استيقظت فرنسا ذات صباح في سبتمبر عام 1989 على أزمة غريبة من نوعها؛ طالبتان (13) و(14) عاما -” ليلى” و”فاطمة”- يذهبان إلى المدرسة في مدينة “كراي-creil” وعلى رأسهم حجاب. رفض المدرس دخولهم الحصة لأن هذا يناقض علمانية مؤسسات الدولة، المساحة المشتركة المحايدة التي يجب أن يتعلم فيها الجميع المواد نفسها دون أن يميز القائمون على العملية التعليمية بين الطلبة ولا يميز الطلبة أنفسهم بشيء يجعل من هويتهم الدينية موضع شد وجذب، تبشير أو تبرير، ولكنها صارت قضية جدل سياسي وفكري واسع النطاق حول حيادية المؤسسات وقمع الأقليات. اعتبر بعضهم ذلك ليس رمزا دينيا، إنما جزء من الثقافة التي ترحب فرنسا بتنوعها، فلا يمكن أن نقبل مهاجرين دون أن نكون مستعدين لتقبل الاختلافات الثقافية.
ولكن حديث البنتين للتلفزيون كان حاسما وقاطعا؛ إذ اعتبرنَ ذلك ليس من الفلكلور بل من هذا الجانب من الثقافة التي لا تريد الدولة أن يتداخل مع المشترك العام، إنه الدين. قالتا بإصرار إنه أمر من الله، وإنهما لن يخلعانه لأي سبب كان، فهما تريدان أن ترضيا الله ولا تغضباه منهما، وأضافت إحداهما عند اقتراب الكاميرا أنها مصرة على لبس الحجاب حتى الموت. إذا هو مظهر ديني، تمييزي، لأطفال في بداية سن المراهقة، إن لم يكونوا أطفالا، مع كل ما يترتب على ذلك من ممارسة أنشطة تعليمية مشتركة بين الجنسين بلبس خاص بها.
وقف “ليونل جوسبان- Lionel Jospin”وزير التربية حينها، يتحدث في البرلمان رافضا أن يكون للدولة موقف صارم، بقانون أو مرسوم، يمنع بشكل واضح صريح قبول أي مظهر ديني للطلبة في المدارس أو تدخل الأهل في العملية التعليمية وتحديد الأنشطة التي يجب على أبنائهم ممارستها أو المواد التي يتعلمونها، بل ترك ذلك لكل مؤسسة تعليمية وإداراتها لحل هذه المسألة عن طريق النقاش مع الطلبة والأهل وبناء علاقة ثقة وتفاهم بين كل الأطراف بما لا يخل بحسن سير العملية التعليمية، أو اتخاذ الإجراء المناسب بالتوافق مع الإدارة التعليمية لكل منطقة في حالة عدم الوصول لحلول مرضية لكل الأطراف.
لقد أوجد “جوسبان” بهذا التصريح أول تناقض وضعت الدولة نفسها فيه، وهو من جانب أن ليس من العلمانية إظهار الهوية الدينية بشكل دعائي صريح وفي الوقت نفسه رفض منع الطالبات من الحضور بزي ديني صريح، خوفًا من الإقصاء يهدم المشترك العام القائم على عدم التمييز. وكأن القوانين التي وضعت لضمان عدم تمييز الدولة بين المواطنين لم تأخذ بعين الحسبان مواجهة بعض المواطنين في رغبتهم في التمايز عن الآخرين إلى حد الانفصال – حتى وصلنا إلى ما أسماه ماكرون “الانفصالية”.
لم يكن هذا موجها فقط ضد المسلمين بل في المدرسة نفسها بدأ طلبة يهود، يتغيبون تدريجيا عن حضور الدرس يوم الجمعة مساء والسبت صباحا، وصار الجو العام بين الطلبة مشحونا بشكل غير مقبول. نجحت إدارة المدرسة في عمل اتفاق بين الطالبتين وأولياء أمورهما من جانب وإدارة المدرسة من جانب آخر على عودتهما ولكن بشرط خلع الحجاب داخل الفصل، أي أن يذهبا إلى المدرسة بالحجاب ولكن حضور الدرس يكون بغير حجاب؛ وبالفعل عادتا إلى المدرسة في 9 أكتوبر 1989.
ولكن شهرة القضية كانت فرصة لجمعيات مثل: إس أو إس عنصرية (Sos racisme)، ويسار، للبحث في القضية، ودخلت على الخط شخصيات إسلامية معروفة بميولها السلفية فتعيد إشعال القضية وتقديمها بوصفها قضية عنصرية ضد المرأة وحقها، والمسلمين والتميز ضدهم، فبعد التهميش والفقر يريدون أن يخرجوا أطفالنا من المدارس حتى يبقوا علينا في الدرك الأسفل من المجتمع أو يقمعونا ثقافيا ودينيا فلا يشبه شيئًا… وتوالت الشعارات التي تصنع واقعا منفصلا عن الواقع، واقع لا أصل له في الواقع.
وكثرت القضايا في المحاكم ضد المدرسة ومديرها ووزارة التربية ووزيرها واتهام الدولة بالعنصرية والعداء للإسلام والمسلمين. وزاد الطينة بلة حديث “دانيال ميتران” في لقاء صحفي في 4 نوفمبر 1989 – تؤيد فيه حق الطالبتين في حضور دروسهما وأن يتسع صدر الجمهورية لقبول التنوع، والخصوصية الثقافية .
ثم قامت جماعة إسلامية متشددة تدعى صوت الإسلام (La Voix de l’Islam) للدعوة للحشد في مظاهرات عامة، وعادت للواجهة قضية الحجاب مرة أخرى لتصير حديث الساعة وزادت الحركة زخما باسم الحريات وحق المرأة ومناهضة العنصرية فشعر الإسلاميون بقوتهم أكثر وأكثر، ووجدوا في هذه قضيتهم – كما كانت قضية الحجاب سياسية في مصر وأحسن الإخوان توظيفها، حصان طروادة الذي يخترق المسلمين أولا فيعزلهم ليصيروا جيش الإسلام السياسي، الذي سيظهر أنيابه يوم يستشعر حلول موعد الانقضاض، والحرب خدعة.
ما كان ممكنا للدولة -على الأقل على مستوى التشريع بما يتوافق مع الدستور- إلا أنها قررت منع المزيد من الانزلاق في صراع الهويات الدينية داخل المدرسة وفي مؤسسات الدولة فأصدرت تشريعا في 2004 يمنع حمل أي مظهر ديني واضح صريح للأطفال في المدارس والعاملين في مؤسسات الدولة كممثلين عن الدولة الحيادية في تعاملها مع الجمهور – وقد كان التصويت بـ(395) صوتًا ولم يعترض إلا 26 صوت فقط.
ثم لمزيد من النكاية للدولة بدأ النقاب يظهر على السطح، فكان قانون 2010 بمنع النقاب تماما في فرنسا ليس فقط في المدارس أو في مؤسسات الدولة بل وحتى في الشارع. ولكن بين القانون وتطبيقه، ومحاولة التهدئة أو “الطرمخة” تضيع هيبة الدولة، وطلب السلم الاجتماعي من قبل الدولة أو رجال السياسة ليس فقط ضعفا بل يعتبر دعوة وتشجيعا للتمادي.
وجد الإسلام السياسي، بفروعه وتنظيماته الوهابية والسلفية الإخوانية، قاعدته الشعبية التي يحركها فينال مصداقية أكبر وقدرة على المساومة والمناورة مع “المرتعدين” من تهمة “الإسلاموفوبيا”، مستغلين سذاجة الجبناء من رجال السياسة وعاطفة أصحاب القلوب الكبيرة والعقول الصغيرة من الذين لم يدركوا عمق الشرخ الذي سيحدثونه في المجتمع وأنهم بذلك يؤذون المسلمين والمرأة المسلمة أشد الأذى إذا أعطوا سلطة لمتحدثين باسمهم يريد استغلالهم سياسيا لمآرب خبيثة غابت على الجميع تقريبا إلا هم.
عرف الإسلاميون من سلفية ووهابية وإخوان مسلمين كيفية التعامل مع هذه الدولة التي يمكن ابتزازها بهذه السهولة؛ فمدوا نفوذهم داخل الأحياء، وبدؤوا في تسييس المساجد وأدلجة خطابها لينحرف عن تعاليم الدين الإسلامي الشعبي ذي النزعة الصوفية ليصير خطاب أيديولوجيا انعزاليا يسعى للحشد ليوم الحسم – مزيج عجيب من المظلومية والاستعلاء.
وكان الصوت الذي يسعى للتحذير من أنها بداية الإسلام السياسي الراديكالي بأدواته الإرهابية التي كان مسلمو الغرب يستبشعونها أول الأمر، ينظر إليه بعين الريبة بل بالتكفير والخيانة والعمالة للنموذج النصراني للعلمانية الكافرة بتوجيه من الصهيونية العالمية… من داخل المسلمين، وبلا مصداقية في نظر الدولة ممثلة في سياستها ومؤسساتها.
اليقظة على كابوس
ثم بدأت العمليات الإرهابية الإسلامية على الأراضي الفرنسية، فإن تجاوزنا العمليات الإرهابية الشيعية التي قام بها حزب الله (1985-1986) لحساب إيران، وموجة العمليات الإرهابية التي قامت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية (1994-1996)، ثم ما قام به تنظيم القاعدة عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 – والتي وصلت طلائعها إلى فرنسا سريعا لأسباب لها علاقة بالسياسة الخارجية، والتي كان التمييز واضحا فيها بين الإرهاب الذي يرفع شعار “الله أكبر” وبين المسلمين الفرنسيين والمقيمين على أراضيها حتى وإن تمت مساعدة لوجستية محلية أو تجنيد بعضهم في مثل هذه العمليات.
ولكنّ شيئًا من الذهول ضرب الجميع عندما أسقطت الأرقام الغشاوة التنظيرية، فعدد المنضمين لصفوف داعش من الأوروبيين، أكثر من (25) ألف أوروبيٍّ يحمل جنسية الدول التي يعيشون فيها، ومنهم مَن هم مِن الجيل الثاني والثالث، وبعضهم من الأوربيين المعتنقين للإسلام السلفي الوهابي الأكثر شراسة من بين المقاتلين –”المهتدون دائما أكثر حمية وتهورًا وجموحًا من أبناء من ولدوا في الدين”– الأكثر هولا هو أن أكثر من (2600) من هؤلاء آتون من فرنسا، هذا عدد ضخم جدا؛ فالأرقام هنا كشفت فساد الرؤية بالرأي التي غشيت الرؤية بالعين المجردة.
متى صار هؤلاء داعشيين؟ ماذا يحدث عندنا؟ ماذا يقال في المساجد والجمعيات الثقافية والرياضية الإسلامية القائمة بموافقة الدولة، أو بالصمت عنها، أخرجت هذا العدد الضخم من المتطرفين الإرهابيين المستعدين للانضمام إلى صفوف داعش أو القيام بعمليات انتحارية؟ وكم بقي ممن يحمل العقيدة الأصولية ذاتها لم يتمكن من الخروج أو في طور الإعداد والتأهيل؟
بعد فترة من الانعزال والانعزالية، في تراخٍ وتراجع من الدولة عن فرض هيمنتها وقوانينها عن مناطق تجمع جاليات بعينها، عملا بقيمها العلمانية في فصل الديني عن السياسي، وحسب قانون (1905) الذي أنهى إشكاليات التداخل بين الكنيسة والدولة، والذي بمقتضاه لا لتدخل رجل الدين في السياسة في مقابل عدم تدخل رجال السياسة في الدين، فلا للاستغلال السياسي للدين في السياسة، ولا لمحاولة إقحام الدين فيما هو سياسي. وجدت الدولة نفسها مع منظومة جديدة، ليست فقط دينية بل هي أيدلوجيا شمولية معادية لكل قيم التعايش لصالح الاستعلاء بالدين في انتظار التمكين، تسعى للسيطرة على كل الأنظمة “الكافرة” التي لا تدين بالإسلام دين ودولة، روحانية وسيف – واستباحة دم بـ”الله أكبر”.
أكثر من ربع قرن من الغفلة، من عدم النظر في جهات تمويل مشبوهة، ومال خليجي قذر، ومد وهابي فاشستي، وأخواني “مافياوي”، كتب تمتدح الجهاد ضد الكفار وعدم مخالطتهم، الولاء والبراء، قتل المرتد، الطاعة العمياء لرجال الدين.
أئمة مدفوعين من دول أجنبية، أكثر من (300) إماما تم استيرادهم من العالم الإسلامي في فرنسا عام (2019) – نصفهم من تركيا، وهم يعملون لصالح دولهم التي تعينهم وتمنحهم الراتب على قدر إخلاصهم في عملهم التحريضي ضد فرنسا ودعم لتركيا في قضاياها.
قدوم مشايخ من أشد الناس إرهابا ووحشية، ملفوظين في بلدانهم الإسلامية، يستقبلهم الغرب كلاجئين بصرف النظر عن سر التضييق عليهم في بلدانهم منحهم الأمان والمأوى والمال، ولولا قليل نساء وغلمان، يقيمون معهم علائق وربما يدخرونهم لوقت حاجة عند انقلاب الأنظمة القمعية المُهددة بالزوال فيعودون إلى بلدانهم أبطالا وزعماء –صفقة مع الشيطان– حالة خومينة لم نستوعب العبرة منها.
أقول ولو صح هذا التصور المؤامراتي أو لم يصح، أو أنه خلل في القانون المطبق وغير الصالح في حالة الإسلاميين على أساس أنهم مضطهدون سياسيا أو دينيا دون أن يكونوا على ذمة قضايا جنائية حقيقية – فإنهم على أي حال وجدوا في مواقع مختلفة من أوروبا مقرات وقواعد إستراتيجية ليقوموا بعملياتهم الإجرامية في بلدانهم الأصلية، ولم ينتبه الغرب أن البلدان القادمة ستكون في دول مهجرهم.
يمكن أن نتكلم كما نشاء عن تقصير الغرب عموما، وفرنسا وبلجيكا ولندن خصوصا، ثم دخلت ألمانيا على الخط فصارت الأكثر غفلة من الجميع، في ترك هذه الجاليات لحالهم وتحت رحمة أشد الناس تطرفا وتنظيما من وهابية وسلفية وإخوان مسلمين يقتسمون الكعكة، قاعدة ضخمة من ملايين المسلمين الذين صاروا مخزونًا إستراتيجيًّا من جنود وانتحاريين ينتظرون الإشارة لتحقيق حلم الخلافة واستكمال الفتح بالإرهاب.
شارلي إبدو (Charlie Hebdo)
الإرهاب الإسلامي في أوروبا وخارجها أقدم من الرسوم الكاريكاتورية، يكفي أن نتحدث عن العمليات الارهابية التي قام بها محمد مراح (2012) والمدعو إرهابي الدراجة البخارية، لأنه كان يفتح النار على الناس من دراجته ويفر هاربا. ومن العجيب، ولا عجب، أن يكون الإسلاميون بينهم وبين اليمين المتطرف هذا العداء وهذا التوافق في العداء الأزلي لليهود؛ فقد فتح هذا الإرهابي، الفرنسي الجزائري، النار أثناء خروج طلاب من مدرسة يهودية، ليست لها علاقة بالتأكيد بالرسوم المهينة، فقتل منهم (7) منهم (3) أطفال. وسيتكرر ذلك في ذروة العمليات الإرهابية في آخر (2015) مع “إمدي كوليبالي” الذي سيقتل داخل محل “كوشير” يهودي، بـ”فانسن – Vincennes” أربعة يهود وأخذ الرواد رهائن حتى أسقطته الشرطة قتيلا.
فمن العبث اليوم تصوير عداء الإسلام السياسي الفاشستي على أنه ضد رسوم، وينتهي بانتهائه، فهو أولا ضد الدولة الكافرة، العالم كله بما فيه العالم العربي الإسلامي الذي لا يطبق شرع الله حسب تصور شيخ المرحلة لهذه الجماعة أو تلك، ضد قيم الحرية والعيش المشترك ضد السامية، ضد المسيحية، ضد المسلم العلماني، ضد الحضارة، ضد الحياة. ولكن يبدو أن الرسوم –التي بدأت بالدنمارك- هي الحدث الذي سيفجر مخزون الكراهية للغرب وجمع للشعوب الإسلامية حول قضية؛ هذه الرسوم أشعرت بعضهم بالحرج بين العلمانيين أنفسهم، في حين وحدت العالم الإسلامي ليسترد كرامته المهدرة.
الغرب له قيمه النابعة من طبيعة هذه الشعوب التي تشكلت عبر تاريخ طويل؛ إذ عاش دينًا مسيطرًا على الإنسان حد العبودية لرجل دين وكنيسة وحق إلهي للملوك، عصور مظلمة لأكثر من ألف عام، وبعد محاولات بطولية للخروج دفع فيها الدم في موجات من التمرد الصريح أو المستتر في تيار الأنسنة، النهضة، الإصلاح من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر، عصر العقل في القرن السابع عشر، عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، عصر الثورات والدساتير والمواثيق ومفاهيم حقوق الإنسان والمواطنة في القرن التاسع عشر – ثم ردة لوحل القوميات العنصرية والشوفينية الاستعلائية وجحيم النازية والفاشية والفرنكية في النصف الأول من القرن العشرين.
ثم النهوض من الكبوة مع ضمان عدم السقوط مرة ثانية، في هيئة الأمم، واتحاد أوروبا وفي قوانين حقوق الإنسان والمواطنة مع ضمانات دستورية لعدم السقوط في عنصريات ضد فئة من البشر لأجل دينهم أو عرقهم أو لون بشرتهم، مع التأكيد على قيم العلمانية الضامنة للعيش المشترك، مع الأصل الأول الذي قامت عليه الدساتير وهو التأكيد على الحقوق الطبيعية وحرية التعبير.
حرية التعبير التي تقف عند العنصرية التي تنتهي بالمحرقة النازية –ضد السامية وكل أشكال العنصريات بالقدر ذاته والعقوبة ذاتها– من (750) يورو إلى (75,000) يورو في فرنسا، ومن سجنٍ لمدة (6) أشهر قد تمتد إلى (6) سنين، لا فارق بين ضد السامية وأي جريمة عنصرية أخرى ضد المسلمين أو العرب أو السود أو الهنود – واحدة من أكاذيبنا الشرقية الكبرى أن القانون لا يحمي إلا الساميين أي اليهود وفقط؛ الحقيقة هي أنكم فقط تجهلون أو تكذبون.
حرية التعبير التي تقف عند التحريض على الجريمة أو إنكار الجريمة أو تبريرها؛ مثل إنكار الهولوكوست، أو إنكار التطهير العرقي للأرمن. حرية التعبير تقف عند المساس بكرامة الأفراد –سب وقذف- أو إهانتهم عندما لا يكونون في مناصب سياسية أو شخصيات عامة دون أن يتجاوز عائلاتهم أو انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو جنسهم، وأشياء أخرى يحظرها القانون وفق الدساتير التي قبلها الشعب وأعطاها سلطانها.
فيما عدا كل هذا تبقى كل الأفكار مباحة أو مستباحة -إن أردنا-؛ فهي ليست ملكًا لأحد بل هي وجهات نظر يكون الموقف منها شخصيا، يقدس بعضها مَن يقدس، ويراها سخيفة وهذيان سقيم مَن يراها، ولا يهتم بها مَن لا يهتم. وما الدين إلا مجموعة من العقائد والاعتقادات والتصورات والرؤى. وهذه جميعها أفكار.
ثم إن تاريخنا الإنساني كله، شرقا وغربا، شاهد على قتل الناس على الاعتقاد، وتجريم التجديف – الذي أزهق من الأرواح ما تخجل منه كل الطواعين مجتمعة. ألسنا بشرًا؟ أي حيوانات ذات تاريخ، فلو لم نتعلم من التاريخ لصرنا حيوانات وكفى.
وهل يمكن الفصل بين الفكرة وقائلها؟
بالتأكيد هذه واحدة من المعضلات الكبرى، والتي هي نتاج ثقافي غربي بشكل خاص وقد نجح الغرب فيه إلى حد بعيد – ويقف الشرقي منه موقف الفارغ فاه. بينما يرى الشرقي أن القول بأن “الإسلام يمر بأزمة” هي ازدراء أديان – مفهوم خارج التاريخ انتهى في الغرب بعد قتل آخر مجدف في فرنسا في عام (1766) “شوفالييه دى لا بار (Chevalier de la barre)، ثم الثورة الفرنسية، ثم قانون (1881) –والذي لم يعد هناك تهمة اسمها ازدراء أديان أو تجديف لمقدس– لا الله ولا نبي ولا كتاب ولا دين ولا رمز.
يرى الغربي أنه ليس من اللائق وصف المسلمين بالأزمة خوفا من تعميم صفة سلبية على فئة من الناس، جماعة برمتها، وهنا الحديث عن الإرهاب. فليس كل مسلم هو بالضرورة يمر بأزمة مع الدين، ولكن الدين -كمجموعة من الأفكار- عندما يُخرج إرهابيين فهو يمر إذًا بأزمة، لأنه لا يجب على أي دين أن يخرج أي إرهابي.
الغرب ليس عنده رغبة في منع النقد حد التجريح لأي دين أو عقيدة أو أيدلوجيا أو أي شخصية تاريخية أو دينية، هذه مسألة شخصية لمن يقوم بالنقد أو النقض أو السخرية، ليس للدولة أو القانون دخل بها؛ إذ إنها تدخل في حدود حرية التعبير. ومن يجد في نفسه الرغبة في الرد بموضوعية على الخطاب النقدي الموضوعي فليفعل، ومن أراد رد السخرية بسخرية فليفعل ومن أراد أن يتجاهل فليتجاهل.
ليس الأمر سهلا أمام نوع من السخرية الذي لا يعرف خطوطًا حمراء كما يفعل “شارلي إبدو” ومنذ تأسيسها عام (1970) على يد الرسام “فرانسوا كافانا”، وعدد ضخم من القضايا رفعت ضد الجريدة من كل من وضعتهم موضع السخرية وعلى رأسهم اليمين المتطرف بشخصياتهم ورموزهم، ومن كل من يشغل منصبًا سياسيًّا رفيعًا، ومن كل الأديان.
ومنذ ظهورها كانت الكنيسة الكاثوليكية ومؤسسات يهودية دينية أو ثقافية وجمعيات إسلامية تقوم برفع دعاوى ضد الجريدة بشكل دائم ومستمر –سمي من باب السخرية حينها “الاتحاد المقدس” (المسيحي/ اليهودي/ الإسلامي) حتى أن “ريشار مليكا” صار المحامي المتفرغ تقريبا للقضايا ضد الجريدة، وهو اليوم لا يمكنه السير بدون حراسة، تحت تهديدات القتل منذ أكثر من (15) سنة في هذه المرة ليس من “الاتحاد المقدس” ولكن فقط من إسلاميين؛ فقد كف المسيحيون واليهود حتى عن الملاحقة القانونية للجريدة مع أول حادث إرهابي إسلامي.
هناك قضايا خسرتها “شارلي إبدو” عندما كان الأمر يتجاوز السخرية من الدين أو الشخصيات الدينية والعامة – الأفكار والأيدلوجيات إلى ما يمكن أن يدخل في باب العنصرية ضد فئة من البشر أو إشاعة أخبار كاذبة تدخل في بند التشهير السياسي… إلخ، وهي قضايا قليلة لأنها في الواقع تمثل نخبة من أعداء الدين واليمين الديني ومع الأقليات وحقوقهم.
لم ينتبه أحد تقريبا خارج فرنسا إلى رسوم “شارلي إبدو”، بل ولولا بعض القضايا التي أقامها بعض السياسيين أو “الاتحاد المقدس” لما اهتم أحد بها بل إن مبيعاتها القليلة واهتمام الناس بهذه الرسوم المزعجة أكثر منها فكاهة قليل للغاية.
ولكن مع أحداث 11 سبتمبر 2001، وإحياء النشاط الإرهابي شرقا وغربا، وظهور القاعدة فالنصرة فداعش. مع مقتل “ثيو فان جوخ” المخرج الهولندي (2004) على عمل فني اعتبر مهينا للإسلام – ثم ظهور الرسوم الدنماركية – صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية في 30 سبتمبر 2005 – تعاطفا في الأساس مع مقتل المخرج الهولندي – فرسائل التهديد والمقاطعة… أخذت الرسوم أهمية رمزية خاصة، وقد صارت كل محاولة للمساومة تحديًا سافرًا لقيم الحرية والنشر: الرأي وحرية الصحافة في مقابل قوانين المنع والقمع والتهديد بالذبح.
وتضامنا مع الدنمارك، أو بالأحرى مع حرية الكلمة أمام همجية التصفية الجسدية، أعادت أكثر من جريدة أوروبية في بلجيكا – المقاطعة الفلامنيكة – وألمانيا، وفرنسا هذه الرسوم أو بعضا منها في (2006)؛ ففي فرنسا أُعيد النشر في كل من “فراس سوار” (France soir) و”ليبراسيون” (Libération)، وبالطبع جريدة “شارلي إبدو”… ومع “شارلي إبدو” لم يعد الرسم مجرد فكرة بل هو فكرة وأيضا سخرية وفحش.
تاريخ طويل بعد هذه الرسوم من العمليات الإرهابية بلغ ذروته في (2015 – 2017)؛ أكثر من (20) عمل إرهابي بشع في فرنسا وحدها، دون أن تتخذ الدولة الإجراءات التي كان كثيرون ينتظرونها، أو على الأقل ليست بالشكل الكافي. وجميعها باستثناء مقتل (12) شخصا هم كل رسامين “شارلي إبدو” الحاضرين بمقر الجريدة بباريس 11، مع أحد عمال الصيانة المارة بالشارع بالصدفة مع شرطي فرنسي اسمه “أحمد مرابط”. جميعها ليس له علاقة مباشرة بالرسوم المسيئة حتى العودة في أكتوبر 2020 إلى ذبح المعلم الفرنسي “صموئيل باتي” وفصل رقبته في الشارع بين المدرسة وبيته.
الحادث الأكثر بشاعة، وخارج الرسوم المسيئة أيضا، كان في مسرح “البتاكلون” (Bataclan) – حيث جرى فتح النار على المستمعين لحفل موسيقي قطعته صيحات “الله أكبر”، فقُتل (130) شخصًا وجرح (350) شخصًا من الآمنين. كل الشهادات تتوافق اليوم على ما أرادت السلطات الفرنسية إخفائه، ولم يرق للإعلام إعلامه – أن هؤلاء القتلى جرى التمثيل بجثثهم، وفي حضور أهل الضحايا في المحاكمات لمن كانوا عونًا للإرهابيين صرخ أحد الآباء قائلا: قتلتم ابني بالنار، فلماذا فقئت عينيه؟”
كثرت الشواهد اليوم أنها كانت مجزرة قام بها “زونبي”، لا يكفيهم الموت بل يريدون شرب الدم وأكل لحوم البشر أحياء. فماذا أمام فرنسا اليوم، بل كل أوروبا أن تفعله دون الخلط بين من كان دينه الإسلام وبين من اتخذ من الإسلام أيدلوجيا إرهابية يهدم بها الحضارة ويحول أرضنا جهنم؟