مع أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الحداثة تدق أبواب منطقتنا العربية بقوة طارحة العديد من التساؤلات، والأفكار، والتحديات المرتبطة بقضايا التراث، والهوية، والعقلانية وعلاقة الدين بالمجتمع ، ورغم ظهور العديد من المشروعات التنويرية الساعية لتجديد الفكر والخطاب الديني وإحياء دور العرب والمسلمين كشركاء في بناء الحضارة والمعرفة الإنسانية، إلا أن هذه المشروعات تم وأدها في مهدها إما بقمع من قوات الإحتلال الإنجليزي، وإما الفرنسي، وإما الإيطالي باعتبار أن أي مشروع حداثي عربي سيكون مهددا لسيطرته وهيمنته، وتارة أخرى بقمع داخلي من أصحاب الفكر السلفي، أو من بعض الأنظمة التي تولت الحكم بعد رحيل المحتل الأوروبي.
على الجانب الآخر لم تقتصر هذه الأسئلة، والتحديات المرتبطة بالحداثة وعلاقتها بالإسلام على المجتمعات العربية فقط، بل امتدت لمعظم المجتمعات الإسلامية غير العربية، ومن أكثرها قربًا جغرافيًا وثقافيًا المجتمع الإيراني، لذلك من الضروري ونحن نتحدث عن قضية الفكر والخطاب الديني أن نطل، ونتعرف، ونناقش أطروحات وأفكار الباحثين الإيرانيين الذين قدموا مشاريع تنويرية تحاول الاشتباك مع أسئلة وأفكار الحداثة ومن هؤلاء المفكرين الذين طرقوا باب تجديد الفكر والخطاب الديني الباحث والمفكر “عبدالكريم سروش”، وهو واحد من أبرز المثقفين الإيرانيين المعاصرين.
“سروش” الذي اختارته مجلة “الفورين بوليسي” ضمن المفكرين العشرة الكبار في العالم عام 2009، يجمع بين الفكر المعاصر من خلال دراسته في بريطانيا للصيدلة والعلوم الفلسفية، وبين المعرفة التراثية من خلال تنشئته وعمله لفترة كعضو في لجنة الثورة الثقافية الإسلامية مما ممكنه من التعمق والإبحار في الفكر السياسي والديني الإيراني، ووضع يده على التحديات والأزمات التي تعتري الخطاب الديني الشيعي والإسلامي بوجه عام الذي يسيطر عليه أصحاب الفكر المحافظ.
رؤية صوفية
على مدار مسيرته البحثية الممتدة منذ بدايات سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، أصدر “سروش” عشرات الأبحاث، والكتب، والدراسات تدور معظمها حول قضايا الحداثة، والتراث، والمعرفة، والعقل، والفكر الديني المعاصر والتراثي، وعرف مشروعه لتجديد الفكر والخطاب الديني من خلال استدعائه مصطلح “القبض والبسط” ليكون عنوانًا لواحد من أبرز كتبه، والقبض والبسط عند أهل التصوف هما حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضًا، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطًا، وبناء على هذا المعنى بلور “سروش” نظريته التي تقوم على انقباض وانبساط المعرفة الدينية.
شكلت المعرفة الصوفية وجدان، ووعي، ورؤية صاحب كتاب “العقل والحرية” للدين والحياة، وخاصة تجربة الفقيه، والشاعر، والمتصوف الكبير “جلال الدين الرومي”، ففي حوار نشره موقع “قنطرة” يشير “سروش” إلى أنه حين نقرأ الرومي نصادف عالمًا شديد الاختلاف، ونحن بحاجة لعوالم مختلفة، لأننا منذ اللحظة التي نولد فيها، فإننا نولد في عائلة، في مدينة، في بلد معين، في ثقافة معينة. ونحن بحاجة شخص ليأتي ويساعدنا على تغيير نظرتنا إلى العالم – وهذا الشخص من الممكن أن يكون الرومي.
ويضيف: “نحن نعيش، الجميع يعيش، بيد أننا نحتاج إلى أناس مثل الرومي ليعطوا معنى لحياتنا، ليخبرونا عن جوهر الحياة الحقيقي. هذا هو الجانب الأول. أما الثاني فهو هذا: الرومي، كما أفهمه، كان لديه خبرة مباشرة في الله، خبرة مباشرة في الألوهية. رجل ذو تقاليد نبوية مستمدة من الأنبياء. نحن بحاجة لأشخاص مثلهم. نحن نحتاج إلى أن نتمكن من النظر إليهم والقول: هنا النبوة، هنا الألوهية، هنا تجسيد لمعنى الحياة”.
ينطلق صاحب كتاب “العقل والحرية” في مشروعه البحثي مازجًا بين المعرفة التراثية الصوفية، والأفكار الحداثية ساعيًا لتجاوز تلك الثنائية القطبية بين الماضي والحاضر، والتعامل معهما بوصفهما وجهين لعملة واحدة عبر محاولة إيجاد صيغٍ توافقية لا تنفي الماضي لصالح الحاضر، ولا تقدسه تفرضه كقيمة واحدة مطلقة تلغي أي محاولة للتساؤل، والبحث، والتغيير، بل تتفهم كلًا منهما في سياقه الزمني والتاريخي.
لذلك بينما يستلهم في مشروعه المنهج “الكانطي” لمحاولة فهم وتحليل كيف تحول الخطاب الديني من اجتهاد بشري إلى رؤى مقدسة لا يجب المساس به، من خلال المزج بين النظريات التفسيرية لعلم التأويل “الهرمنيوطيقا”، والرؤى والأفكار المعبرة عن النظرية المعرفية “الإبستمولوجية”، وعلى الجانب الآخر يختار مصطلحًا تراثيًّا يعزز من هذه الرؤية وهو “القبض والبسط”.
الثابت والمتغير
يؤكد صاحب كتاب “الصراطات المستقيمة” مرارًا على أن مشروعه البحثي لا يهدف لتغيير الدين، ولكن طريقة فهمنا ونظرتنا للدين، مشيرًا إلى أن الدين كمعنى مطلق ثابت لا يتغير بتغير الزمن، لكن المعرفة الدينية بشرية قابلة للتغيير، أي أنها نسبية كسائر المعارف البشرية وحيث إن هذه المعارف تتعرض للتغيير فالمعرفة الدينية تتغير أيضًا، وفي هذا السياق يكتب سروش: “القبض والبسط هي ذلك النوع من المعرفة البشرية الخاضع للتطور والتغير، والتبدل بتفاعله مع العلوم الأخرى، أي أن المعرفة الدينية لأي إنسان وفي أي عصر تنقبض وتنبسط بحسب مجموع معلوماته ومعارفه البشرية، وأينما وقع تغيير في جزء فسيصيب التغير للكل”.
يرى “سروش” أن النصوص الدينية هي نصوص صامتة، وكل من ادعى الحياد في قراءتها كما هي فقد فشل، فقراءتنا لها دائمًا مرتبطة بمفاهيم مسبقة خارجة عنها لاختلاف الزمان، وتبدل الأحوال، وغرض القارئ من قراءته، فالحقائق تختلف وتتعدد لمقروء واحد، فالنص لا يحمل على أكتافه المعنى، فهو رهين بالمعارف من حوله، والأسئلة الجديدة التي نعجز عن إجابتها تدعونا إلى تبني خطاب جديد يربط المعرفة الجديدة في العلوم الطبيعية والإنسانية بالرؤية الدينية. .
من هذا المدخل يؤسس صاحب كتاب “التراث والعلمانية” للقاعدة الثانية في نظريته التي يتحدث فيها عن ترابط المعارف البشرية ومنها المعرفة الدينية، مما يعني أن حدوث تغير في إحدى هذه المعارف يتطلب استجابات وتغيرات في المعارف الأخرى بما فيها معرفة الإنسان بدينه، لتكون النتيجة أن فهمنا وقراءتنا للدين سوف تتطور حسب تطور العلوم البشرية الأخرى.
تطور المعرفة الدينية
يشير “سروش” إلى أن أدراك نسبية المعرفة الدينية يخرجنا من مأزق “أدلجة الدين” والاعتقاد الاصطفائي بالفرقة الناجية وأن من دونها في النار، هذا الاعتقاد الذي يحول المجتمع لمعسكرات متصارعة، مشيرًا إلى أن الركيزة الأساسية لتجديد الفكر والخطاب الديني هي بناء مجتمع يؤمن بالتعددية والاختلاف والحق في التساؤل بعيدًا عن سيطرة الفهم الأصولي لنصوص دينية، الذي يحتكر الحقيقة والتحدث باسم الله، وفي هذا السياق يقول “إن التشيُّع والتسنُّن فهمان وقراءتان للدين، وليس أيٌّ منهما عينَ الإسلام النقي الخالص وذاته، كلٌّ منهما مزيج من حقٍ وباطل، كلٌّ منهما معرفة بشرية وبالتالي مشوبة بالنقص وعدم الكمال وقابلة للخطأ”.
ويؤكد صاحب كتاب “أرحب من الإيديولوجيا” أن التعددية والاختلاف هي جوهر الإسلام، مدللًا على ذلك بأن أول من أسس للتعددية ودعا لها هو الله -سبحانه وتعالى- حينما أرسل الرسل والأنبياء لشعوب مختلفة في اللغة وفي الحياة برسالات مختلفة في الشرائع متفقة في الدعوة لله، ويشير شروس إلى أن ثقافتنا الدينية تهتم للغاية بالجانب السماوي في حياة النبي، وتهمل الجانب البشري، رغم كون النبي منذ اللحظة الأولى من نزول الوحي، وهو يتعامل بثقافة عصره ويخاطب قومه بلغتهم، وجاء القرآن ليؤكد على هذا فضرب لهم الأمثلة التي تعبر عن واقعهم المعاش، لذلك يجب أن ندرك أن جوهر الخطاب والفكر الديني في قدرته على التجدد والتطور وليس في الجمود.
هذه المعاني المرتبطة بالتغير، والتطور، والتجدد عاشها “سروش” في حياته على مستوى الأفكار، والمواقف الشخصية، والعمل الوظيفي، فقبل تركيزه على الكتابات المرتبطة بقضايا التراث والحداثة وتمثلاتها الدينية والاجتماعية من خلال نظرية “القبض والبسط”، بدأ صاحب كتاب “المعرفة والقيمة” رحلته البحثية بالاشتباك مع النظرية الماركسية، ورؤيتها الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، كذلك ممارسة عمله لفترة كعضو في لجنة الثورة الإسلامية الثقافية بجانب عمله كمدرس بجماعة طهران، ثم مرحلة صدامه مع السلطة الإيرانية وسفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كل هذه الخبرات والتجارب المتنوعة عززت من انتباهه لدور السياق الاجتماعي والتاريخي في تشكل وتغير الرؤى، والمواقف، والوعي.
طغيان السلطة
على الرغم من أن أفكار ورؤى”سروش” تنطلق من مساحة توافقية إصلاحية وليست تصادمية، إلا أن النظام الإيراني وقطاعات من الجماهير المحافظة لم يحتملوا هذه الدعوات، وتعرض صاحب كتاب “السياسة والتدين” لتضييق من السلطات، خاصة بعد نشره عدة مقالات في مجلة (كيهان) تتحدث عن رؤيته وتصوره عن “القبض والبسط” في الفكر الديني في الثمانينات من القرن الماضي، مما دعاه لمغادرة إيران عام 2000 بعد تعرضه لمزيد من الضغوط والتضييقات السياسية، والاجتماعية.
سافر صاحب كتاب “السياسة والتدين” إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهناك قام بالتدريس في عدد من الجامعات الأمريكية من ضمنها جامعة جورج تاون حيث عمل كأستاذ زائر، وحصل في عام 2004 على جائزة “إيراسموس” مقاسمةً مع كلا من المفكر السوري صادق جلال العظم وأستاذة علم الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي وذلك عن كتاباتهم في مجال “الإسلام والحداثة”، وخلص “سروش” في مشروعه البحثي إلى أن معظم أزمات العقل العربي مرتبطة “بأدجلة الدين، وطغيان الشريعة على القيمة الروحانية للإيمان” مما خلق تناقضًا بين واقع عالمي متجدد ومتغير، ورؤى دينية تدعي امتلاكها لحقائق أبدية ثابتة.