في عصر البروباغاندا والإعلام الموجه، تقع الشعوب ضحيةً لوهم السلطة الموجه عبر وسائل الإعلام الممولة حكومياً أو التابعة لمراكز القوى المختلفة، ما يعني تغييب الوعي العام للمجتمعات والشعوب عن الحقيقة والالتفاف على العملية الديمقراطية والتحكم بردود الفعل الإنسانية ومفاهيمها حول القيم المدنية، لتبرز هنا الصحافة الحرة كضرورة حضارية وإنسانية لحفظ القيم المدنية والدفاع عنها أمام بروباغاندا السلطات السياسية والأيديولوجيات.
تتحكم أهداف السياسة الخارجية للدول بنوع ومحتوى المادة الإعلامية المقدمة للفئات المستهدفة وفق معيارٍ واحدٍ هو مقدار مساهمتها في دعم المواقف التي تتبناها سياستها الخارجية تجاه هذه القضايا في هذه المجتمعات والمناطق الجغرافية تحديداً، مهما كان ذلك بعيداً عن الحقيقة، بالإضافة إلى تقديم الحقيقة في خطابٍ يخدم ذات التوجه.
قنواتٌ عربية ممولة حكومياً، كانت وسيلة إعلامٍ مؤثرة في تشكيل الوعي الجمعي العربي تجاه القضايا المختلفة محلياً وإقليمياً، وأكثر هذه الأدوار تأثيراً هو مساهمتها في توجيه أحداث الربيع العربي بداية العقد الماضي. إحدى هذه الشبكات الإعلامية تبنت تفريخ قنواتٍ عدة أخرى، ناطقةً باللغة العربية والإنجليزية إلى جانب القناة الأم، ولكنها بالتأكيد مختلفة المحتوى في كل لسانٍ تنطق به.
في نسختها الإنجليزية، ستدافع عن الديمقراطية، الحريات المدنية، النسويات والأقليات العرقية والجنسية، فيما ستدعم قوانين وممارسات اضطهاد هذه القضايا في نسختها العربية التي تتحفظ فيها عن حقيقة الوضع في بلدانها الممولة لها، ناهيك عن تزوير الحقيقة أو إعادة صياغتها وفق أهداف السياسة الخارجية للممول.
إن صحافةً بهذا الشكل تشكل تهديداً لكل ما حققته الحضارة الإنسانية حتى اللحظة، فالحقيقة هي فقط ما تقدمه وسائل الإعلام المؤثرة وإن كانت ملفقةً في الواقع، ولذا فإن بحث موضوع الصحافة الحرة في عالم اليوم يصبح أمراً أكثر أهميةً من أي عصرٍ مضى.
الأهمية الحضارية للصحافة الحرة
يقوم المجتمع الإنساني على صراع المتناقضات الاجتماعية في الفكر والسياسة والاقتصاد، أي بصورةٍ أكثر بساطة “حركة الاختلاف”، وهو ما يضمن دوماً حدوث التغيير والطفرات الاجتماعية سواءً كانت ضارةً أو نافعةً للمجتمع الإنساني، وثبات أي مجتمع واستئصال أي اختلافٍ منه يعني تخلفه حضارياً.
يساهم الإعلام الرسمي والموجه في نقل خطابٍ موحدٍ للجماهير، خطاب القوة الموجهة، الذي يساهم في إنتاج وعي موحد وثابت وفق مقاس السلطة السياسية أو المعارضة أو أية مراكز قوى مؤثرة، وهو الأمر الذي يمنع تحقق أي اختلاف أو نقدٍ مستقبلي، أي التحول للتفكير بعقل الفرد أو الزمرة الحاكمة أو المؤثرة والاكتفاء بالوقوف عندها في العملية الإدارية.
حضارياً، تمكن الصحافة الحرة المجتمعات من الاحتفاظ بحركةٍ حرة ومثمرة لديناميكا المتناقضات الاجتماعية والسياسية بين المجتمع والسلطة السياسية، حيث أنها وباستمرارها في نقل الحقيقة تحافظ على وجهة نظرٍ شعبية مستقلة خارج الأهداف الضيقة للجماعات والقوى، وتؤسس بدورها لوعي نقدي بنّاءٍ يقف على الحقيقة كما هي عليه، ويساهم بدوره في استمرار حدوث طفراتٍ اجتماعية نافعة وتدعم عملية تطور المجتمعات الإنسانية في مختلف المجالات.
إنها بالتأكيد إحدى ضمانات الرخاء الحضاري من حيث مهمتها المتمثلة في نقل الحقيقة للمجتمع والمساهمة في خلق ردود فعلٍ مختلفة تجاه تعامل السلطة السياسية مع القضايا المختلفة ومراجعة الموقف الثقافي التقليدي والمحافظ من مسائل مختلفة واكتشاف الدوافع خلف اتخاذ هذه المواقف ومدى قدرتها على الإقناع.
هذه العملية النقدية التي تنمي روح الاختلاف كنتيجة لجهود الصحافة الحرة تحقق تفاعلاً حضارياً يدفع بالمجتمعات للتغيير والاستمرار في خط سيرها الحضاري، حيث يمكنها أن تفوت الفرصة على القوى المؤثرة والسلطات السياسية والدينية في تحقيق أهدافها الضيقة على حساب المجتمعات إلى تحقيق وعيٍ مجتمعي بأهمية الدور المشترك للوقوف أمام ذلك والوصول إلى أرضٍ مشتركة تتحقق فيها المصالح العامة قبل غيرها.
أهمية الصحافة الحرة بالنسبة للحقوق المدنية
تحتكر الأنظمة السياسية والقوى المؤثرة المعلومة وتمنعها عن الأفراد والجماعات المكونة للمجتمع تحت دوافع وذرائع مختلفة أهمها هو بقاء الوضع كما هو عليه، أي البقاء على رأس الهرم أو الحفاظ على المصالح الحالية أو مصالح أخرى مستقبلية وهكذا.
الصحافة الحرة تُعنى بمسؤولية إتاحة المعلومة المحتكرة والممنوعة عن الجميع بوصفها حقاً إنسانياً مدنياً لكل فردٍ في المجتمع، ولما لذلك من دورٍ في تحقيق عدالةٍ عامة تمنع تغييب الفرد عن الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري، ومنع استغلاله و تحويله في مجتمعٍ ديمقراطيٍ لدميةٍ في مشروعٍ أكبر دون علمه.
من جهةٍ أخرى يؤخذ عتبٌ على الديمقراطية بتوصيفها خاضعةً لتأثيرات المال الذي يستطيع صناعة مؤثراتٍ إعلامية واقتصادية مختلفة تؤثر في إرادة الناخب، ما يعني قدرة القلة الممتلكة للثروة في المجتمعات الرأسمالية على إدارة العملية الديمقراطية بشكلٍ أقرب للمسرحية التي يمثل فيها المواطنون دون علمهم بدورهم المسرحي فيها.
إلى حدٍ كبير يمكن القبول بهذا النقد والعتب على مسألة الديمقراطية في المجتمع المدني، ولكن هنا يبرز دور الصحافة الحرة من جديد في قدرتها على توفير جوٍ ديمقراطي حرٍ عبر نقل الحقائق للمواطن والمجتمع دون تأثيرات وتحفظات مراكز القوى والإعلام الموجه.
نقل محتوىً إعلامي حر وواقعي يوفر جواً ديمقراطياً حراً كذلك من حيث صناعة وعيٍ سياسيٍ فرديٍ واجتماعيٍ موضوعي مستقل، الأمر الذي يحقق صفاءً ذهنياً في توجه الناخب وقيامه باختياراتٍ أكثر عقلانيةٍ بعيدةٍ عن التعاطفات المؤثرة والتعصبات الشعبوية.
هذه النتيجة لن تقف مؤثرةً فقط في الفرد والمجتمع فقط وإنما على مراكز القوى المتنافسة على السلطة أيضاً، حيث إن وعياً فردياً مجتمعياً موضوعياً يعني ضرورة وجود برنامجٍ سياسيٍ موضوعي ومتوافق مع عقلانية الوعي الجمعي الذي كانت الصحافة الحرة عاملاً مهماً في صناعته.
من جهةٍ أخرى، يمكن القول إن الصحافة الحرة تبقي المواطن والفرد قريباً من الأحداث ومراكز صنع القرار بصورةٍ أقرب لواقعية الوقائع من الروايات الرسمية والموجهة، ما يعني تحقيقه ردود فعلٍ مختلفة تساهم في الضغط على مراكز صنع القرار والجهات أو الأشخاص المسؤولين في حوادث أو قضايا معينة بالخضوع للرغبة العامة، وهذه الوقائع لا تعني بالضرورة أن تكون مواضيع سياسية وإنما حتى حقائق تاريخية وثوابت أيديولوجية وما إلى ذلك من مؤثرات في الحياة العامة للبشر في نظامٍ معين.
أهمية الصحافة الحرة بالنسبة للديمقراطية
تتمثل أهمية العملية الديمقراطية في تحقيق عقدٍ اجتماعيٍ عادل بين السلطة والمجتمع بتمكينها المجتمع من الحكم وتسليمه زمام اختيار السلطة السياسية بشكلٍ دوريٍ ومستمر يمنع من استحواذ أفرادٍ أو جماعاتٍ على السلطة وسلبها من يد الشعب.
بالإضافة إلى ذلك فإنها تمنح المحكومين في هذا العقد حق حكم أنفسهم بأنفسهم لا تخليهم عن هذا الحق الأصيل لصالح النخبة في السلطة كما كان يعرف العقد الاجتماعي، وإنما منحهم حق المشاركة في عملية الحكم عبر صنع علاقةٍ شفافةٍ ومفتوحةٍ بين الشعوب والحكومات، وأنه إذا ما انعدمت الشفافية في هذه العلاقة فإنها تفقد التجربة الديمقراطية روحها والعقد الاجتماعي أركانه.
الصحافة الحرة تمنح دوراً أوسع للمحكومين في التفاعل مع السلوك الحاكم، إذ توفر للمجتمعات المعلومات والرؤية المحايدة والحقيقة لما يمكن أن تخفيه السلطات وتتحفظ عن إعلانه للشعوب، فمبدأ الشفافية سمةٌ رئيسة لمخرجات الصحافة الحرة في المجتمعات الديمقراطية، وهذا ما يجعل منها ضرورةً ذات أولوية قصوى في ضمان نجاح التجارب الديمقراطية وديمومتها.
وبعبارةٍ أخرى، الصحافة الحرة تمنع انتكاس العملية الديمقراطية وانهيارها من الداخل وتحولها لوجهٍ ديكتاتوريٍ آخر لأنظمة الحكم، إذ تستمر بربط الشعوب بمجريات الأروقة السياسية وتوفير جوٍ من الشفافية يلزم رأس الهرم في النظام السياسي بالوفاء بالتزامات العقد الاجتماعي في صورته الديمقراطية.
من جهةٍ أخرى أيضاً فإن هذا الدور الذي تلعبه الصحافة الحرة في تعميق مستوى الشفافية بين الشعوب والسلطات الحاكمة يساهم بشكلٍ فعليٍ في مكافحة الفساد ونهب المال العام والثروات الوطنية، حيث يمنح المواطنين قدرةً على الوصول للمعلومة والاطلاع على المستور للمشاركة في ممارسة دورٍ رقابيٍ على السلطات.
أهمية الصحافة بالنسبة للحريات والقيم المدنية
أحد المعايير العالمية اليوم في تقييم العملية الديمقراطية ومستوى تمتع المجتمعات بحقوقها الإنسانية والمدنية وممارستها لحرياتها هو مؤشر حرية الصحافة العالمي، ومن جهةٍ أخرى فإن الصحافة الحرة يمكن أن نصفها بأنها المعيار الحاضر لمستوى أداء الحريات في المجتمعات المختلفة ومدى ديمقراطية هذه المجتمعات وأنظمتها السياسية.
غياب الصحافة الحرة وقمعها يعني أن هنالك ما تخفيه السلطات والقوى المؤثرة، ورفض دورها اجتماعياً وثقافياً لمجرد أدائها دورها في كشف المحظور والمستور في الثقافة التقليدية وعرضه للمحاكمة العقلانية يعني أن هنالك خللاً اجتماعيا في بنية الوعي الجمعي واستعداداته لإمساك دفة نظامه، وهنا يصبح التغيير ضرورة.
وفي مرحلةٍ ما، فإن تراجع دور الصحافة الحرة في مجتمعٍ ونظامٍ ما، يعني ضرورة التحرك لإنقاذ القيم المدنية والديمقراطية. وبصورةٍ إجمالية، يمكن القول إن قمع الصحافة الحرة يعني قرع ناقوس خطرٍ يستدعي تدخل الشعوب والمجتمعات لإنقاذ حريتهم ومستقبل بلدانهم.