قدّم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيان تم نشره بتاريخ 8 تشرين ثاني/ نوفمبر 2020، التهاني إلى مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020، أعرب فيه عن “تطلع القيادة الفلسطينية للعمل مع الإدارة الأميركية الجديدة، من أجل تعزيز العلاقات الفلسطينية – الأميركية، وتحقيق الحرية والاستقلال والعدالة والكرامة للشعب الفلسطيني، وكذلك من أجل السلام والاستقرار بالمنطقة”. ورغم الطابع العمومي الذي اتّسم به البيان، إلا أنه قد يدشن لمرحلة جديدة من العلاقات الفلسطينية – الأميركية، تنتهي فيها القطيعة التي سادت في حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
تحاول هذه الورقة تقديم رؤية استشرافية بنائية وواقعية لكيفية تعاطي إدارة بايدن مع ملف القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، إلى جانب الخيارات الفلسطينية ما بعد فوز بايدن، بناءً على المعطيات والمتغيرات التي فرضتها حقبة ترامب على المنطقة والإقليم من جهة، وسياسة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي كان يشغل فيها بايدن نائباً للرئيس، والرؤى والمواقف التي عُبّر عنها خلال حملة بايدن الانتخابية من جهة أخرى.
حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (2017-2020)
أقدمت إدارة ترامب على خطوات وقرارات وإعلانات إزاء القضية الفلسطينية لم يسبق لها مثيل، من إعلان ما تُسمّى بـ “صفقة القرن”، التي تقتلع في جوهرها ركائز حل الدولتين، والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقطعًا كاملًا للمساعدات عن السلطة الفلسطينية، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، ووقف دعم مستشفيات القدس، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والاعتراف بسيادة “إسرائيل” على مرتفعات الجولان السورية، وشرعنة الاستيطان، وتأييد مخطط الضم الإسرائيلي، إلى قيادة تطبيع الدول العربية علاقاتها مع “إسرائيل”، والتي وصل عددها حتى لحظة كتابة هذه الورقة إلى ثلاثة دول (الإمارات والبحرين والسودان).
وخاضت فلسطين في حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب معركة دبلوماسية قوية لإفشال “صفقة القرن” ومخطط الضم الإسرائيلي. حيث تجسّد الموقف الفلسطيني الصلب في قطع العلاقات مع الإدارة الأميركية، وتبعها إلغاء كامل الاتفاقيات مع “اسرائيل” بما فيها التنسيق الأمني.
تجدر الإشارة إلى أن ولاية دونالد ترامب تنتهي رسمياً في العشرين من كانون ثاني/ يناير 2021، وسط تقديرات بتكثيف اليمين الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطه على ترامب لخلق وقائع جديدة على الأرض خلال فترة الشهرين القادمة. خاصة وأن انتهاء حكم ترامب يتزامن مع استئناف محاكمة نتنياهو أوائل كانون الثاني/ يناير 2021.
وكانت حركة “السلام الآن” الإسرائيلية قد أشارت في تقرير موسع صدر لها بتاريخ 9 تشرين ثاني/ نوفمبر 2020، إلى أن عدد المخططات التي تم الترويج لها في المستوطنات في الفترة (2017-2020) قد زاد 2.5 مرة مقارنة بالسنوات الأربع السابقة، ما يعني وجوباً أن نتنياهو ومن خلفه اليمين الإسرائيلي سيسعى إلى استغلال كل يوم في حقبة ترامب لضم ما أمكن من الأراضي الفلسطينية. وهذا يستوجب من الفلسطينيين تسريع جهود إنجاز المصالحة الفلسطينية التي انطلقت في تموز/ يوليو 2020، بالموازاة مع تكثيف الضغوط على أعضاء مجلس الأمن والجهات الفاعلة الإقليمية والدولية ذات الصلة في سبيل الإسراع بعقد المؤتمر الدولي للسلام الذي دعا له الرئيس عباس بتاريخ 28 تشرين أول/ أكتوبر 2020.
القضية الفلسطينية ما بعد فوز بايدن
مما لا شك فيه، هو أن إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، ستتعامل مع القضية الفلسطينية بطريقة مختلفة عن سلفه ترامب، وإن كانت ستبقى منحازة بجوهرها للكيان الإسرائيلي. حيث إن الحزب الديمقراطي الأميركي يرفض على سبيل المثال مخطط الضم الإسرائيلي والاستيطان في الضفة الغربية، وهذا كان جلياً في القرار رقم 2334 الذي مرّره الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ونائبه آنذاك بايدن، وتم تبنّيه من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يحث على وضع نهاية للاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وبحسب حملة بايدن الانتخابية، فإن الإدارة الجديدة ستسعى للحفاظ على حل الدولتين، وتدعو الكيان الإسرائيلي إلى عدم بناء مستوطنات جديدة، والتوقف عن مخطط الضم أو أية إجراءات أحادية الجانب، في مقابل دعوة الفلسطينيين إلى إيقاف أية إجراءات من شأنها نزع الشرعية عن الكيان الإسرائيلي، ووقف دفع رواتب الأسرى والشهداء
وفي ضوء ما سبق، فإنه من المرجّح أن يتعاطى بايدن مع القضية الفلسطينية بأسلوب متوازن يتماشى مع نهجه الديمقراطي التقليدي، ولكنه بالتأكيد لن يحدث فيه تغييراً جوهرياً لا يوافق عليه الكيان الإسرائيلي. وقد يعيد ضخ المساعدات إلى السلطة الفلسطينية ووكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، إضافة إلى إعادة مكتب منظمة التحرير في واشنطن، على اعتبار أنها امتيازات تمنحها الإدارة الجديدة للفلسطينيين، ما يثير تساؤلاً مركزياً هنا مفاده: هل سيكون هذا هو الثمن مقابل عودة العلاقات الفلسطينية – الأميركية؟
سيحاول بايدن مستفيداً من تركة ترامب الثقيلة على الفلسطينيين بأن يصوّر تلك الرتوشات بالهدايا الممنوحة من قبل الإدارة الأميركية للفلسطينيين، ليفتح قناة حوار جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يُستبعد من خلالها أن يقوم بإلغاء القرارات الأساسية الخطيرة التي اتّخذها ترامب، وإنما قد يتم تجاوز بعضها أو الالتفاف عليها وتجميل صورتها لا أكثر. وبالرغم مما يزعمه من دعمه لحل الدولتين، فإن هذا لا يعني بالضرورة دعمه للرؤية الفلسطينية، أو تلك التي أقرّتها الشرعية الدولية، حيث سيسعى جاهداً لإقناع الفلسطينيين بصيغة جديدة لحل الدولتين.
سيجد المتتبع لمسيرة جو بايدن السياسية ونائبته كامالا هاريس، بأنهما من أقوى المؤيدين للكيان الإسرائيلي في الحزب الديمقراطي الأميركي، إضافة إلى أن سعي بايدن لإعادة الحوار الأميركي – الفلسطيني يندرج في إطار ضمان أمن الكيان الإسرائيلي، وإعفائه من عبء إدارة السكان الفلسطينيين المحتلّين عبر دعم السلطة الفلسطينية اقتصادياً. إلى جانب أهمية وجود الولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام في الشرق الأوسط، حيث إن قوة الدول العظمى لا تُقاس بالقوة العسكرية والاقتصادية فقط، وإنما بالقدرة على الاستجابة وحل النزاعات الدولية.
استمرار انهيار النظام العربي
شهد النظام العربي انهياراً في حقبة ترامب، تمثّل في هرولة كل من الإمارات والبحرين والسودان لتطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، وخضوع كل من مصر والسعودية للابتزاز الترامبي والإملاءات الأميركية، وتراجع مواقف كثير من الدول العربية وجامعة الدول العربية التي رفضت إدانة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
وحول بعض أثمان هذا الانهيار العربي، فإن ترامب قد عزل القاهرة إلى حد كبير عن جهود الكونغرس لمعاقبة مصر على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، دعمت الإدارة الأميركية الأولويات الدبلوماسية لمصر، لا سيما الضغط على إثيوبيا بشأن خططها لملء سد ضخم على نهر النيل يهدد مستويات المياه في مصر. وذلك في مقابل التأييد المطلق لإستراتيجية ترامب ودعم تنفيذها في المنطقة والإقليم.
وقد مارست إدارة ترامب سياسة الابتزاز الاقتصادي والسياسي ضد السعودية من خلال “قانون جاستا” وقضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ما جعل الأخيرة تعقد صفقات عسكرية مع الولايات المتحدة الاميركية تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات.
وفيما يخص سياسة بايدن تجاه الدول العربية الحليفة لإدارة ترامب، يبدو أنها بدأت تتضح ملامحها، من خلال بيانه الصادر بتاريخ 3 تشرين أول/ أكتوبر 2020 والذي قال فيه: “سنعيد تقييم علاقاتنا بالسعودية، وسنوقف الدعم الأمريكي لحرب السعودية في اليمن، وسنضمن ألا تساوم أمريكا على قيمها من أجل بيع الأسلحة أو شراء النفط”، مضيفاً “أن موت خاشقجي لن يمر عبثاً”. كما وسبق أن أفصح بايدن عن جوهر سياسته إزاء مصر، حينما أشار إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تغريدة له على توتير في تموز/ يوليو 2020 قال فيها: “لا مزيد من الشيكات على بياض للدكتاتور المفضل لترامب”.
إن هذا يُدلّل على أن النظام العربي سيستمر في انهياره الذي كان سائداً في حقبة ترامب، وأن سياسة الابتزاز الأميركية إزاء هذه الدول العربية ستبقى ثابتة، وإن اختلفت الأدوات والوسائل. ما قد يدفع هذه الدول إلى رفع مستوى العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، في سبيل حماية مصالحها وأجنداتها القُطرية.
خاتمة
تستوجب حماية المشروع الوطني الفلسطيني من القيادة الفلسطينية الاستمرار على نهج صوابية وصلابية الموقف الذي كان سائداً في حقبة ترامب، وألا تكون عودة العلاقات الأميركية – الفلسطينية بدون ثمن. بحيث يكون هناك إعلان واضح وصريح من الرئيس بايدن بإلغاء كل ما ترتب عن حقبة ترامب من قرارات وإعلانات بحق القضية الفلسطينية كشرط مسبق لفتح قنوات الحوار.
على الرغم من المؤشرات التي تُدلّل على أنه لا يمكن المراهنة على مساندة الأنظمة العربية، وأن هذ الأنظمة التي وقعت في مصيدة ترامب الابتزازية، ستدفع في عهد بايدن ثمن هذا الخضوع، لتقع في أفخاخ أخرى، والتي من شأنها أن توجّه هذه الدول لتعميق تحالفها مع “إسرائيل” أكثر لحماية مصالحها، إلا أنه لا يمكن إغفال طرق أبواب الأنظمة والمنظمات العربية، والعمل على تحشيد موقف عربي داعم للموقف الفلسطيني. حيث إن واقع النظام العربي المأزوم والمتداعي لا يلغي أهمية السعي إلى بلورة موقف عربي يوقف كل أشكال التطبيع مع الكيان الإسرائيلي خاصة وأن إدارة بايدن -وإن كانت تُشجّع- لن تجبر أحداً على توقيع اتفاقية تطبيع مع “اسرائيل”.
وتبقى أقوى وأهم الخيارات الفلسطينية متمثلة في تسريع إنجاز المصالحة الفلسطينية، أو على الأقل إبرام ميثاق شرف أو بلورة صيغة مصالحية توافقية وطنية مبدئية إلى حين إتمام الوحدة الوطنية وتجسيدها على الأرض. حيث إن قوة الموقف الفلسطيني الموحّد من شأنها حتماً أن تفرض الشروط الفلسطينية على أجندة الإدارة الأميركية الجديدة وأجندة المؤتمر الدولي المرتقب أيضاً.