أهو إلحاح الذاكرة ورغبتها في خوض التجربة الجديدة؟! أم هو استجداء تبرير الوجود على قول يحيى حقي، ولكن بحضور مرئيّ طبيعيّ؟! أم هو وقت الحساب في وجود الجمهور على غير العادة؟! أليس هو ذات القالب الذي لا تُعتاد قراءته إلا عبر الورق وفي قصاصاته الملساء؟! أمن الممكن يتغير القالب وتحل محله مربعات زرقاء إلكترونية ؟! أتلاشت الصفحات والسطور والفصول والمجلدات وأصبحت تقليعة قديمة كوصيفتها الصحف والمجلات؟! أجَلدُ القراءة أصبح قرينٍ بمن جُبِل عليه واستمرأه وأصبح الراوي الفائز هو من اختار الوسيلة وطريقة إيصال الرسالة؟! أأصبح جديرًا بنا أيضا في دراستنا لأثر منصات التواصل الاجتماعي أن ننقل أثر هذه الأدوات الالكترونية والمنصات في سحب البساط من تحت أقدام الأدب وفنونه وألوانه كأدب الاعتراف والتراجم الذاتية؟!
فما أن تقفز على مسامع القارئ مصطلحات كـ “السيرة الذاتية” أو “التراجُم الذاتية”، يدفع العقل الباطن لصاحبه القارئ بعدة صور ونماذج أما عينه: أيام طه حسين، زهرة العمر لتوفيق الحكيم، سنوات لويس عوض، حياة قلم العقاد، أوراق أروى صالح وأجزاء نوال السعداوي، والولد الشقي محمود السعدني وإنتاجات أنيس منصور، ومذكرات المازني وأنتوني كوين، حياة نيلسون مانديلا، أجزاء روسو والقديس أوجستين. إلان أن الصورة الآن قد اختلفت. وإن قلبت ذاكرتك كقارئ لأدب السيرة الذاتية منذ سنوات وكذلك الذاكرة نفسها في الوقت الحالي، ستكون النتيجة مختلفة قبل عشر وخمس وثلاث سنين عما هي عليه الآن.
إذ إن ما تجسد في عقلك من ورق ومجلدات ومذكرات وقصاصات حلت محله الآن شاشة ينتصفها مستطيل تتحكم أنت فيما يحمله من محتوى وأفكار. حلت منصات التواصل وأصبحت فضاءاتها البيضاء والزرقاء هي أصل الحكاية، والمكان الأمثل لتدفق السرد عن الأنا وعن الذات، برؤية ومتابعة الجمهور الحصرية لما يُقال، دون انتظار لرقيبٍ يقُص، أو لجلاد يشذب الأوراق إلى حدود المسموح والمُتاح، أو لدور النشر التي تضع التسعيرة أو لمتاعب العثور على نسخة خاصة أو لوعثاء وعِبْء الذهاب إلى المكتبة صاحبة الحق في التوزيع والامتلاك.. وأصبح بإمكانك التعليق على الحكاية التي يرويها صاحبها لتضحد مضمونها أو تشك في منطقيتها أو تشكك في صوابيتها وقد يستجيب الراوي ويعدل بوصلة الكتابة بإضافة المزيد من الأحداث التي تدعم الحكاية المشكوك فيها أو بسردٍ إضافيّ يثري الأنظار التي ترغب في الاستزادة.
وضمن هذه المنصات، حلت منصة رائدة بدأ يجول صيتها كأحد وسائل نقل السيرة والحكاية، رغم أن خمسة عشر عاما هي عمر ظهورها وإنشائها. أصبحت أداة أمثل لنقل السيرة للمفكر أو المبدع أو الرائد في أي مجالٍ كان.. بالصوت والصورة وبنقل كافة الحركات وبإيقاع انسيابيّ طبيعيّ متدفق قوامه الثواني والساعات والدقائق التي يشاركها الراوي مع من يسمعه ويتابعه، إيقاع زمنيّ ومكانيّ وطبيعية مشابهة للخلفية وللتابلوه التي حملت سيناريو حياة الراوي موضوع الحكاية. ما أبدع المزية الجديدة أليس كذلك؟! وما أصدقها حينما أضافت من الحيوية والحضور على عناصر السيرة القديمة!
كانت السيرة قديما والترجمات الذاتية تبحر في تأسيس عناصرها وتطويرها، يتحدث النقاد تارةً عن التجريد ومرة عن الصدق الفني وفينةً عن ذاتية القالب؛ أينتمي للراوية أم هو فنٌ قائمٌ بذاته وله فرديته كالدراما والشعر وقوالب السرد كالرواية؟! فن بلغ من التعقيد كعملية الشروع في الكتابة فيه، إذ إن اختيارك ببدء خيوط الحكاية. وأن تخوض تجربتك في أدب الاعتراف والاوتو بيوغرافيا تعني أنك أمام أصعب لون يقوم بكتابته المؤلف أو الأديب؛ فهي اللحظات التي يستدعي فيها الإنسان أناه. فيتأملها ويقلبها ويفككها ويركبها لتجود له بالتفاصيل والأحداث والشذور واليوميات. فالسيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية ما هي إلا عملية انتقاء من الذاكرة لما تطيب أن تكتبه الأقلام أو تحكيه الأفواه، وبالطبع قد يكون هذا القلم أو هذا اللسان انتهازياً مخادعاً فيذكر أحداثاً بعينها لتخدم غرض تأليفه لتلك السيرة وتراه يغض طرفه عن نواقص النفس وهفواتها، وقد يكون نرجسياً يمتاز بالصلف فتراه يدور حول الذات الطيبة النقية التي لم ترتكب فحشاً ولم تقترف أي جرائم طيلة أيام حياتها، وقد يكون هذا القلم موضوعياً شجاعاً فيكتب ما تلقمه إياه ذاكرته دون اختيارٍ وانتقاء ودون مورابة أو نفاق؛ فهذا القلم الأخير يكتب بكل حيادية فيُعري نفسه أمام نفسه قبل أن يُعريها أمام القارئ والجمهور.
أما الآن فقد زاد الأمر تعقيدا ويُسراً في الوقت ذاته. تعقد الأمر حتى أصبحت عناصر الحكاية كاملة بكل قوتها وبصوت وجسد الراوي وبمطالب المستمعين بالاستزادة وبالخوض في حكاية رآها الجمهور ناقصة أو صرح الحاكي بتحفظه عن استكمال القصة وبإضافة تفاصيل أخرى لأسباب عدة قد تكون خجل الراوي ممن يحكي عنه وهو على قيد الحياة أو صعوبة الموقف ذاته الذي لا يحتمل أكثر مما أُفصِح عنه. وأصبحت مهمة الحاكي يسيرة فلا يعوزه إلا كاميرا مثبتة أمامه. واختيار المكان الذي يضفي على عناصر الحكاية وطريقة إلقائها.. وورقة أمامه وأقلام لتنظيم الأفكار واستدعاء العناصر حين الحاجة، وبعدها لا ينتظره اللهم إلا إطلاق العنان للذاكرة.. وليُفضي ما يختزنه في رأسه. ويقوم ببعثرة حلقات المتشابك ويجمع شتات المتناثر.. ويمنطق ويصنف ما افترق على مر السنين وليخرج المتنافر من زمرة والشاذ عن النغمة والسيمفونية والتي تراكمت على سبيل الخطأ نتيجة زحام الحياة وعذاباتها.
إنها الفرصة للحضور فقط لدقائق ولساعات تكفيه -أي الراوي- عناء القص واللزق والخطّ والتخطيط والتسطير والسرد والحيرة بين الفصلات والمنقوطات وعلامات الاستنكار ولزوميات الفصل بين المعاني والجمل والأفكار. إنه الوقت ليقول ما يريد أن يقوله دون الحاجة إلى تبويبه تصنيفه أو دون الخروج به عن القالب الأدبي واللون القصصي الذي تبيت تحت طياته ألسنة النقاد اللاذعة.
وهنا تحضر بعض النماذج الأوروبية والعربية والمصرية التي بدأت تتنبه إلى اللون الجديد والوسيلة الحديثة التي يمكن أن نطلق عليها مصطلح “اليوتيوبجرافيا” أو “اليوتيوبجرافي”. وأدق وأفضل نموذج يفيد المقاربة هذه التي نعرض لها هي “أيام محمود سعد”.
محمود سعد، الإعلامي صاحب الحضور القويّ غير المتكلف في الوقت ذاته.. علامات وقسمات على وجهه توحي بجدية صاحبها وبساطته أيضًا. نبرة صوت متمازجة مع لغة جسد تليق بأن تكون نموذجاً لمن يريد دراسة حضور الشخصية عندما تحكي عن ذاتها في حضرة أهم ألوان الفن والأدب أي السيرة الذاتية وتُيسر من مهمة باحث ككاتب السطور. صِدقٌ بدرجة مُرضية لمن يتابعه تنبع من أسماء برامجه؛ فإن التقيته ولو عبر اليوتيوب فالبيت بيتك.. وحينما يحكي ويتحدث فتستحضر إحدى مقاهي روايات محفوظ في أبواب الناس والدُنيا و”باب الخلق”. حكايات وحكْي وعفوية ومُباشرة تراها قد أصبحت غريباً عن “مصر انهاردة”. شخصيةٌ في العموم تحمل مزيجاً وخليطاً مُرضياً لأن تعين على سبر أغوار اللون الأدبي الجديد وأنت على ضمانة وقَسَم عادل من اليقين أنك اخترت المادة الخصبة والمناسبة لأن تكون نواة المقاربة/الدراسة القصيرة عن أدب اعتراف اليوتيوب عبر أيام الراوي محمود سعد.
يحسب الوالج إلى عالم -أو بالأحرى لأيام- محمود سعد أنه في زيارة خفيفة أو لعمل الواجب كضيف لزيارة ما يحكي عنه الناس عن أيام محمود سعد. أو لإرضاء فضوله لأن يتفحص ما سمع عنه من مذكرات اليوتيوب التي حل الإعلاميّ بطلاً لها. ويجد حينها الداخل إلى عالمه وإلى أيامه أن سبب الزيارة ورغبته قد تطورت إلى الدرجة التي تجعله بشكلٍ لحظيّ يفكر في أنه من الضرورة أن يختزل نصف ساعة يومية من وقته بشكلٍ دوريّ لأن يسمع بواقي القصة إلى أن يأذن راويها بنهايتها مع آخر قصة وخاتمة الحكاوي، على أنه جلي وقد رأى نفسه يدخل من عالم وصولاً إلى آخر. يرى نفسه وقد شاهد الفيديو الأول إلى اليوم الثاني والفيديو الثالث واليوم الرابع، ويشعر بمرارة اكتشافها المتأخر وعدم مجاراته لزمانية المحكي وفق ما يتدفق كل أربع وعشرين ساعة، إلى أن يحار: أيشاهدها بترتيبها الدوريّ والرقميّ؟! أم يتتبع أبوابها -عناوين الفيديو- وفق المميز والمثير منها لفضوله؟! أم يشاهدها بشكلٍ عشوائيّ وفق ما يقع أمامه من ترشيحات والتي تدفقت على شاشة اليوتيوب الحمراء فقد عرفت خوارزميات المنصة مِزاج المستمع الليليّ إن كان يشاهدها بالليل أو في أوقات الراحة بالعمل أو في العطلات ويشاهد الكثير منها مجموعةً؟!
تعلمنا نحن دارسو الأدب وفنونه وتاريخه وما يتعلق به من نقد وأدب مقارن ..إلخ، أن هناك عناصر تأسيسية ليفوز نص الراوي عن الذات بالتصنيف تحت قالب “أدب اليوميات” أو “أدب الترجمة الذاتية” وهنا يتخلص من العثرة الأولى؛ أي تلك المساحة الملتبسة التي أدت بالكثير من النقاد بتفريع ما يُكتب تحت بند الحكاية عن الذات إلى أدب اليوميات والمذكرات والسيرة التاريخية وأدب الاعتراف والرواية الواقعية الذاتية التي تحكي عن صاحبها. وتأتي المهمة الثانية التي هي أكثر شقاء من سابقتها؛ إذ إن الأولى أطرافُ نزاعِها عشراتٌ، أما الأخرى فتتعلق بآلاف وعشرات الألوف وربما الملايين من القراء والمتابعين الذين يعولون أكثر على المضمون وتنويعاته أكثر من المعايير الأكاديمية واهتمامات النُقاد والنقد.
وهذه المزية أهم ما تفوق فيها طرح محمود سعد في روايته لمذكراته مبوبةً عبر عنوان كل فيديو وبترقيم حلقاتها عبر منصة “يوتيوب”، وهو ما يلمسه المشاهد من ثراء محتوى ما يشاهده ولو شاهد جزءًا يسيراً، فتجده يتحدث عن علاقته بالفن والفنانين كعادل إمام وممدوح عبدالعليم، ومحمود ياسين الذي يضعه في منزلة خاصة، وبصداقته التي صنعها مع المطربة أنغام، وبتوبيخ أسامة أنور عكاشة له، والحكي عن أمه وأبيه وعلاقته بهم بتجردٍ وبطبيعية تشابه حكي أنيس منصور عن أبيه وأمه في مؤلفاته الخمسة أو الستة التي حملت سيرته، وعن حياته الفكرية والمهنية التي بدأت بحصوله على 56% بالثانوية العامة مروراً بقصة أول مليون حصل عليها وحلم الثلاثمائة ألف جنيه وببيت الشيخ زايد، وبلقائه وعلاقاته مع الساسة والمفكرين كالرئيس السادات و د. أحمد زويل، ولم يخلُ طرحه من ذكره للعناصر المكونة والمشكلة لشخصيته وتركيبته من استلهامه للكثير من الأديان ومن قصص الأنبياء ومن سور وآيات القرآن بالإضافة إلى مشاركة نشاطاته اليومية وبعض المؤلفات التي قرأها والعلوم والمشارب التي يحب القراءة فيها والاطلاع عليها ومزيج من الأفكار الفلسفية والدينية والاجتماعية.
وأبرز ما يقدمه في مذكراته وهو جدُ جديد في عناصر السيرة الذاتية الجديدة هو مشاركة هموم المستمع. وإيصال الرسائل له بأنه يشعر بما يعتريهم وبالخبرات السيئة التي مروا بها وما زالوا يحيون ويعبرون خلالها، ومن هنا كانت أهمية قصاصات محمود سعد المرئية التي تمظهرت بشكل روشتات تعين على الحياة وللانسجام مع مصائبها وملماتها وطريقته في مقاومة الهم والغم والتي تحل محلاً كبيرا في نفوس قرائه الذين يجدون مذكراته المرئية مُتنفسًا من عثرات الحياة وفق آلاف التعليقات التي تحمل هذا الاتجاه وتعتز بهذا التوجُه على أنه سببٌ رئيسي للمتابعة. وهُنا عنصر آخر مهم تتفرد به حكايات السيرة الإلكترونية المرئية -أو ما أسميناه باليوتيوبجرافيا- عموما، وعبر النموذج محمود سعد خصوصا، هو استمرارية الحكاية مع استمرار المتابع، ومشاركة المستمع أحيانا في اقتراح القصة موضوع الطرح أو طريقة حكايتها أو المستهدف منها وهنا يأتي مصطلح الـ(Prosumer) الذي استحدثه مُنظرو التسويق الرقمي والمتخصصون الأكاديميون في منصات التواصل، والمصطلح يعني المُتابع للبراند/الشخصية الذي لا يقتصر دوره على تلقي المادة المرئية أو المحتوى؛ بل يتحكم في أفكارها وموضوعاتها ويشارك بمقترحاته وأفكاره في صياغة النماذج النهائية وهي ميزة خلقتها منصات التواصل عبر التفاعل بمحتواها مع الجمهور وقد أضفت قيمتها على عناصر البيوجرافيا الرقمية/اليوتيبوجرافيا.
وأهم مميزات اليوتيبوجرافيا والسيرة الذاتية المرئية المُقسمة إلى أكثر من فيديو، إمكانية تنويع الظهور الشخصي للراوي بطل الحكاية والذي يضفي من مظهره على تفاصيل الحكاية وهو ما ظهر جلياً في إنتاجات محمود سعد “أيام” إلى الدرجة التي استعدتُّ نقاشات وتعليقات من جمهوره على ألوان ما يرتديه وطريقة هندمته عموما التي يحبها كثيرون، وكذلك التنوع المكاني الذي يجعل القاص يحل في أكثر من موضع مع حضور التأثيرات الطبيعية من الأصوات المحيطة كضوضاء الشارع وصوت الأذان وإشعارات ونغمة الهاتف ونباح الكلاب الذي يضفي طبيعيةً على المشهد وصدقًأ على المحكي. إمكانية استدعاء مزيد من التفاصيل عبر أفكار وتعليقات الجمهور على عكس السيرة التقليدية المكتوبة والتي لا يحضر في إعدادها إلا قلم الكاتب. وكذلك إمكانية الحكي بحرية دون التقيّد بوقت أو حجم معين “حلقات البرامج على سبيل المثال أو عدد الكلمات والورق في السيرة المكتوبة”، وميزة أخرى نراها أهم عناصر السيرة الإلكترونية الحديثة وهي انسيابية الحكي بالشكل الذي لا يعرف راويه إلى أن يصل به؛ حيث لا إمكانية لكشطه كما يحدث على الورق، بل الحل حينها بتركه لما تضيفه من مزيات واقعية أو بقصه ومنتجته بالشكل الذي سيؤثر في ما سبقه من قول وما تلاه من حديث وهي جد مهمة أشق من حذف الكلمات والسطور من الورق أو الدفاتر الالكترونية PDF أو Word. وكما أسلفنا في استهلال المقالة سيرة اليوتيوب هي إعلان موت الرقيب أو الرقابة حيث يتدفق البوح والاعتراف دون قص وحذف، وإن أضير حتى الراوي صاحب الحكاية يكون بعد نشر المحتوى ووصول الرسالة التي قد تزعج الرقيب ومؤسسات المراقبة.
كذلك إمكانية الكسب عبر منصة يوتيوب قد تجعل كثيرًا من الأدباء والفنانين الذين يشكون العوز نتيجة قعودهم عن العمل الفني، الأدبيّ، الفكريّ إلى الاعتماد على المنصة في رواية مذكراتهم والحصول على الربح الذي تجلبه المشاهدات، حيث لا توجد مشقة أو عناء كمثيلتها حين إفراغ ما تجود به الذاكرة بالأحبار على الورق، أما الأمر الآن فلا يحتاج أكثر من فني الكاميرا ومختص المونتاج ومسؤول التسويق والترويج الذي يكون عادة مسؤول القناة والنشر. ونرى أن مزية الربح هذه ستكون أهم عناصر ذيوع الفكرة التي لفت إليها الأستاذ محمود سعد الأنظار وبقوة، وذلك في حالة عدم توافر إمكانية التسجيل التليفزيوني عبر حلقات كالتجربة التي خاضها الأستاذ محمد حسنين هيكل مع الإعلامية لميس الحديدي أو إفراد برنامج خاص كـ”سنوات الفرص الضائعة” لـ د. مصطفى الفقي. وكذلك تحُل ميزة الاختلاف الضمني لشكل ومحتوى المذكرات المرئية عبر مراحل التسجيل والحلقات المنشورة؛ فالتعليقات المستمدة على الإنتاجات الأولى قد تكون نواة للتطوير في المراحل والحلقات القادمة وإمكانية إضافة الجديد الذي يرغب فيه الجمهور.
والميزة التي أضافها محمود سعد هو إحساس القارئ بتجربته بقدر استدعائه من العناصر الطبيعية والصوتية التي تصاحب كل فيديو وكل موضوع يتحدث فيه، والذي عكس بكل صدق -عبر المسجل إلى الآن والذي ربما يستكمل محمود سعد أضعاف أضعاف حلقاته- رغبة الإعلامي في التعرف على ذاته التي عبر في كثير من الأحيان أنه لا يستطيع أن يضعها في قالب وقد تملكته الحيرة كالتي صاحبته عبر مراحل حياته، ونعبر عنه بما قاله الفنان أنتوني كوين في بادئ مذكراته التي نشرتها مكتبة مدبولي، ويقول فيها: “إنني لم أكن في يوم من الأيام نفس الرجل الذي كان بالأمس أو الذي سيكونه في الغد، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلني مستعدا لأن أدفع نصف عمري لكي أعرف الرجل الذي سأكونه في النهاية” وقد عبر محمود سعد عن شبيه هذا المضمون في إحدى حلقات أيامه عن اندهاشه بما سيصل إليه بعد تقريبا عشر سنوات عما كان يتصوره ويخطط له في بداية العشر التي يرى نتاجها الآن بأم عينه.
ونرى أيضاً عدة سلبيات محتملة للسيرة المصورة، فبما أننا نرى أيضا حضور الذات أقوى عبر اليوتيوب، ولذلك، فتجرد الذات وصدقها وحديثها عن نواقصها قد يُقابَل بشكلٍ سلبيّ يؤثر في سُمعة الحاكي، ولذلك نلاحظ أن السيرة المصورة قد لا تستطيع الإبحار إلا في مساحات معينة، ووجدنا محمود سعد يحاول الولوج إليها والتشبث بحدودها بين الحين والآخر خصوصا عند حديثه عن مصر التي شهدها وكانت النساء فيها ترتدي قميص النوم في البلكونة وتحتسي البيرة مع أزواجهن، أي دون المساس بتجربته الشخصية في حضورها السلبيّ الذي يستدعي نفور المستمع.
ولكي نصل بمقصودنا إلى قارئ المقالة، نسرد عليه أمثلة ليتأملها؛ فقد اعترف الأديب نجيب محفوظ في مذكراته أنه كان يرتاد بيوت الدعارة السرية والعلنية، وفي الوقت نفسه غضب الناقد والمفكر د. رمسيس عوض مهاجماً لسيرة أخيه –لويس عوض- “أوراق العمر سنوات التكوين” لأنه قام بالتشهير بعائلته على حد قوله، أما لدى الغرب فقد افتتح القديس أوغسطين هذا الفن، في عام (400)م، في اعترافاته التي كتبها في ثلاثة عشر كتاب فيها عن نزواته وعن مراحل الشك والإيمان، واعترف الأديب الفرنسي جان جينيه بلصوصيته وبمثليته الجنسية التي قال عنها في سيرته “يوميات لص” بأنها فرضت عليه كما فرضت علي عينيه ألوانها، وقال أديب فرنسا ومفكرها العظيم جان جاك روسو في مذكراته التي نُشِرَت في أجزاءٍ عدة: “أريد أن أعرض الإنسان طبقاً لطبيعة حقيقته البشعة، وهذا الإنسان هو أنا”؛ ولذا رأينا روسو يقول في اعترافاته بأنه كان لديه انحراف جنسي شاذ واعترف بارتكابه لعمليات السرقة، واعترف الممثل الأمريكي المكسيكي شارلي شابلن بمغامراته الجنسية وقال أيضاً في مذكراته أنه كان يلعب أحياناً أدواراً ليكسب المال لأجل عائلته؛ لأنهم يحبون الراحة وذلك يكلف غالياً أما هو فيمكنه العيش بسروالين فقط على حد تعبيره، وتحدث أديب روسيا العظيم ليو تولستوي في اعترافاته الأدبية عن رغباته في الانتحار وتساءل عن حقيقة الإله والوجود، وقال أيضاً: ليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها!
وهنا أيضاً يأتي تساؤل آخر، في معرض حديثنا عن السيرة مرئية الصورة، والذي نجد من الصعوبة على القطع بيقينية الإجابة عنه، بل يكفي فقط طرحه، هل يمكن لعنصر “الاعتراف” والبوح بحرية ودون خوف أن يتمثل في السيرة الذاتية المرئية بمقدار السيرة التقليدية المكتوبة؟! وهل يمكن لانتقاد الشخصيات ممن عاصرهم الراوي أو كانت لديه من المواقف معهم نصيب كبير كما تحمله السيرة المكتوبة أم أن العناصر المرئية بالحضور الصوتي والطبيعي للقاص سيغضب الكثيرين وإن لم تكن الشخصية موضوع الحديث بل قد تكون أسرته أو أصدقائه ممن بقوا على قيد الحياة، وحينها تكون ردود أفعالهم أقوى على أساس أن ما يُري يصل بشكل أسرع ويَصِم الشخصية موضوع ارتباطهم، أكثر من انتقاد هذه الشخصيات عبر السطور والتي في الغالب تكون الرسالة مقصور وصولها فقط إلى قارئ الكتاب أو المطلع عليه؟! وهُنا عليك عزيزي القارئ أن تقدر بنفسك هل انتقص القالب الجديد من قيمة المذكرات والسيرة الذاتية أم أضاف إليها بقدر ما أخذ منها؟