في مقدمته غير المنشورة لرواية مزرعة الحيوان يقول الفيلسوف الإنجليزي جورج أورويل إنه “يمكن إسكات الأفكار والأطروحات غير المستساغة شعبيا، كما تحتفظ الحقائق المثيرة للغلط والإزعاج بمكانها في الخفاء، من دون الحاجة إلى فرض أي حظر رسمي على التفوه بها وشرحها” إذ إن حرية الإنسان في التعبير عن مكنوناته وأفكاره ليست مرهونة وحسب بالتضييقات التي تنتهجها الأنظمة الشمولية وحسب، بل إن المجتمعات غير الديمقراطية تمارس نوعا من الرقابة على الفكر والتعبير بأساليب أقوى وأفظع من تلكم التي تنتهجها الأنظمة الشمولية، وبذلك فإن حرية التفكير ليست بالشيء الذي يتم تحقاقه من خلال مجموعة من القوانين المنصوصة في دساتير متحجرة، وإنما غنيمة تكتسب بفعل النضال من أجل الحرية، مع دفع ضريبة الحرية، فلا يمكن أن نتصور ولا حتى في العالم المتحضر أن أي حق من حقوق الإنسان قد يكتسب من دون عناء أو صراع، كذلك أن تكون حرا في التفكير هذا يعني أن تكون لك القدرة على مناقشة القيم المجتمعية وانتقادها، بل وحتى تغيرها.
إلا أن الأنظمة الشمولية تعمل على استنساخ الذهنيات وفق بنية قيمية واحدة، بحيث تجعل كل ما له أصول عُرفية ودينية منطقية في عقل الجميع، وشأن هذه المعتقدات شأن قدسية الشرعية التي تقوم عليها مثل تلك الأنظمة، والابتعاد عن مثل هذه المعتقدات أو الضرب والطعن فيها يكون في الغالب أمرا مساويا للخيانة العظمى (خيانة الوطن)، أو كونه انحرافا اجتماعيا على المجتمع وعن المجمع عليه (الرقابة المجتمعية)، هكذا تُشكل مثل هذه الأنظمة أطواقا وجدران دفاعية منيعة لتحمي نفسها أمام أي فكر تقدمي، فأهم المرتكزات التي تقوم عليها الأنظمة الشمولية تكمن في رقابتها المستميتة على الأفكار وتوجهات عامة الناس ومنظمات المجتمع المدني، وذلك إما من خلال إنشاء نمطية فكرية على أساسها يتم تجنب أي شذوذ فكري خارج عن الإطار المألوف الذي يرسمه النظام الشمولي، أو من خلال الرقابة على كافة منابع الفكر أيا كانت (مكتوبة، سمعية، سمعية بصرية، شفهية، سوقية) من خلال جهاز يدعى بشرطة الفكر ولعل هذا الجهاز حاليا يطلق عليه بالجهاز الاستخباراتي.
حرية التفكير في ظل الأنظمة الشمولية
إن حرية التفكير تعني في أبسط معانيها قدرة الفرد على إنشاء وخلق أفكاره بعيدا عن الإملاءات والتأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإن كان هذا شيئا صعبا نظرا لتلكم المتغيرات التي تعيق مثل هذا المكسب الديمقراطي، لأن الفرد دائما ما يكون ضمن مجتمع معين يخضع لنظام قيمي، تحت نظام ساسي يُخضع الجميع وفق نمطية اقتصادية معينة أو يَخضع هو الآخر إلى نمطية اقتصادية، وبذلك فمن أجل بلوغ حرية التفكير لابد من العمل على تحقيق مجموعة من المتغيرات المترابطة وهي:
1- تحيد المدرسة: والمقصود بذلك العمل على جعل المدرسة محايدة في ما يتعلق بالمنظومة القيمية؛ من عادات وتقاليد ومعتقدات دينية، وأن تلتزم بتقديم المبادئ العلمية والأدبية للتفكير السليم لدى الفرد، من خلال مهارات قاعدية كـ المنطق، الفكر النقدي، حل المشكلات… وكذا مجموعة من القيم العالمية المشتركة كـ اختلاف الرأي، نبذ العنف والتعصب، حقوق الإنسان المدينة….
2- الأسرة: كون وجود الفرد مرهونًا بالأسرة –في الغالب- إلا أن ذلك لا يجعل من الفرد ملكا للأسرة وإنما مسؤولية يتوجب العناية بها، وشأن الأسرة في تنميط فكر الفرد لشأن جلل، فمنذ نعومة أظافر الفرد وهو يتشرب نمطية فكرية معينة، وتحيد الفرد من توريث الفكر، يعني أن تعمل الأسرة على رعاية الفرد وحمايته دونما توريث أية نمطية فكرية معينة، كذلك العمل على تحيد الفرد من التعصب القبلي، والديني، والاجتماعي، وحثه على قيم المساواة والتعددية والحرية والمسؤولية والاستقلالية.
3- المجتمع: لا يمكن بلوغ حرية التفكير في ظل مجتمعات شمولية، تقصي الفرد، وتعتبره جزءًا من القطيع، فغياب تعددية الفكر والاعتقاد في المجتمعات يولد وحدانية الفكر الذي يخلق بدوره رهابا لدى الفرد المختلف عن رأي الأغلبية وتوجهاتها، فبذلك نجد أن للمجتمعات رقابة مستميتة على أفكار الفرد، توجهها وتُخضها لما هو سائد وفق مجموعة القيم التي تتبناها سواء من ناحية الدين أو العادات والتقاليد.
4- النظام السياسي: غالبا ما تعمل الأنظمة السياسية الشمولية كعائق لبلوغ الأفراد لحرية التعبير، وذلك من خلال إقرار حزم قانونية ترهب وتعاقب كل أشكال الفكر المستقل والحر، إذ تعمل الأنظمة السياسية الشمولية على ترسيخ فكر شمولي واحد يخدم مصالح الأقليات الحاكمة، وذلك تخوفا من التنور السياسي الذي قد يمس المجتمعات التي ستشكل هي بدورها خطرا على استقرارها، وبذلك تعمل من خلال مؤسسات التعليم والثقافة على محاربة وإقصاء الأفكار والمعتقدات المخالفة لها، تارة باستخدام عاطفة الشعوب وتارة أخرى من خلال المغالاة في العنف.
5- النظام الاقتصادي: تعمل مختلف الأنظمة السياسية على اقتصاد ريعي حكومي، من خلال إضعاف الاستقلالية الاقتصادية للأفراد، وبذلك تحتكر سوق الفكر والنشر والمؤسسات الإعلامية، فتوجهها لما يخدم المصالح الضيقة للأقليات المتنفذة، الشأن الذي يجعل من مؤسسات بث وعرض ونشر المعلومات مؤسسات تابعة وخاضعة ماديا، وبذلك تعمل هذه الأخيرة على إقصاء أي فكر مخالف لرأي الأغلبية السائدة.
وهذه الرقابة على الفكر تمتد لتشمل صناعة الخبرات للإنسان والتدخل في سير العملية النفسية الداخلية للإنسان، فيصبح المرء في حالة حصار دائم فمشاعره وأفكاره مساقة، ومن هذا المنطلق تكتسب الأنظمة الشمولية قوتها، بحيث تصبح هي فقط الحقيقة المطلقة وكل ما يعدو مخالفا لها فهو كذبة مطلقة ومؤامرة خارجية شيطانية الهدف منها بث النزاع والفرقة في البلد.
لكن هذه الرؤية لم تحظَ بالحظ الوافر، إذ إنه لم يلبث أن فقدت جميع الأنظمة العالمية والشمولية منها السيطرة على المعلومات والأفكار والتوجهات بفعل الثورة التكنولوجية الحاصلة والسرعة في تناقل المعلومات دون حواجز (جمركية، قانونية، جغرافية، لغوية، عرقية) وهكذا بات تحقيق الوحدة الثقافية وتوجيه الجماهير أمرا غاية في الصعوبة للأنظمة.
كذلك تقوم الأحزاب الشمولية باستعمال التنشئة الاجتماعية كسبيل لتكريس شمولية النظام وضمان استقراره، بحيث تعمل على تكييف كل من وسائل الإعلام وجميع المطبوعات المنتجة أو المستوردة ومنها الكتب المدرسية وجميع حركات المجتمع المدني لخلق ثقافة جامعة لكل أفراد المجتمع تمتاز هذه الثقافة بالتواتر للعمل على جعل المجتمع يتطابق فكريا وإيديولوجيا مع رؤية النظام ومبادئه، مما يجعل أي حالة اختلاف في الرأي بالضرورة شذوذًا فكريًّا وخروجًا عن المجتمع وهكذا تتمكن مثل هذه الأحزاب من فرض ديمومتها على المدى البعيد، ويتم ذلك من خلال آليتين هما:
أولا: العمل على استغلال جميع مؤسسات الدولة من أجل تطبيق رؤية الحزب فيما يخص التنشئة الاجتماعية من خلال: تحديد الفيصل ما بين المباح وغير المباح في جميع ميادين الحياة العامة، شريطة أن يكون ذلك يخدم مصالح الحزب.
ثانيا: العمل على إقصاء أي شذوذ عن فكر الحزب ورؤيته مهما كان بسيطا، فمثل هذه الأحزاب تقوم على القمع المطلق، أي أنه مهما كان الاحتمال صغيرا في إضعاف سلطة النظام، استلزم بتر الشذوذ، وذلك من خلال أجهزة متعددة على غرار شرطة الفكر.
الصحافة كآلية من آليات التعبير
لقد تنامى دور الصحافة في الساحة السياسية في العقود القليلة الماضية، إذ أصبحت تعبر عن سلطة رقابية رابعة، وذلك لما تضمنه وسائل الإعلام من حرية في تداول ونشر المعلومات، والمتتبع لما يجري على الساحة السياسية في هذه الأيام يدرك قوة التأثير التي تمتلكها مؤسسات الصحافة، إذ إن الرسومات الكاريكاتورية لجريدة شارل إيبدو قد هيجت الملايين من شعوب دول العالم الثالث المحسوبة على العالم الإسلامي، إذ اعتبروا بأن تلك الرسومات الساخرة من الدين الإسلامي يتعدى حقوق التعبير وأنه تعدٍّ على المقدسات الدينية، ولم يتوقف الأمر على ذلك بل راحت العديد من المؤسسات الدينية كالأزهر وغيرها إلى تهييج الشعوب أكثر على السلطات الفرنسية كونها تحارب الإسلام والمسلمين.
وهنا نلتمس دور المؤسسات الإعلامية والصحافية في مثل هذه الدول، إذ أنها ركزت فقط على رأي الشعوب ولم تتمكن حتى من عرض وجهات رأي مخالفة، وذلك خشية من رد فعل الشعوب عليها وهذا ما يطلق عليه بالرهاب المجتمعي، كما أن جميع المؤسسات الإعلامية ركزت على خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وردود فعل الشعوب عليه، دونما التركيز أو حتى معالجة الاعتداءات الإرهابية، وبذلك نلاحظ:
• غياب التركيز على مقتل الأستاذ الفرنسي بقطع رأسه من طرف متطرف إرهابي، ولا حتى إدانته،
• تعاطف وحياد مطلق مع الجماعات الإسلامية وبالأخص الإسلام السياسي في شقيه السلفي والوهابي.
كما نلاحظ من خلال ردود الأفعال تلك، ازدواجية مطلقة في المعايير، إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي تعج كل يوم بأشكال متعددة من السخرية على الأديان الأخرى؛ إذ يُشتَم اليهود ودينهم يوميا باعتبارهم أحفاد للقردة والخنازير… وكذا الديانة المسيحية فيُوصَفون بعبدة الصليب، عبدة الخشب، عبدة البشر، الكتاب المحرف… يتم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تمرير فيديوهات مباشرة لعمليات ذبح البقر على مجموعات الفيسبوك الهندية، يتم توسيم أتباع الديانة البوذية بعبدة الحجر… والحبل على الجرار على جميع الديانات الأخرى.
إلا أنه لا أحد من أتباع هذه الديانات قد هاج أو أقام حملات مقاطعة للبضائع أو مظاهرات منددة بازدراء الأديان، ولعل ذلك يرجع إلى سيكولوجية تلك الجماهير والتي تتسم بـ:
• اعتبار السخرية من الأديان شكلًا من أشكال حرية التعبير.
• اعتبار المقدس مقدسا عند صاحبه لا على الجميع.
إلا أن حرية التفكير والتعبير في دول العالم الثالث لا يزال جدليا، إذ إن طبيعة أنظمتها السياسية والشمولية فرضت منطق الرأي الواحد، وبذلك تكونت مجتمعات غير قابلة لتقبل الاختلاف والرأي الآخر، فضلا أن حدود حرية التعبير لديهم غير محددة المعالم، كذلك فإن ازدواجية المعايير سمة ثابتة، إذ إن الشائع في الأمر أن انتقاد الآخرين حق، وانتقاد الآخرين لديانتهم أمر غير مقبول، وذلك راجع لكون مثل هذه الشعوب تعتقد بشكل أعمى بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس.