“أنا كنت أحلم برؤية موسيقية مختلفة لم أرها منذ ما يقارب 30 أو 40 سنة مضت في الأغنية العربية بشكل عام”، هكذا قال الشاب النوبي الخجول ذو السمرة اللافتة، في برنامج تلفزيوني سنة 1984، عندها لم يكن في رصيد هذا الشاب الحالم سوى 4 ألبومات (علموني عنيكي 1977، بنتولد 1978، شبابيك 1981، أتكلمي 1983)، تقدم فيها إلى الجمهور العربي المحافظ، كما هو، حر وعارٍ من البروتوكولات، وقف على المسرح وهو يرتدي “الجينز” مع “تي شيرت” وشعر مهمل مفلفل، وهو يلف سلك “الميكروفون” حول عنقه، في هذه الفترة كان من المفترض بالفنان أن يرتدي البذلة الكاملة مع ربطة العنق وأن يقف باستقامة أمام الجمهور مع مايكروفون ثابت.
وهنا يأتي صاحبنا بعفويته ليكسر الصورة الكلاسيكية للفن ولعالم الحفلات والمسارح، فتراه يؤدي الأغنية بجسده وروحه قبل صوته، يرتدي الملابس الفضفاضة والإكسسوارات ويمزج الألوان بجرأة وبحرية تتناسب مع روحه الحرة التواقة لتصدير هذه الحرية للجمهور العربي وكأنه يريد أن يقول من خلال شكله “كونوا أحرارا، كونوا حقيقيين، كونوا كما تريدون أن تكونوا، لا كما أرادوا لكم أن تكونوا”.
عندما سألته الإعلامية نجوى إبراهيم في نفس البرنامج سنة 1984: “من هو الفنان الذي يؤدي نفس لون محمد منير؟؟” أجاب بكل ثقة وتلقائية دون لحظة تفكير “لا أحد”. تبدو هذه الثقة لافتة للانتباه بالنسبة لشاب في بداية طريقه وقد يحسبها بعضهم الآخر غرورًا قد يؤدي بصاحبه إلى الهاوية، لكن بعد كل هذه السنين عن ذلك اللقاء التلفزيوني مع منير، تبين أن الرجل كان يعي جيدا كل كلمة يقولها وأنه أيضا كان يشعر بتفرده بل يرغب فيه ويسعى إليه بعينين مفتوحة ويطمح إلى نقل عدوى التفرد والحرية إلى مستمعيه.
ولد محمد منير بمدينة أسوان المصرية في قرية النوبة سنة 1954، وتخرج في قسم الفوتوغرافيا والسينما التلفزيونية بجامعة حلوان، لكنه اختار أن يقف أمام الكاميرا لا خلفها، ومن خلال هذه الازدواجية وهذا التحول بين المجالين متناقضين نتأكد أننا بصدد شخص استثنائي ولا يشبه أحدا وقد اختار ألا يكون إلا نفسه، ففي الوقت الذي يتبع فنان ما لونًا موسيقيًّا معينًا يختص فيه؛ كاللون الطربي أو الشرقي أو الغربي أو الجاز إلخ، يقف منير ليقول إن كل هذه الألوان الموسيقية التي تزدحم بها الساحة العربية وحتى العالمية كلها لا تشبهه ولا تعبر عنه وعن هواجسه ومجمل أفكاره، ليصنع لونه الخاص المتفرد الذي أخرجه من خبايا ذاته ومن بيئته ومن تراثه ومزجه بدقة وعذوبة منقطعة النظير مع اللون الموسيقي الذي يشبه روحه من الداخل.
وإنه لأمر لافت ونحن نتحدث عن شخصية هذا الفنان المتفرد والمتميز أن نجد من النقاد من ينتقده لهذا السبب ذاته أي لأنه متفرد ولا ينتمي للون موسيقي بعينه، إذ فيهم من ينزع عنه صفة الالتزام لمجرد أنه استعمل الموسيقى ذات الطابع الخفيف والمستمدة من التراث الفلكلوري الممزوجة بالجاز وبروح محمد منير، وكأنه قاعدة أن يكون الفن الملتزم حزينًا ومنفرًّا أحيانا ونخبويًّا، وهذه الحجة مردودة على صاحبها، ذلك أنه حتى كبار مؤسسي الفن الملتزم في العالم العربي كانت بعض أغانيهم مستمدة من الموروث الفلكلوري ولعل أغنية “البحر بيضحك ليه” للشيخ إمام عيسى أبرز مثال وغيرها الكثير.
في شهر أوت 2017، تم برمجة حفلة لمنير بمهرجان الحمامات الدولي (تونس) كنت أنتظر حفلة منير بفارغ الصبر ومثل كل الأشياء التي أبرمجها مسبقا ولا تتم، فوّتُّ الحفلة لظرف ما، كنت أجلس في باحة منزلنا الريفي أتابع أمواج إذاعة تونس الثقافية التي كانت تغطي الحفل على المباشر، وكعادته كان منير وفيا لالتزاماته وبوصلته المنحازة للشعوب، افتتح الحفل بأغنية “يا عرب”، وحين سأله المذيع عن هذا الاختيار الذي بدأ به الحفل قال بكل صدق “أنا مهموم بالمواطن العربي في كل مكان… وأقول وأغني لحريته للعدالة فيه… فالفنان خلق ليكون مرآة لشعبه”.
في تلك الليلة غنى بكل حب ورددت كل أغانيه التي رافقتني في بواكير سن الشباب وأصبحت جزءًا من اليومي، يونس، علي صوتك بالغناء، قلبي مساكن شعبية، الليلة يا سمرة إلخ. وهو يغني تتساءل كيف لهذا الرجل النحيل أن يحمل في صوته هم الشعوب وحزنها وفرحها وهواجسها وويلاتها وحتى تفاصيلها الصغيرة في حبها ووجودها عامة.
في بداية مشواره، مثّل شكل منير المتفرد عقبة أمام هذا الإبداع، فلون بشرته وهيئته التلقائية جعلته محل نقد في ذلك الزمن الذي كان شكل الفنان ووسامته تمثل جواز عبور إلى عالم الشهرة والنجومية، ربما لأن الإعلام الذي نشأ عنصريا في جزء منه في عالمنا العربي كان يرفض هذا الاختلاف ويسعى إلى ترسيخ صورة نمطية للفنان الوسيم ممشوق القامة الذي يلبس على مقاييس الموضة ويقف على المسرح حسب البروتوكولات التي غدت كأنها قواعد مقدسة، إلى درجة أصبح فيه اليوم يتم التركيز على الشكل والصورة أهم حتى من محتوى الفن وجودة الألحان والكلمة وجمال الصوت بل إلى درجة أن أصبح صوت الفنان والكلمات آخر ما يتم الاهتمام به في مقابل الصورة التجارية التي أدت إلى هبوط الأغنية العربية وحتى نظيرتها العالمية إلى الحضيض.
وأصبحت الأغاني التجارية تتصدر المشهد في مقابل تهميش الأغنية الملتزمة والفن الملتزم إجمالا، أما صاحبنا فلم تثنه هذه العقبة بل زادته إصرارا ليمثل استثناء، رغم أنه كان يشعر في داخله بهذا التمييز الذي سلط عليه إعلاميا وحتى من الفنانين الموجودين في الساحة في ذلك الوقت، وهنا يمكننا أن نستحضر حادثة قد أثرت في منير حيث قدم المطرب محمد الحلو تصريحًا لإحدى الإذاعات بأنه هو وهاني شاكر ومحمد الحجار ومدحت صالح يشكلون نخبة الطرب الأصيل مشيرا إلى أن لمنير خصوصية، وهنا، بروح منير الجنوبية، اتصل بمحمد الحلو وقال له حرفيا “خلاص، إنتم الأربعة اللي ماسكين لواء الغناء العربي يعني؟ الخلفاء الراشدين؟ طب اعتبرني بلال يا أخي”، وهنا كان يقصد بلال مؤذن الرسول لا من ناحية الصوت الجميل فقط بل بسبب العنصرية التي كانت تمارس ضده. كل هذا كان مجرد عثرات واجهت صاحبنا وربما زادته إصرارا على أن يفرض نفسه على الجمهور العربي، لا بالبذلة وعمليات التجميل وبالوسامة البلاستيكية بل بصوته وفنه وباختلافه فحسب.
أما عن “الحرية” فذلك شأن آخر، فالمتعمق في أغاني منير بدءا يفهمها بثلاث مستويات؛ المستوى الأول: وهو أن تسمع الأغنية للوهلة الأولى ليبيّن لك أنها أغنية عادية جميلة بلحن خفيف راقص يميل إلى البهجة وفيها شاب يتغزل أو يغني لحبيبته، وفي مستوى آخر تكتشف أنه لا يغني للحبيبة بل للأرض والوطن كما الشأن في أغنيته “إقرار” أو “ليه ترضي ياحبيبتي” إلخ من أغانيه التي ترتدي فيها مصر جبة الحبيبة أو المعشوقة المتمنعة والقاسية والتي ترد على الحب بالقسوة والقهر لهذا المعشوق.
في مستوى آخر هو يغني للفكرة للمطلق للوجود وهنا بالذات يسكن هاجس الحرية الذي يلتحم مع كل أغنية ويعطيها بعدا آخر، في البدء كانت حرية الكلمة واللحن وحرية تقديمها بذلك النمط غير الاعتيادي، ثم يأتي معجم الحرية الذي يتجلى في كامل أغانيه كقوله: “وداه حب إيه إلي من غير أي حرية” من أغنية “يونس”، “علي صوتك”، أغنية “بنات” التي لخصت بشكل بسيط معاناة المرأة العربية وأحلامها.
كل هذه التفاصيل المتفردة وكل هذا الإصرار والإيمان بالذات والالتزام الذي رافق مسيرة منير الفنية صنعت منه ملكا أو “الكينغ” كما يحلو للجمهور العربي تسميته. هذا الكينغ الذي صنع أسطورته الخاصة من هاجس الحرية حريته التي جعلته يقبل شكله كما هو لأنه حر من الداخل ولم ينسق إلى مربع الرياء والتجميل والتسويق بالصورة المزيفة لتمتد هذه الحرية إلى اختيار الكلمة وإلى اختيار اللحن والخط الفني الذي لا يشبه أحدا، هاجس الحرية هذا نصب منير ملك على عرش الأغنية العربية، هذا التنصيب ليس من قبل التسمية الواهية فقط، بل هو لقب منح له من جمهوره، الجمهور الذي باستطاعته أن يتحسس صدق الأغنية وتفردها ورسالتها النبيلة.
ربما دفع منير مقابل أن يكون حرا الكثير من التهميش والكثير من العنصرية التي سلطت عليه والكثير من الأبعاد من المشهد الفني، لكنه اليوم موجود وله قامته الخاصة وفنه الخاص ولونه المتفرد والمتميز ولا يمكن لأحد أن يزيح اسمه أو أعماله و لونه الموسيقي. هكذا هي الحرية دائما صعبة المراس شاهقة العلو، لتنالها عليك أن تدفع الكثير مقابل ذلك وهي لا تليق سوى بالذين يبذلون في سبيلها كل شيء، كصاحبنا الذي استحق أن يسمى بالفنان الحر أبدا.