بلدٌ مسالمٌ يلعب دور الحياد الإيجابي في صراعات المنطقة، ويحافظ على نسيجه الإجتماعي بدرء الصراعات الأيديولوجية والدينية وتجريمها في الداخل لضمان دوام الإستقرار الداخلي، ولكن هل هذه الصورة الوردية هي حقيقة ما يجري في عمان ؟
قد لا تبدو تلك الصورة المعبرة عن الحياد والسلام وتوازن المواقف هي الوجه الوحيد للنظام العماني، فأسوأ وجوهه يصفها العمانيون في الزنازين الانفرادية والسجون السياسية.
تاريخياً، للنظام السلطاني الحاكم في عُمان تجربةٌ مشهودةٌ مع سياسة القمع والاضطهاد التي يمارسها لتبديد أي مخاوف مهما كانت جدية خطورتها على بقاء النظام الحاكم.
في العام 2019، رفعت السرية عن تقريرٍ محفوظٍ في الإرشيف الوطني البريطاني يعود للعام 1994 ويتعلق بسلطنة عمان حول إحدى قضايا قمع النظام الحاكم للمعارضة، والمعروفة بقضية معتقلي 94، أقدم النظام على اعتقال ما يقرب من 365 شخصيةً إسلامية أغلبهم من ظفار، كانوا ينظمون معارضةً سريةً للفساد المالي والإداري الذي كان ينخر جسد النظام، فيما أصدرت بحق معظمهم أحكام قضائية قاسية، تنوعت بين الإعدام والسجن المؤبد والطويل الأمد، كما تم استجواب عدداً غير معروفٍ غيرهم لم تحددهم الوثيقة إلا أنها ذكرت أنهم عدد كبير.
السلطان العماني الراحل، قابوس بن سعيد، وصف ذلك بالتطرف السياسي تحت مظلة إسلامية، وملقياً باللوم على الأصولية الإسلامية، متجاهلاً سوء الإدارة والفساد كأهم أسباب المشكلة التي رأى أن معالجتها بتشديد القبضة الأمنية داخلياً.
استمرار حوادث الاعتقال والإخفاء القسري التي يرتكبها النظام الحاكم يؤكد استمراره في ذات النهج القديم في التعامل مع المعارضين والنشطاء السياسيين.
أحداث العامين 2011 و2012، والتي تسمى بالربيع العماني، أظهرت الوجه الآخر للنظام في تعامله مع المتظاهرين السلميين المطالبين بالإصلاحات الإجتماعية والسياسية، حيث وخلفت تلك الأحداث حوادث قمعٍ منظم، وزجٍ بمئات النشطاء العمانيين في معتقلاتٍ سيئة السمعة، والتي مورس فيها التعذيب النفسي والجسدي بحق المختطفين.
شهاداتٌ لمعتقلي رأي تؤكد انتهاج النظام لوسائل التعذيب بحق السجناء السياسيين والمعارضين، منتهكةً بذلك القانون الدولي، واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.
“مواطن” تواصلت بالعشرات من الشباب والشابات العمانيين المعتقلين سابقاً على خلفية قضايا الرأي والمطالبة بالإصلاحات، لمشاركة قصصهم حول التعذيب.
إحدى الشابات التي خاضت تجربة مع معتقلات وتعذيب النظام أفادت أنها مازالت تحت المراقبة واكتفت بالقول أنه بالرغم من مرور عدة أعوام منذ اعتقالها مازالت تعاني أثار التجربة التي عاشتها ولم تستطع تجاوزها بعد، مضيفةً حسب قولها ” أتحفظ عن الحديث أكثر حول الأمر، فظروفي الصحية والعائلية تمنعني من ذلك”
الخوف وحده والإعتذار كان السائد على الغالبية من المعتقلين السابقين الذين ما زالوا يعيشون في السلطنة حتى الأن، وقد يعتبر هذا الأمر كافياً لتوضيح طبيعة تعاطي النظام مع مواطنيه، ومدى ضيق مساحة التعبير لديهم بعد أن خاضوا تجارب قاسية مع التعذيب في زنازين انفرادية.
مركز الخليج لحقوق الإنسان، في تقريرٍ سابق، نشر شهاداتٍ حول تجارب عمانيين تم اختطافهم من قبل أجهزة النظام الأمنية راوياً بعض تفاصيل التعذيب والإنتهاكات التي ارتكبت بحقهم.
أحد الأطباء العمانيين، الدكتور العزري، يحكي تجربته للمركز العماني لحقوق الإنسان في العام 2013، والذي تم اقتياده فيها لجهةٍ مجهولة لم يعلم هو مكانها بعد اختطافه مغطى الرأس ورفض الأمن إعطائه أية معلومة عن وضعه ومكانه.
الضغط النفسي ودفع المتهمين للإنهيار كانت السمة الأبرز في طبيعة تعامل رجال الأمن في المعتقل مع المختطفين، حيث يعزل المسجونون في زنازين انفرادية ضيقة يجهلون موقعها، فيما تستمر الموسيقى الصاخبة التي يشغلها الجنود في الزنزانة الانفرادية بدفع السجناء للانهيار والاستسلام.
محمد الفزاري، كاتب وناشطٌ سياسيٌ عماني ورئيس تحرير مواطن، يحكي ذات التفاصيل الخاصة بالإنتهاكات الحقوقية والمعاملة اللا إنسانية في الزنازن الإنفرادية، حسب تقريرٍ لهيومن رايتس ووتش، حيث وكان قد اعتقل أكثر من مرة على خلفية نشاطه السياسي ومطالبته بالإصلاح الإجتماعي.
وجهت له تهمة تشكيل تنظيمٍ سري لقلب نظام الحكم إلى جانب أحد عشر شخصاً أخر اعتقلوا معه العام 2012، حيث لم يسمح له بتوكيل محامٍ طوال فترة الإعتقال التي تجاوزت شهرين، فيما خضع للتعذيب بالعزل في زنزانة إنفرادية تحت الموسيقى الصاخبة.
في ردٍ لأحد الشباب العمانيين على اتصال أحد صحفيي “مواطن” معه ” لقد سبق وتحدثت عن ذلك سابقاً، ولا أرغب في الحديث عن ذلك الأمر بعد الأن نهائياً، لا أستطيع تحمل ذلك مرةً أخرى”.
أجهزة القمع تثير الرعب في أوساط المواطنين الذين تنتظرهم القبضة الأمنية بالزنزانة الانفرادية التي لا مكان للنوم فيها إلا غياباً عن الوعي أو عبر إيذاء النفس كما حكى المعتقل السابق في سجون النظام العماني، خلفان البدواوي، حين وصل به الحد لضرب رأسه بالحائط مراراً حتى فقد الوعي، حيث كان دافعه من ذلك وضع حدٍ لمعاناته وإنهاء حياته.
الطبيب العرزي تحدث عن أجزاء المعتقل في زنزانته شديدة الإضاءة وضجيج الموسيقى الصاخبة وتهديدات المحققين التي كانوا يوجهونها له وينقلونه مغطى الوجه، مضيفاً أنه كان يتم دفعه للإنهيار والتوقيع على اعترافاتٍ مزورةٍ لم يبح بها.
بعد اعتقاله المرة الأولى والإفراج عنه بعد التعذيب الذي عاناه في السجن، خلفان البدواوي، والذي أراد تنظيم احتجاجٍ بالتزامن مع زيارة الأمير تشارلز، وريث العرش البريطاني، لعمان العام 2013، لتقتطع طريقه سيارتين يخرج منهما جنودٌ مقنعون ويقومون باختطافه لجهةٍ مجهولةٍ للمرة الثانية.
الفزاري، في 2014 صودرت وثائق سفره دون أي حكمٍ قضائي يمنعه من السفر أو يقضي باحتجاز وثائقه، فيما أوقفت السلطة أسرته وصادرت وثائقهم ومنعتهم من السفر مراراً للحاق به بعد لجوئه إلى المملكة المتحدة.
فزع النظام وخوفه من أي صوت احتجاجٍ لم يقف عند المواطنين العاديين وإنما تجاوز ذلك لسجن البرلمانيين، حيث أقدمت السلطات العمانية على سجن البرلماني العماني طالب المعمري على خلفية مشاركته في احتجاجٍ ضد التلوث العام 2013، في مصادرةٍ لحق المواطنين في التظاهر والاحتجاج.
طالب المعمري نشر تغريدةً ،على موقع التواصل الإجتماعي تويتر أغسطس الماضي 2020، يصف فيها ظروف سجنه وتجربته في المعتقل، حيث قال “ما زال عقلي عاجزًا عن تفسير أن يُحبس إنسان في زنزانة مترين في مترين، شبه مظلمة، ورطبة، ووسخة في منطقة مغلقة، لا هواء ولا شمس لمدة 5 أشهر وأسبوعين”
هذا وقد تم الحكم على البرلماني المعمري بالسجن أربعة سنوات بتهمة التحريض على التجمهر والمشاركة في قطع الطريق العام، في إشارةٍ لمشاركته احتجاجاتٍ ضد التلوث الذي تسببه الصناعات البتروكيمياوية في ولاية لوى، ودفاعه عن حقوق الإنسان في مجلس الشورى.
العرزي يضيف محاولة المحققين إرغامه التوقيع على اعترافاتٍ، لم يقلها، تحت التهديد والترهيب بتوجيه تهم انتمائه لجماعاتٍ إرهابية كتنظيم القاعدة، الأمر الذي اضطره للإضراب عن الطعام حتى أفرج عنه.
ناشطون عمانيون آخرون، فضّلوا حجب أسمائهم، تواصلوا مع “مواطن” مفيدين بأن النظام ما زال يمضي في نفس النهج القمعي، حيث يحتجز الكثير من الناشطين في معتقلات مشابهة تحت تهم تتعلق بممارسة الحقوق والحريات وفي فترات اعتقالٍ تصل على الأغلب للثلاثين يوماً.
سلطنة عمان، البلد الجميل والمسالم، يخاف مواطنوه من التعبير عن آرائهم، ويعيش نشطائه تجارب قاسية ولا إنسانية في تعامل النظام معهم، وتجاهله للمشاكل الحقيقية التي يعالجها بقمع من يتحدثون عنها، يجعل من الصورة أكثر وضوحاً لرؤية الوجه الأخر للنظام السلطاني الحاكم.