من مقومات الدولة الحديثة؛ شعب حر، يكون الحكم له وباسمه، يرتبط أفراده بعضهم بعضًا برابطة المواطنة، التي بها يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، في ظل عقد اجتماعي (دستور) يضبط تلك العلاقة فيما بينهم، وعلاقتهم مع الدولة ومؤسساتها، وبذلك يصبح الشعب أساس الدولة، وبذلك فهي تجسد صورة الشعب وإرادته.
إلا أن المقاربة سالفة الذكر أشبه باليوتوبيا بالنسبة لشعوب شمال إفريقيا ودول الشرق الأوسط، بل وحتى جميع الدول غير الديموقراطية، نظرا لكون شعوبها لا تزال ترضخ لأنظمة شمولية من جهة، ودولهم خاضعة لإرادات سياسية لدول أجنبية من جهة أخرى.
إلا أن طرح التساؤلات حول إشكالية عدم تحرر هذه الشعوب ودولها -رغم وجود تجارب عديدة على المستوى الدولي على غرار الدول الأوروبية وجميع الديموقراطيات الحرة- طالما أرق الباحثين والمفكرين على مستوى هذه الدول، فهل ذلك راجع إلى نفوذ منقطع النظير للدول الاستعمارية على مثل هذه البلدان أو شعوبها؟ وبذلك نقترب أكثر إلى نظرية المؤامرة، أو أن الخلل يكمن على مستوى هذه الشعوب وبذلك يتجسد هذا العطب على مستوى مؤسساتهم ودولهم.
إن الخوض في الطرح القائم على كون دول العالم الثالث، ترضخ لأنظمة شمولية غير ديمقراطية تحد من إمكانيات شعوبها في التطور وإقامة دول قائمة على كيانات اقتصادية مستقلة وقوية تستطيع توفير الرفاه لشعوبها راجع إلى مؤامرة كونية عليهم، وأن حكومات وكيانات أجنبية تعمل في الخفاء على تكريس تخلفها لأمر متجاوز، نظرا لكون الأمر مفصول فيه، وأن هذا الطرح قد أخذ من النقاش والتفنيد ما يزيد عن سبعين عاما مضت ولم يتم التوصل لحد الآن إلى وجود دلائل وإثباتات قطعية على ذلك، ولعل تحرر دول شرق أوروبا لأكبر دليل على انتفاء الطرح السابق، ومنه لا يتبقى سوى الطرح الثاني والذي مفاده وجود خلل قاعدي على مستوى شعوب الدول المتخلفة والذي لم يأخذ القدر الكافي من النقاش على مستوى الساحة الإعلامية رغم وجود العديد من المقاربات الفكرية والفلسفية -وإن كانت محتشمة- التي حاولت التأسيس لذلك.
أين يكمن الخلل؟
إن السبب الرئيس لارتقاء الدول يكمن في ارتقاء شعوبها من الناحية الفكرية والثقافية والحضارية وكذا العلمية منها والاجتماعية والأمثلة على ذلك عديدة في التاريخ حيث إن فرنسا لم تقم إلا عندما قال الشعب الفرنسي “لا للانحطاط والتقهقر”، وعمل من أجل تطوير بلاده، بل وأوروبا أجمع لم تقم حتى طبّق الشعب الحركة التي تعرف بالنهضة، وبالتالي فإنه من المجحف أن نرمي السلطات القائمة على هذه الدول (المتخلفة، أو دول العالم الثالث) المسؤولية الكاملة للانحطاط الاقتصادي والسياسي والعلمي، وأن التقسيم الأمثل للمسؤولية هو إلقاء القسم الأكبر على الشعوب، لأن الحكومات والسلطات الوطنية ليست سوى إفراز شعبي محض لتلك الشعوب، فالقائمون على الحكومات من رؤساء، ووزراء، وبرلمانيين وغيرهم ليسوا سوى أفراد من المجتمع تشربوا قيمهم وأفكارهم من الشعب نفسه سوءا كانت صالحة هي أم طالحة، بينما القسم المتبقي فيلقى على الحكومات والنظم لأن السلطة بيدهم، والمبادرة للإصلاح والحلول لا بد أن يكون بمبادرة منهم.
الشعوب وقابلية الخنوع
يزخر تاريخ دولنا بأسماء المستعمرين المتعاقبين على مر الزمن، كما أنها لم تشهد أي تحرر ذاتي باستثناء تغيير مستعمر بآخر أو أنها ترضخ تحت استعمارات خفية بمسميات منمقة، إلا أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في ذلك، طالما كانت أسباب الاستعمار نابعة من عوامل خارجية، كالقوى الاستعمارية الحديثة والجديدة، لكن الإشكال يكمن في قابلية شعوبنا للاستعمار، إذ نجد في بلداننا المتخلفة ولنأخذ بلدان شمال إفريقيا كنموذج، ففي أواسط هذه الشعوب العديد من الإثنيات والتجمعات لكل منها ولاءات لمستعمر ما بطابع معين، فمنهم من يُكن الولاء لتركيا باسم الدولة العثمانية والعالم الإسلامي، ومنهم من يكن الولاء للثقافة الشرق أوسطية وعلى رأسها دول الخليج كالسعودية وقطر والإمارات المتحدة، وكذا من يكن الولاء للمستعمر الفرنسي، فتراهم يدافعون على المستعمر وثقافته، ليس على حساب دولهم فحسب، بل وحتى في التحامل والصراع الإيديولوجي الكامن ما بين تلك الشعوب، وبذلك تعتقد مثل هذه الجماعات أنها جزء من شعوب الدول المستعمرة، وأنها من ذات الأصول العرقية وتحمل ذات التوجهات السياسية والفكرية.
وبذلك يذوب الوازع القومي الوطني، وتصبح شعوبنا مجموعات عرقية لاجئة حضاريا في دولها، فهي لا تعيش في أوطانها إلا بأجسادها، بينما ولاؤهم وانتمائهم الفكري فيقبع في مناطق جغرافية مغايرة، وبذلك تتشكل لدينا مجتمعات خانعة ليس بسبب العامل الاستعماري الخارجي وحسب، بل وبفعل عامل داخلي ألا وهو قابلية الشعوب للاستعمار، والشعوب القابلة للاستعمار هي شعوب خانعة، فبفعل نفس العمال (القابلية للاستعمار الخارجي)، فهي من جهة أخرى قابلة للخنوع (أمام الأنظمة الشمولية الداخلية).
القابلية للخنوع وتداعياتها على الدول
هناك من الكتاب والباحثين من يرجع أصل فكرة –القابلية للاستعمار- للمؤرخ الشهير “ابن خلدون” (مؤسس علم الاجتماع)، وذلك نظرا لتحليله لطبيعة الدول المولعة بمستعمريها والذي عبر عنها بعبارته الشهير “المغلوب مولع بتقليد الغالب”، إلا أن تحليل ابن خلدون هذا قد يكون اللبنة التي تم الشروع من خلالها في صياغة مصطلح “القابلية للاستعمار” إلا أن ابن خلدون وبالرجوع لمؤلفاته لم نجد أي مؤشر أو دليل واضح على صياغة للفكرة، بشكل صريح، إذ عالج المؤرخ في مؤلفاته أحوال الشعوب والدول وأعمارها، وطبيعة الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها، ومنه تحدث عن تأثير القوة في صياغة القيم الفكرية لدى المستعمرين وتوجيهها، وكيف أن أغلبية الدول المستعمرة تستنسخ الأنظمة السياسية والاجتماعية للدول التي استعمرت من قبلها، من خلال انتهاج نفس آليات الحكم وطبيعة التنظيم والإدارة، وكذا التبعية القانونية والاقتصادية.
إلا أن صياغة المصطلح بشكل واضح “القابلية للاستعمار” فإنه يعود للمفكر الجزائري “مالك بن نبي” في كتابه الشهير “شروط النهضة” حيث عرج على الموضوع في فصل صغير بعنوان “معامل القابلية للاستعمار” حيث يرى أن المستعمر لا يمكنه التحكم في البلدان المستعمرة إلا من خلال استغلال طاقات مجتمعاتها، أو تبديدها وتشتيتها كي لا تقوى وتتعاضد، وذلك بالتزامن مع عامل خارجي ألا وهو المستعمر نفسه، وبذلك تصبح لدى المجتمعات المستعمرة قابلية للاستعمار وذلك من خلال استجابة داخلية في نفوس هذه الشعوب إزاء منبه خارجي وهو سطوة المستعمر.
إلا أن “مالك بن نبي” اكتفى بالإشارة إلى وجود خلل قاعدي لدى هذه الشعوب ووسمها معامل القابلية للاستعمار، ووصفه في إطار المُستعمر والمستعمَر، في حين أن الخلل أكبر من ذلك، وهو يعود إلى معامل ثالث خفي، لا يستثار بفعل الاستعمار وحسب، بل بفعل أية قوى من شأنها إخضاع الآخر، أي أنها أزمة لدى النفسية الجماعية لدى مجتمعات العالم الثالث، وسنطلق على هذا المعامل بـمعامل القابلية للخنوع؛ وهو استعداد أو قابلية الفرد أو جماعة معينة للخضوع لإملاءات تتنافى مع الحرية والكرامة الإنسانية، سواء كانت تلك الإملاءات خارجية (أنظمة أجنبية)، أو محلية (أنظمة شمولية)، فأغلب مجتمعات دول العالم الثالث تعيش تحت ظروف قهرية تتعدد أوجهها من خنق للحريات السياسية والدينية، وكذا من انعدام للعدالة الاجتماعية ما بين المواطنين لتتشكل بذلك عصب وجماعات ظل متفاوتة في قربها للدائرة المسيطرة (النظام)، وكلما اقتربت طبقة معينة من دائرة النظام كلما زاد نفوذها وسطوتها على الطبقات الأخرى وكلما زادت كذلك خنوعا أمام النظام.
ومن مظاهر القابلية للخنوع لدى مجتمعات العالم الثالث نجد كون مثل هذه الشعوب تعيش ظروفا اجتماعية صعبة من انعدام فرص العمل واللاعدالة في توزيع الثروات الوطنية وانتشار المحسوبية والفساد، وانعدام الرعاية الصحية، وفشل المنظومة التربوية والتعليمية دونما إبداء أي رد فعل كان، فضلا عن قهر سياسي يتمثل في منع المواطنين من المشاركة الفعلية في الحكم، وصياغة القرارات الإستراتيجية والتي تنعكس تأثيراتها على الجميع بل وعلى الطبقات الوسطى والدنيا أكثر من غيرها فضلا عن أوضاع المرأة الدونية سواء في البنية الهيكلية للدولة وقوانينها أو في تركيبة القيم الاجتماعية.
وبذلك تصبح العلاقة ما بين الدولة والشعب هي علاقة إخضاع (النظام)، وخضوع (الشعب)،الشأن الذي يؤثر بالسلب على أهم مقومات الدول والمتمثلة في رأس المال البشري، الشأن الذي يتداعى منه مجموعة لا نهائية من العطب التي تتجسد في الدولة، لتتشكل لدينا مؤسسات مشوهة غير قابلة لأداء المهام المنوطة بها، وبذلك تتراجع دولنا بثبات نحو التخلف أكثر فأكثر.