اتخذت إدارة الرئيس ترامب موقفاً سلبياً من العولمة واعتبرتها تهديداً اقتصادياً يمهد لصعود الصين على رأس هرم الاقتصاد العالمي وإزاحة واشنطن، وذلك بالتأكيد ترك أثاراً سياسية وإقتصادية على تحالفات واشنطن في منطقة شرق أسيا والشرق الأوسط.
قرارات الإدارة الأمريكية أثبتت أنها كانت سيئة العواقب على المصالح الأمريكية، فبين خسارة حليفٍ أوروبي في قضايا كثيرة منها الإتفاق النووي لمجموعة 5+1 مع نظام طهران وانتهاءً بوقوفها وحيدةً في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تمديد حظر بيع الأسلحة الأممي على النظام الإيراني.
إدارة الرئيس ترامب أعادت تشكيل خارطة المصالح الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وزادت من حدة أزمات المنطقة، أو بالأحرى أنها إحالتها لفوضى من البؤر المشتعلة المهددة لمصالح واشنطن وأمن حلفائها الخليجيين، فيما فشلت في حل الأزمة الخليجية.
وبين أهمية المنطقة الخليجية وموارد الطاقة فيها والصراع الإقتصادي الصيني الأميركي الذي أصبحت بكين وبلا شك تحرز تقدماً فيه كل يوم، تبرز تحدياتٌ ضخمة وشبه مستحيلة لتتجاوزها إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن في يناير المقبل.
وفي خضم هذا الصراع تزداد أهمية العلاقة مع الخليج وموارد الطاقة الخليجية لواشنطن، فهل تنجح واشنطن في إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة؟
الصين تتقدم خطوة، وواشنطن تخسر المزيد
في العام 2017، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب فسخ اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ TPP التي أبرمتها إدارة أوباما مع تسعة دولٍ أسيوية ولاتينية أخرى تهدف لتحرير اقتصادات هذه البلدان وإلغاء التعرفة الجمركية أو خفضها لتسعين في المائة من قيمة التعرفة التجارية تمهيداً لإلغائها.
اتفاق التجارة الحرة الذي استثنى الصين منه يهدف لتعميق النفوذ الأميركي كشريكٍ إقتصاديٍ أساسيٍ في هذه الاتفاقية كأكبر قوةٍ إقتصاديةٍ فيها، بالإضافة إلى ما يمكن أن يفتح هذا الإتفاق من آفاق إقتصادية أمام منتجات هذه البلدان في فتح السوق الأميركية أمامها.
الرئيس ترامب والذي عُرِف بسياسته الحمائية للسوق الأميركية وفرضه رسوماً جمركية ضخمة على المنتجات الواردة للبلاد، وخصوصاً الصينية منها، ومكافحته للعولمة أعلن فسخ هذه الاتفاقية في اليوم الأول لتوليه الرئاسة في يناير كانون الثاني 2016.
مالم يكن في حسبان الإدارة الأميركية هو أن تستغل الصين هذا الغياب الأميركي وتعرض نفسها كشريكٍ إقتصاديٍ أكثر ثقةً من واشنطن لبلدان شرق آسيا واستراليا بعد مباحثاتٍ طالت ثمانية أعوام، لتوقع مؤخراً اتفاقية الشراكة الإقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP، والتي تهدف لإقامة منطقةٍ حرة لتبادل السلع التجارية والخدمات وخفض التعرفة الجمركية وتسوية النزاعات بين 15 دولةً في المحيط الهادئ، وبالطبع الولايات المتحدة خارج هذه الاتفاقية.
المحاولة الصينية لاستبدال الدولار بعملة الرنمنبي الصينية في التعاملات التجارية الدولية يمثل مشروعاً للإطاحة بالهيمنة الإقتصادية الأميركية على التعاملات التجارية العالمية، خصوصاً وأن أكثر من ربع صادرات الصين تتم الان بالعملة الصينية الرنمنبي.
في الشرق الأسيوي أيضاً تمهد الصين عبر بنوكٍ حدودية مع دول الجوار الأسيوية لإحلال عملتها محل الدولار الأميركي في التعاملات التجارية، وهو الأمر الذي يهدد النفوذ الأميركي في منطقة شرق أسيا ويؤثر على نوع تحالفاتها مع بلدان المنطقة.
الاتفاقية الأخيرة التي استثنت الولايات المتحدة منها ستنشئ أكبر منطقةٍ حرة في العالم والتي تشكل ما يقرب أكثر من ثلث الإنتاج العالمي وما يقارب ثلث سكان الكوكب، وهو الأمر الذي سيدفع إلى تكامل الإقتصاد الأسيوي وإنشاء استثمارات في الدول الخمس عشرة الموقعة عليها.
يبدو أن الرئيس الأميركي الحالي أدرك فداحة قراره المتعلق بفسخ اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ ولكن متأخراً، ولذا فقد أوعز لفريقه دراسة قرار العودة للاتفاقية التي انسحب منها مهما كان الثمن حسب الجزيرة.
الخليج أكثر أهميةً من ذي قبل
تراجع النفوذ الإقتصادي الأميركي في المنطقة الأسيوية والتقدم الذي تحرزه الصين كأهم منافسٍ إقتصاديٍ لواشنطن يزيد من أهمية المنطقة الخليجية وموارد الطاقة فيها لواشنطن كضامن لبقاء سياسية البترودولار التي تحفظ مكانة الدولار الأميركي.
بالإضافة إلى ذلك فإن النفط الخليجي الذي تحتاجه الصين وتستهلك منه ما يقرب من ثمانين في المائة من احتياجاتها النفطية أصبح بمثابة ورقة ضغطٍ تكاد تكون الأخيرة أمامها لضمان تحالفاتها الأسيوية واستمرار تدفق النفط الخليجي إليها.
بالطبع فإن منطقةً خليجيةً غير مستقرة ومهددة بإنهيار الأوضاع في أي لحظة ليس من مصلحة واشنطن في صراعها الأكبر مع الصين، ولذا فمن المتوقع أن إدارة الرئيس بايدن الجديدة في البيت الأبيض ستعمل إلى إعادة تطبيع الأوضاع في المنطقة.
الرغبة الأميركية في إعادة ترتيب أوضاع المنطقة والوصول لأرضيةٍ مشتركة مع القوى الإقليمية المؤثرة في الشرق الأوسط ما زالت صعبة التحقق أمام التحديات التي تواجهها في المنطقة وربما لن تكون هي من يفرض الشروط في الفترة القادمة.
الأزمة الخليجية على رأس مهام الإدارة الجديدة، رغم أنها تمثل تحدياً كبيراً لا يمكن حله إلا بحل التوترات السياسية والعسكرية بين تركيا والدول الخليجية السعودية والإمارات وهو أمرٌ مرتبطٌ بالعلاقات الأميركية التركية وأطماع أنقرة في حوض المتوسط والشمال الإفريقي.
الحرب في اليمن وغرق السعودية في مستنقعها يمثل عقبةً أخرى في استمرار التهديدات الأمنية لموارد الطاقة السعودية كأكبر قوةٍ خليجية منتجة وأهم حليفٍ لواشنطن في المنطقة، فيما تكاد تنعدم الإمكانية لفرض حلولٍ عادلة للأزمة اليمنية يمكن أن تكفل عودة الحياة السياسية وضمان الأمن السعودي مستقبلاً.
في العراق أيضاً تقف أمام الإدارة الأميركية الجديدة تحدياتٌ صعبة بعدما خلفته سياسات إدارة ترامب في الشأن العراقي واقترابه من المصالح الإيرانية التي هدمت حدود التفاهمات الدولية في تقاسم المصالح الخارجية في العراق بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني ونائب رئيس الحشد الشعبي يناير كانون الثاني 2020.
الأزمات السياسية التي تشتحن بها المنطقة بالتأكيد تحمل تأثيراتٍ إقتصادية تزداد حدتها كل يوم، تهدد خطوط الملاحة الدولية في الخليج إذا ما انهار الوضع ودخلت دول المنطقة في مواجهاتٍ عسكرية مباشرة مع طهران، بالإضافة إلى تهديد استمرار الحرب في اليمن دون الوصول لحلولٍ عادلة لجميع الأطراف تكفل ضمان الأمن الإقليمي يهدد استمرار تدفق النفط لحلفاء واشنطن في أسيا واستمرار هيمنة الدولار الأمريكي.
تراجع الإنتاج الخليجي للنفط عقب ضربةٍ تبناها الحوثيون واستهدفت منشأتٍ نفطية في بقيق العام الماضي يمكن أن يتكرر وبصورةٍ أكثر ضرراً، حيث وقد امتدت أثار الضربة السابقة لأشهر تلتها.
معظم هذه المشاكل لا يمكن حلها بالتأكيد إذا لم تستطع واشنطن صنع قنواتٍ تواصلٍ وتفاهمٍ مع طهران والوصول لأرضيةٍ مشتركة تحقق تفاهماتٍ مشتركة حول قضايا المنطقة التي يبرز فيها الدور الإيراني بدلاً من بقائها بؤراً مشتعلة تهدد أمن المنطقة وبالتالي أمن حلفاء واشنطن ومصالحها في صراعٍ هو الأكبر مع بكين.
الوصول لتفاهمات أمريكية إيرانية أصبحت أهم من ذي قبل بالنسبة لواشنطن لضمان استقرار المنطقة وأمن حلفائها الخليجيين، وهو ما يبدو أن الإسرائيليين لا يرغبون به، حيث يدفعون نحو تعقيد الأزمة بين طهران وواشنطن أكثر آخرها كان اغتيال البروفيسور الإيراني فخري زاده في طهران على يد خليةٍ تابعةٍ لإسرائيل.