بينما يتم التحدث عن حرية الصحافة و حريات الصحفيين وحريات التناول والإبداع والتعبير وحق إلقاء الكلمة في أي مضمارٍ بأي وسيلة، يتم التغافل عن محورين رئيسيين: شمول حرية الصحافة لحرية القول والتعبير إلكترونياً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ أصبحت هي المنابر الرئيسية لانتقال الآراء والكلمات عبر العالم وبأسرع وقت وبشكل ينقل الحقيقة/الموقف كما هي عليه مصورة في كثير من الأحيان قبل أن يعطي الناقل أو المدون ما تحمله من دلائل وأسباب. المحور الآخر وهو الأهم والمنسِيّ دائماً، ما اعترى حرية الصحافة من فوضى الكلمة واختلاط الآراء حول الموقف الواحد عبر الثانية الواحدة وإلباس الأباطيل والشائعات ثوب الحقائق الذي يخلف وراءها كثيرا من المتابعين، وربما الموقنين بصحة ما ينقلونه لمجرد أنهم رأوه مكتوباً أو مدوناً بمنصات التواصل، الذي خلق أزمة في التصديق وفوضى في الخلط بين ما يتم التعبير عنه وما يتم نقله بميزان الحقيقة والحدث!
لازالت الأزمات نفسها التي تمر بها حرية الصحافة، بل تتفاقم مع انضمام عناصر عِدة جيوسياسية وتكنولوجية ..إلخ، تشير التقارير إلى أن العقد المقبل سيكون أسوأ. ستزداد الشراسة فيما يخص التعامل مع ملفات الصحافة وإنتاجات الصحفيين.. ستزداد عداوة الأنظمة الشمولية والسلطوية. ستستمر أدوات السلطات الخبيثة في بث الكراهية تجاه وسائل الإعلام ووسائل التواصل.. بالإضافة إلى أزمات اقتصادية ستزداد آثارها لتفتك بالمؤسسات الصحفية عبر العالم مما تهدد الكثير منهم بالإغلاق أو الانسحاب من المجال العام. والأهم تسابق عدة دول في ابتكار الوسائل وافتعال القوانين التي تهدد الحق في الحصول على المعلومة.
وحتى تأثرت الصحافة العالمية بأزمة كورونا وزاد قمع الصحافة والصحفيين خصوصا في المجتمعات والدول التي لا تستطيع أن تقوم بدورها في حماية مواطنيها والإنفاق على التدابير وتوفير الخدمات الصحية اللازمة للوقوف أمام فيروس كورونا المتوحش، بل استغلت الكثير من الحكومات انشغال الجميع بالجائحة لفرض تدابير تصعب من مهمة الصحافة/الصحفي؛ حيث لا يمكن أن تُتناول مجتمعيا بالاعتراض والشجب، إذ كانت أزمة كورونا فرصة سانحة للدول التي تمتلك سجلا غير مشرف في ملف الصحافة لتطبيق عقيدة “الصدمة” التي تحدث عنها ناعومي كلاين، حيث يتم استغلال ضعف الجمهور تجاه حدث ما وعدم قدرة الناس على التعبئة والحشد لفرض القوانين وتغيير الدساتير وتمرير التدبير التي يصعب على الجمهور تقبلها في الأوقات العادية ويصعب على السلطة فرضها في الأيام الطبيعية.
يستمر مسلسل انتهاك الصحافة وحبس الصحفيين
يستمر مسلسل انتهاك الصحافة وحبس الصحفيين، ولا يحدث تطورا في هذا الملف، تستمر النرويج والسويد وفنلندا والدنمارك وهولندا في تصدر مؤشر حرية الصحافة -وفق تقارير مراسلون بلا حدود وهي أهم المنظمات التي تقيس حرية الصحافة في العالم- ولا تزال كوريا الشمالية في المرتبة 180 عالميا كأسوأ بلد لحريات الصحافة، تليها تركمانستان وإريتريا، وكالعادة تظل إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط الأسوأ والأخطر عالميا بالنسبة لمن يعملون بمهنة الصحافة، حيث تحتل السعودية المرتبة 170 عالميا، ومصر 166 عالميا والأكثر سجنا لصحفيي العالم، والإمارات في المرتبة 131 عالميا والجزائر المرتبة 146، والسودان والعراق والصومال وليبيا بين مرتبة الخمسينيات والستينيات بعد المئة كأسوأ وجهات صحفية لمن يعملون في المجال عبر العالم. إلا أنه لا تزال أوروبا هي القارة الأكثر احترامًا لحرية الصحافة، متقدمة على منطقة الأمريكتين (الشمالية والجنوبية). وتقدم بعض الدول في مؤشرات حرية الصحافة كماليزيا والمالديف بعد مرورها بالتناوب السياسية (السودان رغم تراجعه في المشر إلا أنه تقدم 16 مركز بعد سقوط نظام البشير).
يتفاقم الوضع أكثر بعد أن أصبح في العقد الأخير جلياً أن من يستطيعون التعبير عما يحدث يكثر عددهم، بعد أن سهلت منصات التواصل الاجتماعي على المواطن العادي أن يتولى المهام نفسها ويمتلك القدرة نفسها على نقل ما يحدث والتعبير عن رأيه وأفكاره تجاه مجريات الأمور في الحياة العامة في السياسة والاقتصاد والطب وقضايا العلوم والدين ..إلخ. راج مصطلح الـ(participatory culture) وأصبح بإمكان الجمهور نقل المحتوى والخبر، وتغيرت المعادلة الخاصة بنقل الموضوعات والأخبار، فكان شقّا المعادلة قديما قائمين بين الـ(producer / المُنتِج)، والـ(consumer / المستهلك)، إلا أنه قد راج مصطلح جديد يوصف المرحلة وهو (Prosumer) أي الفرد والمواطن الذي أصبحت لديه القدرة على إنتاج واستهلاك الخبر في آن. وهنا تتحول البوصلة وتتخذ اتجاها آخر. فهناك أفراد بعينهم مُتابعون وينتظر كثيرون ما يقولونه ويخبرونه وما سينقلونه رغم كونهم مواطنين لا علاقة لهم بالعمل الصحفي العام وليس لديهم أية ارتباطات بالميديا. إلا أن كثيرا منهم لهم كلمة مسموعة، ولديهم قدرة كبيرة على التأثير في الوعي الجمعي، ولن نخطئ إن أدرجنا كثيرين منهم تحت مصطلح (Soft Power) أو القوى الناعمة.
وإن كانت تلك الميزات الجديدة التي حصل عليها الفرد العادي من امتلاكه للمتابعين والمشاهدين ومن ينتظرون إطلالاته وسطوره داخل الفضاءات الإلكترونية كتويتر وفيسبوك والمنصات التدوين والمواقع التي تتيح خدمة الكتابة ومقالات الرأي ..إلخ، وكذلك التي حصل عليها المواطن العادي من تنوع في وجهات نقل الخبر/الحدث والقدرة على مشاهدة الحدث بشكل مباشر مع ثراء وتنوع قنوات تحليله وربطه بالاتجاهات العامة وقضايا السياسة والمجتمع والاقتصاد.. إلخ، إلا أن الأمر الأخير مثّل صداعاً جديداً للمجتمعات الشمولية التي تعمل دائماً على سد أية فجوات يستطيع أن يتحرك فيها ناقل الخبر بكل حرية وأريحية، على أن تحتكر الدولة الحقيقة بشكل أكبر، ويكون مسار انتقال المعلومات والأفكار عبر مؤسسات الدولة السياسية والتشريعية والدينية على أن يذهب حلم استقلالية الفرد بتعبير إريك فروم أدراج الريح.
ومع استمرار أزمة الديمقراطية في الكثير من وجهات العالم والتي تولد بالضرورة أزمة ثقة بين المواطن والدولة وما تمثلها من جهات صحفية وإعلامية، أتى التحول الرقمي ليكون متنفساً طال انتظاره بالنسبة لمواطني العالم الذين ضنوا تحت وطأة تقارير الحكومة والوجوه نفسها التي تقول ما يُملى عليها وتنقل ما يُراد أن يتفشى وينتقل مع محاباة الحقائق وما يحدث على أرض الواقع بشكل طبيعي، فتقلصت أعداد الصحفيين، وقت توزيعات الصحف الورقية وانهارت مبيعاتها واضطرت كثير منهم إلى غلق أبوابها، وقد نتج عن هذا عواقب اجتماعية وخيمة، وآثار خطيرة على الاستقلالية التحريرية في وسائل الإعلام بمختلف القارات، إذ من الطبيعي أن تكون الصحف التي تعيش وضعًا اقتصاديًا هشًا أقل قدرة على مقاومة الضغوط وتستمر في نقل المعلومات والأحداث بشكل خاطئ ومن هنا حل الكثير من الأفراد العاديين محل “الصحفي”، وأصبحت لهم قنواتهم التي تنقل ما يحدث بشكل مباشر كما هو عليه مُدرجٌ بالتحليل والتفسير.
إلا أنه قد غابت اللوائح التنظيمية عن هذه الظاهرة “طريقة نقل الخبر الحر عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي”، ولا توجد إلى الآن أية قواعد تعمل على حوكمة العصر الرقمي وعولمة الاتصالات، الذي أحدث فوضى إعلامية حقيقية، واختلاط الصحافة الإلكترونية باتجاهات الـ(marketing) والدعاية والإعلانات والشائعات، واختلط المحتوى التحريري بالتجاري بالسياسي الذي أدى إلى ظهور خلل في التوازن على مستوى الضمانات الحُرة والشفافة لممارسات حرية الرأي والتعبير.
ومع تزايد مستخدمي الإنترنت الذي وصل إلى أربعة مليار مستخدم عبر العالم، أصبح مضمون الإشاعة ينتقل بشكل أسرع ومُستهلَك
ومع تزايد مستخدمي الإنترنت الذي وصل إلى أربعة مليار مستخدم عبر العالم، أصبح مضمون الإشاعة ينتقل بشكل أسرع ومُستهلَك، وأصبحت قنوات بعينها وأفراد مخصصين لنقل الأكاذيب والأضاليل وتزييف رؤية الوعي العام، الذي لم يختلف كثيرا عن المجتمعات والدول التي تتذيل مؤشرات حرية الصحافة في العالم، حيث إن المساحة التي أفردتها الشبكات الاجتماعية والمدونات الشخصية ومنتديات الحوار، تركت المجال لترويج الأخبار الكاذبة والتحليلات الخاطئة، والمزايدات الناقصة، واقتطاع حديث على قدر المراد، ونقل المعلومات دون مصدر موثوق، بل وقد يقوم مروّج الإشاعة بوضع أسماء وشخصيات وهمية لتأكيد صحة الأخبار التي يذكرها، فيقتنع بها القارئ ليقوم بنشرها دون التثبت من وجود هذه الأسماء، وهنا امتلكت مزية الانفراد بالمعلومة وأسبقية نقل الخبر والسرعة في النقل إلى المواطن العادي الذي جعل مهمة مروج الشائعة أيسر.
وهنا الأزمة الحقيقية أن هذا الانفلات وانتشار الشائعات الذي ينتشر بازديادِ انضمامِ المستخدمين إلى منصات التواصل الاجتماعي قد يؤدي إلى استغلال الدول السلطوية والشمولية للأمر في سن القوانين والتشريعات التي تعمل على سجن واعتقال من ينشر المعلومات بشكل خاطئ، وبالطبع كما اتخذت بعض الدول زمام المبادرة وجاء لها الأمر على طبقٍ من ذهب، ليكون المسلك الأقصر مسافة لمحاربة الصحافة الحًرة والصحفيين ومن يريدون نقل الحقيقة حتى لو كانوا من المؤثرين بمنصات السوشيال ميديا أو المواطن العادي الذي يستخدم كاميرا الهاتف وينقل ما يجري بتوصيف ما رأى لتفويت الفرص على من يقفزون على الحدث وإلباس المجريات غير ردائها الحقيقي واستغلالها لنقل رواية الحكومة والدولة والذي يفاقم أزمة حرية الرأي والتعبير والصحافة بشكل أعمق وأكبر، وتصبح فوضى نقل المعلومة والرقمنة إلى مزيد من الوقود لمسلسل انتهاك الصحافة.