“كان يدعى رالف رزق الله. في صباح السبت 28 تشرين الأول 1995، أوقف سيّارته التويوتا الخضراء بمحاذاة الرصيف أمام مقهى دبيبو، ثم ترجل منها مسرعاً، وتسلق الحافة الحجرية القصيرة، وقفز إلى الفضاء. قبل أن يقفز شرّع ذراعيه كالصليب، خلفه بيروت، وقبالته صخرة الروشة. كان يرتدي بنطلونه الجينز القديم، والقميص الكاكي الذي اشتراه قبل سنتين. كان في الخامسة والأربعين من عمره. ورمى نفسه هوى عن علو خمسة وأربعين متراً، وارتطم بالصخور. ثم طفا على وجه المياه. هكذا انتهى كل شيء”
هكذا كانت افتتاحية رواية “رالف رزق الله في المرآة”، لربيع جابر. في الأدب هكذا يبدأ كل شيء، أما في الحقيقة فكان الأمر ينتهي بهذا الشكل بكل بساطة، فكل الذين تعثروا بسؤال الجدوى والمعنى ووضعوا أقدامهم على عتبة الاكتئاب والقلق والأرق والسؤال لن يعودوا إلى الوراء أبدًا.
وأنا أقرأ الرواية بدا لي أول الأمر أن اسم “رالف رزق الله” اسم روائي عادي اختاره الكاتب لأحد شخوص عمله لكن وأنا اتقدم في السرد اكتشفت أنه يتحدث عن شخص حقيقي، وإلى جانب الرواية كنت أفتح نوافذ الإنترنت بعد كل تاريخ أو عنوان لمقال تحدث عنه ربيع جابر فوجدتني إلى جانب الرواية أقرأ عشرات المقالات ذات الصلة بشخص رالف رزق الله.
لم أصدق أن بعد كل هذه السنوات التي مرت على حادثة انتحاره مازال اسمه يكتب وسط المقالات ومازال أصدقاؤه أو من تعثر بهم من رفاق أو كتاب وصحفيين ينعونه بكل حرقة. وإلى جانب هذه المقالات غصت أكثر في مقالات تهم الانتحار كحدث كان ومازال يسيل الحبر ومثلي مثل ربيع جابر تساءلت لماذا انتحر “رالف رزق الله”؟ وكما فعل ربيع جابر رحت أبحث عن جواب.
رالف كان -حسب شهادات الذين عاصروه- “فيلسوفا”، كتب الكثير من المقالات والكتب، خاض حياة السياسة والنضال كأي شخص في شأنه، ربما عانى من العالم والخيبات لكن هذه الخيبات ربما تكون مثلما عانى غيره أو أقل قليلا.
لماذا يقرر شخص خبر علم النفس وغاص في بحور الفلسفه أن ينهي حياته؟ ظننت أن ربيع جابر قد يجيبني لكنه ورطني أكثر، قرأت الرواية أكثر من ثلاث مرات، بحثت عبر الإنترنت، قرأت شهادات الذين عاصروه وتعثروا به وصادقوه، لكني لم أجد شيئا.
لماذا وكيف يقرر شخص ما أن ينهي حياته بدل أن يعيشها؟ في حقيقة الأمر لم يعد أي شخص من الانتحار ليخبرنا عن التفاصيل والأسباب، و على اللحظات الأخيرة قبل هذا القرار الغريب العظيم والقوي. وإلى جانب الدراسات النفسية التي تفسر سبب الانتحار وتقدم أعراض الميولات والأفكار الانتحارية حتى أن بعض الكتب تحصرها في جداول وأرقام، إلى جانب كل هذا فإني أعتقد أنه قرار عادي، كما يقرر شخص أن يخرج للمقهى أو أنيشعل سيجارة، يقرر أحدهم أن ينهي حياته، هكذا ببساطة.
رالف كان يريد أن ينهي الصداع الكبير الذي حل به، هكذا ببساطة! لماذا لم يتناول حبة أسبرين؟ لماذا لم يكشف عن نفسه لدى طبيب مثلا. ربما لم يكن صداعا عضويا، ربما. أصدقاء رالف قالوا إنه لم يتحمل ما وصل إليه لبنان بعد الحرب. إذ كتب الشاعر عبده وازن ينعى رالف قائلا:
“ليس انتحار رالف رزق الله إلا انتحار مثقف لبناني. فالكاتب الذي رافق «أمراض» المدينة قتلته المدينة، والباحث الذي حلّل ظواهر الحرب تحت مجهره قتله السلام الذي فُرض كحلّ جاهز لمسألة صعبة ومعقدة. رمى رالف رزق الله بنفسه في البحر قرب المقهى الذي كان يرتاده هو ورفاقه الذين حلموا وناضلوا وخابوا. بحر بيروت لم يرحمه، ولا زرقته الخريفية شفعت به”.
الكاتب والباحث والمحلل النفسي والمثقف والمناضل، لماذا انتحر الآن؟ أليست المرحلة هي مرحلة النهوض من الهاوية؟ أم تراه نسي ذاك الرجل أن الحرب انتهت وأنّ صورتها احترقت تحت شمس السلام والجرافات؟
ثمة سؤال جوهري ارتبط دائما بالانتحار: “لماذا؟” لكن بعد هذا الغوص الخفيف في هذه العوالم الممتدة اللامتناهية أظن أنه سؤال خاطئ، كأن تسأل شخصًا ما لماذا سكب فنجان قهوة أو لماذا أشعل سيجارة أو لماذا تناول الجريدة من فوق الطاولة. هكذا، فالصخب يبتلعنا كل يوم ويطحننا اليومي فنخرج منه منهكين متكئين على سؤال الوجود.
كتبت لي احدى الناجيات من محاولة انتحار فاشل تقول: “ليلا في غرفتي الضيقة يزورني القلق ويرمي بي على شواطيء غواية العدم البعيد، أتخيل نفسي أسبح في فضاء بعيد من الفراغ بكل هدوء وخفة، فضاء سحيق بعيد جدا بلا قاع ولا انتظارات ولا وقت ولا هواجس ومخاوف ولا أسئلة، ولاشيء، وحدي، جسدي خفيف يسبح في بلازما حرة بعيدة عن الأجرام والنجوم التي تتراءى لي من بعيد”.
تحتلني الرؤية مع مقطوعة “شجن” للثلاثي جبران، ونسخة قديمة من ديوان أزهار الشر لبودلير، تتقمصني الرؤية أكثر، أسير باسمه إلى الشرفة أطل فلا أرى الرصيف ولا مصابيح الشارع التي كانت منذ زمن ترسل حزمات الضوء المنسكبة على بلاط الرصيف.
يتراءى لي طيفانا الذين سارا تحت غطاء الليل في الليالي الباردة، أتذكر وقفتنا تحت عمود النور ذاك مازلت أتذكر الأثر الذي خلفه الضوء المنسكب في قسمات وجهك وارتجافه يديك ورائحة أنفاسك الممزوجة بطعم سجائر الدانهيل، أثر الهواء البارد في جلدك. أفيق من الماضي وأطل مرة أخرى من الشرفة ولا أرى الرصيف. أرى الفراغ الذي يغريني بالسباحة والخفة والحرية والراحة الأبدية من السؤال المعلق بقلبي كمقصلة تفتك بي.
القلق -كشيء ملموس- هو تدفق الكثير من مشاعر الخوف والرعب من المجهول الذي يغطي اليومي والأحداث والأشخاص. رغبة كبيرة في ملازمة الفراش والنوم إلى ما لانهاية. عدم الرغبة في الدخول ولا الخروج ومقابلة الناس ولا الخوض معهم في قضايا الشأن العام الاجتماعي والسياسي، إحساس كبير بالحزن والوحدة والغربة، لهذا كانت تلك الرؤية تشبه الخلاص.
لم يعد أحد من هناك ليخبرنا ماذا يحصل في ذلك الفراغ والفضاء الفسيح الخالي من مؤشرات الزمن والعاطفة ومن أبعاد الواقع، المنتحرون أشد شجاعة منا نحن المتشبثين بقشة الوجود الدامية، إنهم أحرار من الداخل وحقيقيون ورغبتهم في الانعتاق فاقت كل الرغبات الأخرى.
تتحول الرؤية إلى حلم جميل كنهر وردي أسبح فيه، أسير نحو الشرفة كالعادة، أستشعر الهواء الخفيف يداعب خصلاتي أطل ولا أرى الشارع، اترك حذائي أصعد إلى الحافة وأشرع ذراعي كصليب، وكما فعل رالف رزق الله، و مثله أخلف ورائي غرفتي، فساتيني، عطري، أعقاب السجائر المخفية بحذر في درج الكومودين، ستائر شعري، وخواطري حول العالم وحول نفسي و حول الله.
هكذا ينتهي كل شيء.