ سياسيةٍ عالمية يحفظ لأمريكا مركزيتها كقوةٍ عالمية، وخصوصاً في المواجهة الاقتصادية مع التنين الآسيوي الصاعد، الصين.
الصين وأمريكا
في الأزمة المالية العالمية 2008م، بادرت الصين بعرض مشروعها في استبدال التعامل العالمي بالدولار للرنمنمبي الصيني لحل مشكلة السيولة العالمية، الأمر الذي أدخلها في مواجهاتٍ اقتصاديةٍ باردة وصلت ذروتها مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض والدخول في حربٍ اقتصادية مباشرة بين البلدين، شملت قيوداً اقتصادية على الصادرات الصينية وعقوبات.
الحلم الصيني في كتابة نهاية فصول الدولار والحلول محله مازال نصب أعين بكين، وهو أحد أهم تداعيات الأزمة التجارية بين الصين والولايات المتحدة، حيث أصبح الرنمنبي واحداً من احتياطات الدول بالإضافة إلى أن بكين تسعى لخلق منظومةٍ اقتصاديةٍ آسيوية تستغني فيها دول الشرق الآسيوي من التعامل بالدولار في معاملاتها التجارية، إلى جانب ضرورة الأخذ في الاعتبار أن 25% من الصادرات الصينية تتم بالرنمنبي الصيني حالياً حسب الجزيرة.
ومع توجه تدفق النفط الخليجي للسوق الآسيوية، وسعي الصين لشراء النفط بالرنمنبي ومشروع العملة الرقمية، تبرز حاجة الولايات المتحدة لاستمرار هيمنتها على النفط الخليجي كعامل قوةٍ يحفظ استمرار هيمنة الدولار أمام خطط بكين في استبداله بعملتها، حيث إن شراء بكين للنفط بعملاتها واستمرار تصاعد حجم صادراتها بنفس العملة سيقلص مستقبلاً من حجم الاحتياطات العالمية بالدولار، ما يعني نهاية عهد الدولار وبداية عهد هيمنةٍ صينية جديدة على الاقتصاد العالمي.
تنافسٌ في العمق الآسيوي
من جهةٍ أخرى، تزداد أهمية النفط الخليجي بالنسبة للولايات المتحدة من حيث حاجتها لاستمرار تدفق النفط لحلفائها في العمق الآسيوي وضمانها استمرار هذا التدفق والتعامل بالدولار الأمريكي والحد من التعامل التجاري بالرنمنبي بين الدول الآسيوية والصين.
هذه العوامل المتعلقة بمصالح واشنطن في المنطقة وبالنفط الخليجي على وجه الخصوص يظهر بأن العلاقات الخليجية الأمريكية هي علاقاتٌ تشكلها حاجة الولايات المتحدة لموارد الطاقة الخليجية، وبالمحصلة فإنه ورغم الصراع الاقتصادي الصيني الأمريكي إلا أن الاحتياج الأمريكي للنفط الخليجي ليس كما هو في سابق عهده، أي التراجع النسبي في أهمية هذه العلاقة التي تحتاجها دول الخليج للبقاء، ما يدفع الأخيرة للاقتراب أكثر من مصالح واهتمامات واشنطن في المنطقة، كالقضايا المتعلقة بإسرائيل وإيران.
إسرائيل وإيران
دول الخليج اليوم ليست تلك الدول التي تحافظ على سياسةٍ خارجيةٍ متوازنة ولا تنخرط مباشرةً في الصراعات المسلحة أو تكتفي بصراعات الوكالة، فهي اليوم أكثر عدائيةً وتلقائيةً في سياستها الخارجية وتعاطيها مع صراعات المنطقة.
كانت السياسة الخارجية الأمريكية دوماً هي حجر الزاوية في السياسة الخارجية السعودية والخليجية، والتغير الذي يشهده العالم في تعاطي واشنطن مع ملفاتها الدبلوماسية يؤثر بشكلٍ مباشر على تعاطي السعودية والخليج مع هذه الملفات، بالإضافة إلى أنها أصبحت في حاجةٍ أكثر للاقتراب والتعلق بمصالح واشنطن في المنطقة الخليجية والعربية بعد تراجع احتياجات واشنطن للنفط الخليجي استهلاكاً.
حل قضية الصراع الفلسطيني العربي الإسرائيلي أصبح أولويةً قصوى بالنسبة لواشنطن مع صعود اليمين المتطرف فيها، ولذلك فقد أصبح من الحتمي على دول الخليج تصفية هذه القضية وعزل طهران والجماعات الإسلامية عن مجريات أحداث المنطقة، فتركيا الراعية لجماعة الإخوان والتي تتمتع بعلاقة أكثر امتيازاً مع إسرائيل من دول الخليج، وجماعة الإخوان ليست ذات ولاءٍ للقضية بذلك القدر الذي يظن عنها ويمكن لها أن تنخرط في عملية تسوية القضية لتأمين بقاءٍ سياسي تتسامح فيه واشنطن معها، وخصوصا بعد إعلان الإدارة الأمريكية دراسة تصنيف جماعة الإخوان كجماعةٍ إرهابية، ما يعني حشر طهران ومحورها في الزاوية.
من جهةٍ أخرى ترى واشنطن أن خروجها من المنطقة في ظل غياب حكوماتٍ شرعيةٍ قوية في منطقة الخليج يعني استبدالها بالتواجد الروسي والإيراني، حيث وأنها تقف في منافسةٍ شديدة مع محور المقاومة التابع لطهران واقترابها في أي لحظةٍ من انفجار يوشك أن يقود المنطقة بأكملها في صراعٍ ليس من طرفٍ في حاجةٍ إليه أو في قدرةٍ على تحمله.
علاوةً على ما سبق، فإن واشنطن ترى انسحابها من المنطقة عسكرياً دون حل القضية الفلسطينية وتحقيق استقرارٍ دائمٍ لإسرائيل يعني أنها تتخلى ببساطة عن تل أبيب أمام محيطٍ شعبيٍ عربيٍ يرفض وجود إسرائيل من أساسه وخصوصاً أمام تنامي قوة طهران ومحورها، لذا فالولايات المتحدة تعتبر وجودها في المنطقة حاجة بقاءٍ بالنسبة لتل أبيب.
بالنتيجة، تتنافس دول الخليج لزيادة اهتمام واشنطن بالمنطقة لضمان بقائها، ورغم تراجع حاجة الولايات المتحدة الاستهلاكية لموادر الطاقة الخليجية، يبقى نفط الخليج عامل هيمنةٍ لا يمكن أن تخاطر واشنطن بفقدانه لصالح منافسيها الدوليين إلى جانب رعاية مصالح حلفائها.