كنّ يغادرن بصمت ودون أن يثرن أي جلبةٍ من حولهن، لا أحد يعرف بأمرهن أو يتساءل لماذا اخترن الرحيل، فطريقة رحيلهن كانت كما هو وجودهن، فضيحة.
في السابع عشر من ديسمبر كانون الأول، تداول عمانيون صوراً لرسالة انتحار تركتها أحد الفتيات العمانيات خلفها بعد قيامها بالإنتحار. الحادثة مع وقع الصدمة التي تركته في مجتمعٍ محافظ لا يتوقع إقدام فتاةٍ على هكذا أمر تركت أثرها في نفوس الكثيرين.
لأكثر من أسبوعٍ أقرأ رسالة زوينة الأخيرة التي تركتها خلفها، في الحقيقة رغم كل ذلك الألم الذي تحمله تظهر وجهاً أخر جميلاً لتفكير فتاةٍ شابة وفي مجتمعٍ ذكوريٍ محافظ. كانت أشبه بصورةٍ جميلةٍ لوجودٍ لا نراه جميلاً من حولنا، كلوحة حذاءٍ بالٍ يرى فيه فان جوخ جمالاً لا يراه غيره.
المرأة أكثر من جنسٍ أخر
تعودت المجتمعات العربية الإسلامية المحافظة على الصورة النمطية للمرأة في المخيلة الذكورية كجنسٍ أدنى، أو كما يقولون عنها بأنها ناقصة العقل والدين، إنها أدنى من أن تستطيع إصدار أحكامٍ خاصةٍ تجاه شؤون حياتها الخاصة، فكيف بقضايا تتعلق بالوجود.
وقع الصدمة الذي خلفته زوينة الهنائي بعد انتحارها يكمن في موقفها الحقيقي الذي اتخذته من الوجود وكونت به قناعاتها حوله من عدة نواحي شملت موقفاً يقينياً حول الحقيقة الوجودية التي يعيشها الإنسان دون القبول بالمُسلّمات.
القدرة على تجاوز المُسلّمات التربوية التي تضاف إلينا في سنين العمر الأولى كحقائق مطلقة يقدمها لنا المجتمع لنسير في ركب القطيع هي سمةٌ لا يتمتع بها الكثيرون من البشر، فالدخول في أزمةٍ وجوديةٍ تنسف تراكماتنا المعرفية أمرٌ لا يمكن تحمله أو مجرد التفكير فيه.
الذكر العظيم، والمخلوق الأسمى في مخيال الرب سقط في رسالة زوينة الأخيرة، فقد كانت فتاةً في أسرةٍ ومجتمعٍ محافظ استطاعت تجاوزه وتكوين قناعاتها الخاصة وفق منهجٍ علميٍ اقتنعت به وبَنَت عليه قناعاتها الخاصة بها حول الكثير من القضايا التي يكتفي الذكوري بانتقالها إليه وراثياً، فكيف لناقصة العقل والدين أن تتجاوز ما لا يجرؤ عليه هو.
” … رجاءً توقفوا عن أخذ كل شيءٍ من أبائكم، تمتعوا بالشجاعة على طرح سؤال، ضعوا علامةً على كل شيء وابحثوا عن حقيقتكم أنتم” من رسالة زوينة.
من قتل زوينة؟
” في الحقيقة أنا لا أملك نفسي، ولا أملك القرار لأختار كيف أعيش، وليس مسموحاً لي أن أختار من أكون. أعيش حياةً مليئةً بالحزن والوحدة. لذا كل الأحلام، وكل الأمنيات التي حلمت أن أحققها وأصنعها، في هي فقط في عقلي وليست واقعاً”
كتبت زوينة هذا الكلام كأحد أسباب إقدامها على الإنتحار، هي جنسٌ أخر ومخلوقٌ أدنى منزلةً مسلوب القرار والحق في تقرير المصير والإختيار، فكل الفرص بيد الذكر وحده والمجتمعات المنافقة المتحلية بفضيحة الأخلاق.
زوينة بالتأكيد لم تنتحر، زوينة قُتلت، قتلها ذلك الذكوري المتطرف الذي يعلق شرفه بجسدها ويتحكم بمسارات حياتها ويمتلك جسدها محدداً أنواع لباسها وطريقة ظهورها في العلن.
ذلك المجتمع الذي يراقب طعامها وحديثها، وأسرارها مع مثيلاتها، ويحتفظ بها أسيرةً لشرفه وكبريائه الذي يسلمه في الأخير فخراً لفراش رجلٍ ما، لتبدأ معه فصلاً أخر من العبودية للذكر لتشبع رغباته الطغيانية في التسلط أمام القهر الذي يعيشه في عجزه أمام التسلط الهرمي الجاثم فوق صدره، بدءاً من أنماط المجتمع المفروضة عليه وانتهاءً بقمع السلطة السياسية.
أمٌ تمارس دور الراهبة الشديدة، أبٌ لا يفارقه الشك، أخٌ يراقب حتى الألفاظ، ومجتمعٌ يصرخ بها عاهرة، هؤلاء هم القتلة الحقيقيون، هم من يحرمون کل زوينة من أسباب البقاء.
بلا هوية إنسانية
تعيش المرأة العربية مسلوبة الهوية، فهي ليست من جهةٍ ليست بالإنسان الكامل في نظر الذكر العربي بالعموم، كما أن تمتعها بالإستقلال الفكري والسلوكي بعيداً عن إملاءات السلطة الأبوية أمرٌ شبه منعدم، في حين أن الذكر يجد مساحةً أكبر لتحقيق ذلك.
الهوية الإنسانية وصف للذكورة في الوعي الباطن للمجتمع الأبوي، أما المرأة كما تقول دي بوفوار يُنظر لها كجنسٍ أخر لا يمكن له الحصول على ذات الفرص التي يحصل عليها الذكر كإنسان أو يتم التعامل معها كصاحبة هوية إنسانية دون النظر لجنسها.
ما أقصده هنا، بأن المرأة العربية تعيش داخل حدودٍ متقاربة جداً بين الممنوع والمحرم والمكروه، وتجاوز أيٍ منها ينتهي بها بالموت، الأمر الذي يعيقها من تكوين قناعاتها الخاصة وبنيتها الشخصية في مختلف مجالات الحياة.
السلطة الأبوية تغذي ذلك لتصنع مصداقاً مغالطاً لاستنتاجاتها المسبقة عن المرأة كجنسٍ أخر أقل تفوقاً بمراحل، فتظهر المرأة ضيقة الأفق في الحياة العامة ومتواضعة الثقافة عاجزة إقتصادياً عن إيجاد لقمة عيشها دون اتكالٍ على الرجل.
تعفى من المسؤوليات المرتبطة بما وراء المهام المنزلية، ليترتب بذلك حرمانها بالتوازي مع هذا الإعفاء من حقها في الإستقلال والمساواة مع الرجل، لتصبح في نفس الوقت أكثر عجزاً وخوفاً من أي دائرةٍ خارج دائرة الأسرة.
هذه القيود والتابوهات تنتهي بالمرأة العربية في عصر الإنفتاح الحضاري لتكوين شخصيتين منفصمتين عن بعضهما، شخصيتها التي تتقمصها في السر للبحث عن ذاتها، وشخصيةٌ أخرى تمثل صورتها المثالية وفق معايير المجتمع الأبوي.
ذهبت زوينة ناقمةً على هذا الإنفصام الذي يجعلها منافقةً كما وصفت ” أنا غاضبة.. غاضبة بشدة على هذا المجتمع المريض الذي يقوم بطمس هوياتنا ويجعلنا منافقين..”
السمعة والشرف
في قبالة الإضطهاد والنفي التي تلاقيه المرأة في مسألة ذاتها وهويتها، يحملها المجتمع الذكوري الأبوي العربي مسؤولية قضايا مختلفة أكبر من حجم تقديراته لدورها وهويتها المحدودة كإمرأة عربية لضمان استمرار رضوخها لهذا النظام.
الشرف، مصطلحٌ فضفاضٌ ومتوسعٌ تاريخياً أكثر مما يحمله من معاني متعلقة بحصانة أو طهارة الفراش العائلي جنسياً في المجتمعات العربية المعاصرة، وتعلق مسؤولية طهارة هذا الفراش على عاتق المرأة التي لا تلاقي في نفس الوقت تقديراً كينوني الإعتبار أمام مسؤولية ثقافية كهذه.
الذكر يمكن له أن يطهر صفحته دون أن يؤثر على شرف العائلة بذات القدر الذي يمكن أن تلحقه الفتاة بنفسها وعائلتها في مجتمعٍ لن يتسامح البتة مع أنثى تجاوزت الحدود أو لطخت ما يسمى بشرف الفراش.
” أنا غاضبةٌ من هذا المجتمع… المجتمع الذي استمر بقتل أحلامنا، واخترع ما يمسى بالسمعة التي لطالما كرهتها، والتي لم تقم بشيءٍ سوى تغطية الشر وسلب حقوق الأبرياء” زوينة.
تشاؤمية أم تفائلية
بخصوص قضية زوينة شخصاً، أرجع البعض أن سبب إقدامها على الإنتحار هو تشاؤميتها تجاه الحياة وتأثرها بالفلسفة التشاؤمية فيما انتهز البعض قصتها لؤماً ليستعرض إيمانه ويشمت بها كونها غير مؤمنة بثوابته الدينية، هؤلاء قتلةٌ أخرون.
زوينة لم تكره الوجود أو أنها رأته قبيحاً، شهابٌ واحدٌ يمر في السماء كفيلٌ بإسعادها حتى في ليلة انتحارها، الحياة هي ما تتشاؤم منه، الحياة وسط هذا المجتمع الذكوري الذي يمتلكها جسداً وروحاً وفكراً، فسلب الإنسان حقه في أن يكون ما يريده حتى في أبسط تفاصيل حياته فقط لأنه ولد أنثى كفيلٌ بنفي أي معنىً للحياة يدفعه للإستمرار فيها.
المرأة العربية ليست في حاجةٍ لأن تكون ملحدةً أو تشاؤميةً لتقرر إنهاء حياتها في مرحلةٍ ما منها، فظروف حياتها تمنحها كل المبررات للإنتحار، فهي تعلم أن لا قرار لها، وأبسط رغبةٍ لإظهار إرادتها ستنتهي على نحوٍ مؤسف، فإما تختار الرضوخ كحيوان مزرعة أو تقرر الرحيل.