بحكم دراستي بكلية العلوم قسم الجيولوجيا جامعة الإسكندرية ، سنحت لنا فرص كثيرة للسفر برحلات جيولوجية كل عام، حيث البحر الأحمر وجباله، وسيوة ومنطقة الواحات في قلب الصحراء الغربية، ومثلما كان الوجود الطبيعي متمايزا كان للوجود البشري شكله المميز أيضًا.
هذا الشكل المتمثل في بدو الصحاري والواحات، وهذا الوجود له ما يحكمه من طبائع وتعاملات وسيكولوجية حياة مختلفة تمامًا عن حياة المدينة، ثم زرت مدينة دهب بجنوب سيناء أكثر من مرة، وفي زيارتي الأولى تملكني الانبهار، وكأن علي الفرد أن يقطع مئات الكيلومترات، ليحظي بقدرٍ من الانبهار الذي أفقدتنا إياه حياة المدينة.
في كتابه الأكثر مبيعًا “انتصار المدينة”، يصرّح إدوارد غلاسيير أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد كيف أن المناطق الحضرية وازدهار المدن تجعل منا بشرًا، ولكن لا يمكن فهم هذا الانتصار بمعزل عن تكوينات وتطلعات وسيكولوجية هؤلاء البشر، وهل هذا الانتصار كان بمثابة نقلة إيجابية لصالح عوام البشر؟! أم يكشف في باطنه عن عوار وتشويه أصاب حياتهم؟
انتصار المدينة
قبل ظهور المدن والحداثة، كانت الحياة تتسم غالبًا بالانتقالية، حيث البيوت البدائية البسيطة ومساحات الأرض الواسعة وتوسع للرقعة الخضراء وتربية الحيوانات والدواجن، وكل هذه العوامل نقلت أشكالا معينة من الخبرات والرغبات والسلوكيات الاجتماعية، المتمثلة في غلبة أشكال العمل الجماعي لأفراد الأسرة، الترابط الاجتماعي والتقارب مع الجيران وقاطني البلدة، الهدوء الخالي من التكدس والزحام وسرعة وتيرة الحياة.
وبعد ثورة الحداثة والتقنية وبزوغ ملكوت رأس المال وسيطرته، تحولت الحياة من انتقالية لمركزية، حيث إسقاط الفراغ لصالح المدينة وانتصار معمار الفراغ، وظهرت نقلة نوعية في عرض الشوارع وارتفاع المباني والأضواء وإعلانات الحائط وألوان البوابات والشكل الواحد للبلوكات المعمارية، وسيطرة الطرق العمومية والمسارات الواحدة، كل هذا سرّع وتيرة الحياة، وهلهل الوجود والترابط الاجتماعي، وجعل الأفراد مُلحقين بكل ما يرتبط بحياتهم، لا فاعلين ومؤثرين في حياتهم، فالمنهجية التي تعتمدها حركة رأس المال تنزع دومًا لمركزة الثروة ومن ثم السلطة، وبالتالي إلحاق البشر وكل ما يرتبطون به بذلك المركز، وعليه فلا يوجد مكان لاستقلالية القرار أو الاختيارات الفردية.
كان هذا التطور طبيعيا ومناسبا لمآلات السلطة الحديثة، فمفهوم الدولة الحديثة المركزية استدعى القضاء على سلطة الأقاليم المنفصلة وحكم القبائل والعشائر والسيطرة المنفصلة على الأراضي والموارد والثروات، وبالتالي أصبحت المدن هي القوة الضاربة التي تستند إليها السلطة الحديثة حيث مراكز سلطة الدولة من مؤسسات البوليس والجيش والقضاء والتعليم والوزارات والمصانع والشركات ونواحي العمل المختلفة، وفي المدن تتركز الغالبية العظمى للسكان، ومن هذا المنطلق نستطيع فهم ثنائية الانتقال للمدينة لنيل سبل العيش وبالتالي تضخم العمران وتشويهه لحياة المدينة من ناحية، ومن ناحية أخرى ما يطرح من دعاوى الهروب من المدينة كحل شبه مستحيل في الظروف الحالية.
المدينة التي أعرفها
حين أقول إنني أعيش بالإسكندرية، فإن أول انطباع يظهر هو صورة الإسكندرية الجميلة بكورنيش البحر، ومصايف العجمي القديمة، وحدائق المنتزة وقصرها، وحلقة السمك الشهيرة ببحري… إلخ مما نجده عن الإسكندرية التي يعرفها الجميع من السينما والكتابات الأدبية الساحرة، أو زيارة صيفية عابرة، أو حكايات الآباء والأجداد، ولكن نستطيع أن نرسم صورة واقعية مبسطة عن إسكندرية اليوم، التي شطرها التطور إلى كمباوندات الاستثمار العقاري التي استقطبت الأغنياء الجدد، والأحياء القديمة التي عاش فيها الباشاوات كرشدي وكامب شيزار وكفر عبده ولوران ومصطفى كامل وجليم، هذا من ناحية، والتضخم العمراني على أطراف المدينة من ناحية أخرى، شرقًا كأبيس والعوايد والزوايدة ومحسن وزقزوق والفلكي وطوسون والمعمورة وكل ما يطلق عليه ريف المنتزة، وغربًا كالعجمي والبيطاش والهانوفيل والواحد وعشرين.
فمن الممكن أن تعيش في مدينة كالإسكندرية -العاصمة الثانية لمصر وواحدة من أقدم وأعرق مدن العالم- لكنها تعيش وسط عشوائيات تنمو على طرف المدينة، بلا خدمات ومرافق كالمياه والكهرباء، بطرق ترابية غير ممهدة، في تكدس ممل، وازدحام يومي روتيني، ووسائل مواصلات رديئة عبارة عن قطع من الخردة، تربط العزب والنجوع والمناطق بموقف الركاب المركزي، أتحدث هنا عن أطراف الإسكندرية لا عن الأرياف أو الأقاليم المنسية وأطراف القرى، فالأخيرة ظلمتها الجغرافيا، أما المدينة فتبين لنا قذارة الواقع الذي نعيشه.
فالكثافات السكانية والتجمعات الطرفية على المدن الكبرى في القاهرة وضواحي الجيزة وأطراف الإسكندرية، كانت بمثابة الرشوة الاجتماعية التي تغاضت دولة مبارك عنها، وتركتها تنمو وتتمدد لاستيعاب ما فشلت الدولة في احتوائه، ولهذا فالعمران قصة حزينة وأخرى إجرامية، بحسب تصريح الباحث المصري علي الرجّال، فمن ناحية كانت طريقة لاستيعاب قطاعات عريضة من محدودي ومتوسطي الدخل ممن رفعت الدولة يدها عنهم لإيجاد مسكن، ومن ناحية أخرى وقع الجانب الإجرامي بين خليط من المضاربة في العقارات وغسيل الأموال أو إيغال في الاستيلاء على الأراضي.
الهروب من المدينة
لم تنتصر المدينة سوى على البشر، ولم تجذبهم سوى لمزيد من الاضطرابات والصراعات، ولم تحسن حياتهم ولم تطور إمكاناتهم، بل جعلت كل فرد عدوا للآخر، وعمومًا يعتبر “الآخر” أكبر عائق في المدينة لأنه يقف أمامك في القطار وعند شباك التذاكر، وحيثما ذهبت، ويمكن أن ينفخ في المزمار أو يقرع الجرس أو يصرخ أو يتحدث بصوت عال أو يقذف سيجارته أمامك. باختصار شديد، يمثل “الآخر” مصدر إزعاج، فتمثل المدينة حالة من الغربة والنفور، وتبعث على التوحّد واحتمالات عالية من المرض والتدهور النفسي.
كل هذا يجعل الإنسان في حنين دائم للحياة الانتقالية القديمة، حيث البيت بدون سقف، والأفق الواسع بدون أسوار وحواجز، والبحر بدون بوابة وتصريح، والطريق بلا مرور، والأفعال الذاتية بدون ضابط، وهذا ملحوظ في التفاعل الهستيري للعديد ومشاركتهم لتجاربهم في أماكن ساحرة وبعيدة كدهب ونويبع وسيوة، تعكس رغباتهم في التحرر والهروب وكل ما هو مفارق للمدينة.
بالتالي يضاف لمفهوم “الهروب من المدينة” مضامين وأوجه عديدة تجاه الحرية والإرادة وفعل الذات، فيتحول الهروب في رحلة قصيرة إلى نوع من الفوضى اليومية، والتي تتسم بافتقارها لأي شكل من التحديد أو التوجيه، كوسيلة لإظهار الإمكانية المحجوبة للتجريب والمتعة واللعب في الحياة اليومية، ليظهر الهروب بالنهاية كتعريف لفظ الاستلاب والاغتراب اليومي للحياة، حيث قتلت المنظومة السائدة إمكانات بشرية كالسفر والترحال والتجوال ووقت الفراغ وأوقات المتعة في نفوس مواطنيها، قتلتها بالتخطيط المركزي والأمني، ذات الطرق الموحدة ونقاط التفتيش واستعراض القوة، ومركزة الطرقات وربطها بالارتكازات البوليسية والأمنية، والعمران البرجوازي الحقير الذي قتل تخيّل الفرد وإبداعه لتخطيط بيته وذوقه الخاص، وإلحاقه إما بالبلوكات والكومباوندات من ناحية، وإما إلقاءه في عشوائيات الأطراف والضواحي.
بهذا الشكل تستوعب السلطة “المدينة” الأماكن الساحرة المشار إليها، بكونها أماكن ننظر لها بقدرٍ من الجمال صعب المنال، أماكن تُزار لأسبوع في إجازة قصيرة، لكنها ليست أماكن للانتقال والعيش السهل، فقط أماكن للهروب المؤقت، أما الدوام للمدينة والعمل، والاغتراب الشامل الذي يدفع الإنسان في صراعه بين الرغبة الذاتية -سلوكيات ورغبات مكبوتة- التي لا يستطيع تحقيقها في المدينة، والرغبة الاجتماعية في العلاقات والعمل والأسرة.
فكل العذاب والأفكار الراسخة جرّاء الوجود البرجوازي المخطط لحياتنا ورغباتنا، لن يزول لمجرد أن يصبح لدينا ذوق وحس مختلف، بل بعد تخليصها من المخططين الكبار، ليكون الأفراد جغرافيين أنفسهم، معماريين بدورهم.