لا تعد حريات الصحافة والنشر مجرد مؤشراتٍ للمساحة الديمقراطية في البلدان المتقدمة، وإنما تعتبر أيضاً ضمانات بقاء القيم المدنية فيها ومثيراً لاستمرار تقدم المجتمعات وتطورها الثقافي والحضاري والعلمي. بين اليوم والأمس يعيش العالم العربي إجمالاً وضعاً مقلقاً لحريات الصحافة والنشر تستدعي إلقاء نظرةٍ عن كثب على الساحة الثقافية والعلمية العربية ومدى حريتها ومواكبتها للتقدم الحضاري من حولها شرقاً وغرباً.
عبد الرحمن الخضر ، كاتب وروائي يمني وأحد أعلام الكتابة ورواد الحقل الثقافي اليمني منذ ثمانينيات القرن الماضي، ضيف مواطن في هذا الحوار للحديث عن حريات الصحافة والنشر في العالم العربي.
- ماذا تنتظر من مجتمعٍ ظل يشتغل لعدة قرون على معيار ” من القائل؟ وما المناسبة؟”
- كيف ستتحدث عن الحب في روايتك؟ في مجتمعٍ يُغلِّف المرأة، يزوج الأربع مرة واحدة في الدار الأولى، و ينكح سبعين في ” نكأة ” واحدة في الدار الآخرة.
- إذا كانت هذه هي طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب العربي، فتخيل طبيعة السلطة التي تحكمه.
- الناشر يبيع مايطبعه، ولن يضحي في سبيلك بمكاسبه لينشر لك الغير مألوف.
- إذهب إلى القنوات والصحف الأخرى ستجدها تمارس ذات الوظيفة الدعائية، إما لمذهب من المذاهب، أو لحزبٍ من الأحزاب، أو للنظام الحاكم، أو لنشر الدجلنة.
- لعبت دولة الكويت خلال ” مشروع عالم المعرفة ” دوراً كبيراً وحاسماً في التمويل والنشر لسلسلة من الترجمات لجملةٍ من المترجمين قاموا على ترجمة مؤلفات أجنبية في مختلف صنوف المعرفة من علوم وفنون وآداب، وأثرت المكتبة العربية بهذه الترجمات كما لم تفعل أية دولةٍ عربية أخرى.
- ساهمت مجلة نزوى العمانية بنسبة ما في هذا، ودورياً خلال صدورها الشهري في استقبال بعض الترجمات التي قام بها البعض لنصوصٍ قصيرة، أو مقاطع معينة من كتاب، وبمقابل مادي.
حاوره: فاروق محافظ
الكاتب والروائي عبد الرحمن الخضر، من وجهة نظرك .. ما هي أهم الأسباب التي تعيق الكاتب في العالم العربي من التعبير بحرية ومناقشة أفكار جديدة، وخارجة عن المألوف في أعماله ؟
عادةً ما نقرأ في المطبوعات الصحفية وإصدارات دور النشر العبارة التالية :
” المقالات أو الموضوعات أو الأفكار الواردة هنا لا تعبر بالضرورة عن رأي أو توجهات الصحيفة أو الدار “
يمكننا في العالم العربي إستبدال هذه المقولة، أو هذا التنبيه، أو هذا التحذير بعبارة للكاتب ذاته تكاد تكون متضمّنة في أي نص للكاتب تقول:
” هذا المقال أو هذا النص أو هذا الكتاب لايعبر عنّي”
نصّه هو، مقاله هو، كتابه هو، لا يمثله.
ما نقرأُه لفلان من الكُتّاب لا يحمل روحه، ولا ينطق بلسانه، لأنه مرغمٌ على التخلي عن كثيرٍ من قناعاته، ومن أدواته التي ستأتي بمضمون وشكل مختلفين، وغير مألوفين.
طلب مني أحد الأصدقاء القائمين على التحرير في دورية أدبية في أحدى الدول العربية أن أشارك بالكتابة معهم فرددت عليه فوراً: أعذرني، فما سأكتبه لن يمثلني، لأنهم يريدون صيغة بذاتها، غرضاً بذاته، سيكون تلفيقاً بمعنى الكلمة، ولا أستطيع ذلك، لن أكون حراً في كتابة ما أريد، أمن ناحية المضمون، أم الأدوات، أم الإطار. ولا شك بأني أحترم نفسي، وأحترم قلمي. ما أكتبه لا يوافقون عليه.
في الواقع فأنا أشعر بأني غريب بمعنى الكلمة.
دعنا في سياق السؤال. بإمكاني الإجابة بمفردات السؤال ذاتها :
لا حرية، لا أفكار جديدة، لاشيء خارج عن المألوف، هذه مسلمات في المجتمع العربي.
ماذا تنتظر من مجتمعٍ ظل يشتغل لعدة قرون على معيار ” من القائل؟ وما المناسبة؟” لتعريف من هو المثقف، وأن المعيار الحاسم لتعريف العالِم أن يكون مُلِماً بمسائل الدين، وأن العلم هو الدين.
وأن هذا الدين قد حوى كل المعارف التي يحتاجها الإنسان إلى يوم القيامة، وأن العلم الذي يقوم على شرطين لازمين بتاتا هما الملاحظة والتجربة، هذه التجربة التي تمثل معياراً محايداً لا يتوفر عليها غير العلم، وبالتالي قابلية إثبات فشله، هو في هذا المجتمع يعني التقليد، يعني الغيب، هذا الغير معدّ، غير المكتشف، وغير القابل للتجربة.
ولذلك لا يمكن مطلقا إثبات خطأٍ فيه، ويتم به تفسير وشرح أي شيء، فيما هو لا يشرح أي شيء .
وأن هذه المعارف قد تم حصرها وتدوينها في مدارس (مذاهب ) فقهية منذ القرن التاسع للميلاد. فهناك تم القبض على الزمان والمكان، وعلينا العودة إلى هناك لاستحضار كل شيء نحتاجه في عصرنا هذا الذي ليس غير ملحق.
ما الداعي إلى الجديد إذن؟ وإلى غير المألوف؟ لقد تم إنجاز كل شيء.
المعرفة هذه التي يقول أينشتاين عنها ” كل مالدينا من العلم يعد بدائياً وطفولياً إذا ما قيس إلى الواقع، لكنه برغم ذلك أثمن ما نملك” هي في ثقافتنا قد تم حصرها كلّيّةً، وقد ألمّ بها الفقهاء المتقدمون كلها، وحرروها وأطّروها. فما الداعي إلى الجديد وغير المألوف .
هذا يعني بأن المعرفة “محدودة” ويمكن الإحاطة بها، وهي معطى إلهي خص الله بها فئة بذاتها “أولي العلم” وأن على الجميع العودة إليهم.
وهنا فليس من حاجةٍ إلى جديد، أما غير المألوف فهو بدعة وكل بدعةٍ هي ضلالة، والضلالة في النار، وهو ما يؤكد غياب مفهوم الرأي العام، أو الرأي المختلف في الثقافة التي ورثناها، ولازلنا ننهل منها، فليس من جديدٍ أو غير مألوف.
كل العوامل التي تحيط بنا ويشتغل عليها الكاتب تقوم على هذه الثقافة، ولذلك فالكاتب دائماً في تحدٍ ليس ليغامر من أجل الجديد، بل كيف يظل حين يكتب في توافق مع هذه المعطيات المتكررة، ألا يتجاوز أعراف وتقاليد المجتمع، أن يظل مع الجماعة في سياق التفكير الجمعي النمطي الذي ينهل من التراث وينفر من كل جديد ” غير أن يستهلك فحسب “.
سأمثل محفزات الإبداع بالموارد، الموارد اللازمة لاستحداث أو تطوير مشروع ما. المشروع الأدبي هنا، ما الذي يتوفر عليه ؟
الرواية مثلاً .. كيف ستتحدث عن الحب في روايتك؟ في مجتمعٍ يُغلِّف المرأة، يزوج الأربع مرة واحدة في الدار الأولى، وينكح سبعين في ” نكأة ” واحدة في الدار الآخرة.
أن تكتب قصة حب بين مسافرين في عربة قطارٍ لاتتوفر في بلادي، كما هي السباحة في الشاطئ، عن تلك النهود المشرعة هناك، عن قبلةٍ يصفق لها كل الشاطئ، عن أمسية حبٍ شبقة.
أن تنقل معلومة لا تتفق في سياقها، أو أغراضها، أو النتائج المرتقبة منها مع أيدلوجية السلطة وثقافة المجتمع.
كيف بالشبهات تصطاد قلمك بين المقدس والمدنس، وبالوطنية كولاء للحاكم، والتطبيل له في كل مناسبة.
إذا كانت هذه هي طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب العربي، فتخيل طبيعة السلطة التي تحكمه.
كيف بك تكتب وهمك الرئيس الأكبر ليس صنعة الجمال ونشر المعلومة التي ستبني عليها مواقف وقرارات تؤثر في مجرى حياتنا، وخلق القارئ الجديد، بل أن تراعي المحاذير التي تحجب عنك الفرصة تلو الفرصة، هذه الفرص التي يجب أن تتاح للكاتب كشرط لمشروعه الجدير بالكتابة، المختلف غير المألوف.
سيكون الكاتب هنا أمام المجتمع والسلطة كرُهابٍ يصاحبه طالما كتب، وعليه أن يتجنبه دائما، في حين يتوفر الكاتب في الدول ذات النظم الديمقراطية على كافة الأدوات ليستخدمها في صنعته، وعلى بيئةٍ جدُّ خصبة وثرية ومفتوحة، و يصيغ الأحداث والشخوص والحوارات بقلم منطلق، و ينقل المعلومة غير هيّاب.
في كتابه ” عالم تسكنه الشياطين ” يذكر عالم الفلك ورائد الفضاء الأمريكي كارل ساجان أنه ” توجد منطقة وسطى للاعتراف بأخطاء الماضي كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية عام 1992 حين اعترفت آخر الأمر في أن جاليليو كان على حقٍ في أن الأرض تدور حول الشمس، لقد تأخر هذا ثلاثة قرون، إلا أنه مع ذلك اعتراف شجاع وموضع ترحيب كبير “
لكن لا منطقة وسطى لدينا لنعترف بأخطائنا، فكل شيء قد تم سابقاً، دون أخطاء، دون تقصير ودون نقصان.
البيئة العربية بهذا المحتوى المعجمي، وفي هذا الإطار المنغلق، وبغياب الكثير من البنى الحديثة والمشاهد والمواقع والتصرفات الحضارية، والقيد المحكم على العلاقات، وباتجاهها نحو هذه المقاصد غير الحياتية، توصد الباب أمام كل محاولة لإحداث التغيير. ربما تفلت بعض المحاولات في حالتين بالتحديد، وأكرر ربما.
الأولى : النشر من قبل دار نشر تقع خارج وطن الكاتب، الثانية : نشر بعض الكتب المترجمة لكتاب أجانب.
أن تكتب قصة حب بين مسافرين في عربة قطارٍ لاتتوفر في بلادي، كما هي السباحة في الشاطئ، عن تلك النهود المشرعة هناك، عن قبلةٍ يصفق لها كل الشاطئ، عن أمسية حبٍ شبقة.
كيف يمكنك وصف تجربتك في النشر في العالم العربي ؟
إبتداءاً، الناشر يبيع مايطبعه، ولن يضحي في سبيلك بمكاسبه لينشر لك غير المألوف.
وفي هذا فالناشر يراعي شرطين أساسيين يكادان أن يكونا وجهين لذات العملة، فهو لن يغامر بالدخول في مواجهة مع السلطة أولاً، أو بنشر غير ما اعتاد عليه جمهور القرّاء من كتاباتٍ تقليدية.
ثانياً، وفي أحسن الظروف فهو يراعي ما يعتمده دائماً، أو يستحسنه الوسط الأدبي من مفاهيم ومعايير مدرسية متعارف عليها وثابتة تعتبر حاسمة في الحكم على قيمة أي مطبوعة من معلومة أو نص أو كتاب.
يمكنك هنا ككاتب أن تتجاوز هكذا اشتراطات ومعوقات بإرسال نصك إلى ناشرٍ في بلدٍ غير بلدك، فأنت في منظور الناشر والسلطة هناك مواطن من دولة أخرى، وسيمررون هذا الكتاب.
وللتأكيد على هذا يمكننا أيضا الإشارة إلى بعض الكتب من تأليف كُتّاب غير عرب خارجة عن المألوف، بل وضدا على القيم والمبادئ المحلية، والتي تمت ترجمتها وطباعتها بالعربية ونشرها في بعض الدول العربية، ولم يكن لتنشر – مثل هذه المضامين والأشكال التي تضمنها الكتاب المترجم – لكاتب غير مواطن.
ماهو تقييمك لحرية الصحافة والنشر في العالم العربي ؟
مقيّدة ولا شك، وإن لم فهي موجّهة .
أستطيع القول وبكل ثقة بأنها تشتغل على البروباجندا. عليك أن تتابع الخبر ذاته على شاشتي قناتي العربية والجزيرة مثلاً، كلاهما تعرض الخبر ذاته، أو المعلومة ذاتها، والاستطلاع ذاته، ولكن وفق السياسة التي تنتهجها الجهة الممولة، وهي إما السلطة ذاتها، وإما شخص أو منظمة أو هيئة تابعة لهذه السلطة .
أقول بروباجندا لأنك ستفقد الحقيقة هنا، لأننا نتعرض خلال هذه المؤسسات الصحفية إلى التضليل والاستغفال بشكلٍ منظم، وجهدٍ دؤوب.
إذهب إلى القنوات والصحف الأخرى ستجدها تمارس ذات الوظيفة الدعائية، إما لمذهب من المذاهب، أو لحزبٍ من الأحزاب، أو للنظام الحاكم، أو لنشر الدجلنة.
ماهو تقييمك لمدى استقلالية ومهنية دور النشر في العالم العربي ؟ ولماذا ترضخ بعض المؤسسات لضغوط الحكومات والسلطات ورغبات الشارع ؟
ربما ننعت الناشر في وطننا العربي بالمغامر، يمكننا نعته أيضا بالمراوغ، ولعلنا سنحدده بالمتواطئ، جميعها واردة.
الناشر عنصر من العناصر في عملية النشر، فهو يحتاج للكاتب وللمترجم وللترخيص ولفئة القراء وللمكتبات والمعارض، وفي كل هذا فهو محكوم بما لا يخالف سياسة النظام (والنظام هنا شمولي)، ولعادات وأعراف المجتمع (وهو مجتمع عرفي، قبلي، متدين)، ولذلك فهو محكوم بالعوامل المؤثرة في كفاءة وفاعلية واستقلال هذه العناصر.
لكن هناك ظاهرة تابعناها خلال الفترة الماضية يمكنني هنا نعتها بظاهرة الطابور الخامس، وتتمثل خصوصا في بعض من تلك الشخصيات المثقفة التي تسنى لها في وقت ما القيام على مهتمي الثقافة والإعلام في الوطن العربي، والذين كان لهم حضور قوي في تمرير بعض الكتابات التي كان من المتوقع حظرها في هذه الدول مثل مصر وسوريا والعراق.
إضافة إلى الدعم الذي تلقاه الكتاب المغاربة في فترة سابقة من قبل السلطات هناك لإمكانية بناء مدرسة ثقافية عربية مغاربية يمكن تمييزها عن تلك المدرسة في الشرق العربي، هذا إضافةً إلى ما أشرت عليه سابقا من تمرير كتابات قادمة إلى دار النشر من تأليف كتاب غير مواطنين وترجمات لكتاب أجانب.
بالنسبة لحركة الترجمة قد يعتبرها البعض بطيئةً ورديئة في العالم العربي. من وجهة نظرك ماهي أهم المعوقات التي تقف في طريق حركة الترجمة ؟
لعلي سأكتفي بمختصر، وسأقول أنها بطيئة لأن القارئ العربي تقليدي، ويكتفي بالكتابات الكلاسيكية للكتاب العرب، وأخيراً فلم تعد تحتوي المكتبات في العالم العربي غير على كتب الأساطير والخرافات، ولن تجد الكتاب المترجم غير في أيدي فئة جد قليلة من القراء، قليلة حتى في أوساط الكتاب والأدباء أنفسهم.
ورديئة، لأن الكثير من المترجمين ليسوا بمحترفين، ولاباع لهم في المادة التي يتناولها المؤلف الأجنبي، وأنّ بعضاً من دور النشر، وليست بالقليل، تركز في كثير من إصداراتها المترجمة على القصص التي تستهوي الجمهور كما هي في القصص البوليسية المستهلكة ولا تتطلب مترجما متخصصا كما هي الترجمات للمادة العلمية أو الأدبية ذات الأداء الفني العالي، ثم فالمترجم يجب أن يكون فناناً، وهذه موهبة .
لكني سأتحدث عن الترجمة كمشروع وكمنظومة تقوم على أسس يجب أن تتوفر ابتداءاً، وعلى عناصر يجب الإحاطة بها لاحقا.
أظن بأن أي محاولة للترجمة لن تتم إلا بتوفر المترجم، والممول، والناشر والجمهور الذي سيقبل على مثل هذه الترجمات .
إذن فالترجمة، هل هي مشروع مؤسسي، مشروع دولة، أم مشروع فردي؟
دعنا نعود للترجمات العربية في بغداد وفي الأندلس، وهي ترجمات إسلامية في الأساس لأن اللغة العربية كانت هي لغة كافة الخاضعين لسلطة الدولة الإسلامية آنذاك، فالمترجمون العرب، وليس الأوربيون، هم من كشفوا عن ذلك الكنز الفلسفي المعرفي العظيم للإغريق، ونقلوه إلى أوروبا خلال عمليات النقل التي جرت على الترجمات العربية بفضل ذلك التلاقح الحضاري الذي تحقق في نطاق الدولة الإسلامية حينذاك.
هذه الترجمة كانت مشروعاً عالمياً بحق، أحدث تلك الوثبة المعرفية الكبرى التي أذكت التفكير الانساني، ونقلته إلى مرحلةٍ من الوعي مختلفة تقوم على التأمل والتحليل.
هل كان مشروعا مؤسسيا حينذاك ؟ ولاشك
مشروع دولة؟ ولاشك
مشروع أفراد؟ ولاشك
كلها معاً أنتجت تلك الملحمة الترجمانية الحضارية الكبرى في ظرفٍ فريد في تاريخ العرب والمسلمين خلال تلك الفترة من الانفتاح على ثقافات وآداب وفنون الشعوب الأخرى، وخصوصاً تلك التجربة في الأندلس، والتي يمكن نعتها بحق بالتجربة العربية.
هل نحن بحاجة إلى مثل هذا التضافر في وقتنا الراهن لخلق واقعةٍ كهذه؟
أظن بأن أي محاولة للترجمة لن تتم إلا بتوفر المترجم، والممول، والناشر والجمهور الذي سيقبل على مثل هذه الترجمات .
من هو الممول ؟ هذا السؤال يكتسب أهمية خاصة .
لأن المترجم سيقضي وقتا ليس بالقصير، وليس بالسهل، ولكن هل نضيف “وغير مجزي”؟
بل علينا أن نضيف ومجزي، وليس غير مجزي.
لأن الترجمة غير الخلق في الفن والأدب كمشروعٍ مركب يمثل مشروعا خاصا في الأساس، مشروع الكاتب بصورةٍ مباشرة، ويمثل ملكيةً خاصةً به، ويؤشر ويدل عليه، وسيضعه في المكان الذي الذي يستحقه بين الكتاب، وهو يكتب وليس بالضرورة أن يشترط ممولا ليطبع كتابه وينشره.
لكن المترجم ناقل، ولا أظن بأحد قام بترجمة دون أن يحصل على التمويل، إلا أن يكون كعمل تسويقي أوّل لاستدعاء الممولين وإغرائهم بتمويل ترجماته اللاحقة، أو أنه سيتفق مع دور نشر – متى استحسنت ترجمته – لنشر ترجمة هذا الكتاب.
إذن فالممول شرط أول وأساس ليتمكن المترجم من تأسيس مشروعه في الترجمة، وأظن أن الممول هو الناشر ذاته .
ولعبت دولة الكويت خلال ” مشروع عالم المعرفة ” دوراً كبيراً وحاسماً في التمويل والنشر لسلسلة من الترجمات لجملةٍ من المترجمين قاموا على ترجمة مؤلفات أجنبية في مختلف صنوف المعرفة من علوم وفنون وآداب، وأثرت المكتبة العربية بهذه الترجمات كما لم تفعل أية دولةٍ عربية أخرى.
كانت دار الهلال والدولة في مصر تقريبا قد فعلت شيئا كهذا، لكن ليس بمستوى الكم والكيف الذي وفرته عالم المعرفة.
هل من مشاريع ترجمة فردية خاصة؟ يباشرها المترجم ذاته ويتحمل تكلفة طباعتها ونشرها؟
لعل البعض حاول شيئا كهذا، ولكن لم يتأسس مشروع فردي يشار إليه بالبنان.
ساهمت مجلة نزوى العمانية بنسبة ما في هذا، ودورياً خلال صدورها الشهري في استقبال بعض الترجمات التي قام بها البعض لنصوصٍ قصيرة، أو مقاطع معينة من كتاب، وبمقابل مادي.
ربما مركز دراسات الوحدة العربية ” مجلة المستقبل ” قامت بشيء كهذا، لكني لا أستطيع تأكيده، لأن كثيراً مما قرأته فيها لم يتضمن أعمالاً مترجمة.
وسنرى هنا الأهمية البارزة لدور الممول الناشر في عملية الترجمة وخفوتها، بل ونكاد نقول بتوقفها، وتلعب هنا سياسة وتوجهات وأغراض الدولة أو أي ممول الدور والسبب الرئيسين في تبرير عملية التمويل لهذه الترجمات.
ولأننا في الوطن العربي تحت أنظمة غير ديمقراطية – وإن اتخذت بعضها شكلا تقريبيا للنظام الديمقراطي – فستظل مثل هذه القرارات غير برامجية – رغم أنها استمرت في الكويت لفترة طويلة كبرنامجٍ متصلٍ فاعل وناجح – وستتوقف متى توقفت، أو ستستمر حسب رغبة السلطة القائمة، ولعل انقلاباً ما على الحاكم قد يغير كل شيء ورأسا على عقب.
يبقى المترجم في طرحنا هذا مشروطا بالممول والناشر، والذي قد يكون دولة أو مؤسسة أو هيئة أو مركزاً.. ولعبت الدولة – حتى لو سمينا مجلة أو داراً للنشر– الدور المفصلي في هذه العملية .
ويمكن أن تتوفر أشكال وفعاليات وجهات غير الدولة يمكنها أن تلعب هذا الدور .. ماهي ؟ ولماذا ؟ وإلى متى ؟
وسنبقى أخيرا مع المترجم ليس في اشتراكه في هكذا مشروع من مشاريع الترجمة فحسب، بل وكمبدع وفنان وكمحترف.
وستجد الكثير من المترجمين في مجال الفن والأدب بأكثر مما هم في مجالات العلوم والمعرفة الأخرى، فالدراسة الكلاسيكية لدينا في الوطن العربي للغات الأجنبية تندرج تحت يافطة بمفردة الآداب، ويسمونها كلية الآداب، وخصوصاً الأدب الأنجليزي، يليه الأدب الفرنسي.
لكن هل نستطيع أن نزكي خريج كلية الآداب كمترجم؟ وكيف بمترجمي الكتابات العلمية في الفيزياء والرياضيات وعلوم الاقتصاد والإدارة وخلافها؟ من قِبَلِ خريجين في الآداب.
ولذلك فستجد أن أغلب الكتب المترجمة هي كتب الفن والأدب، وأن الترجمات غالبا من الانجليزية، أو من ترجمات إنجليزية سبقت لكتابات باللغة الفرنسية أو الألمانية، ولكن حسب علمي ليست من ترجمات عن الروسية في وقت سابق لمترجمين – يمنيين مثلا – رغم أن أغلب المنح الخارجية كانت إلى روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في التسعينات من القرن الماضي.
وهذا مايؤكد على ما أشرنا إليه سابقا من شرط ” الاحتراف المركب ” للمترجم في كلتيهما : في اللغة – الناقل منها، والناقل إليها – وفي المادة التي تناولها مؤلف الكتاب، فليس كل من أضاف لغة أخرى إلى لغته سيكون قادرا على الترجمة ما لم يكن متخصصاً في هذا المجال.
ولاشك بمشكلات لغوية – تصويرية خاصة يواجهها المترجم لأجل النقل الأمين لتقنية ومراد الكاتب، ولعلنا ببعض المفردات أو التركيب اللغوي خلال الجمل والفقرات في لغة الكتاب لن تكون مطواعةً في النقل إلى اللغة العربية، ولابد في بعض أحايين من إيراد المفردة ذاتها التي ذكرها المؤلف بجانب المفردة العربية، لأن كل المفردات المماثلة في العربية لم تحسم المعنى أو الشكل الذي ابتغاه المؤلف.
كل هذا يعني أن يكون المترجم ملماً بموضوع الكتاب الذي سيقوم بترجمته، أن يكون خريج علوم فيزياء أو رياضيات متى ترجم كتابات في هذه التخصصات، وعلى درجة علمية تضعه في منزلة المحترف.
وأن يكون ضليعا في هذه المادة – بل ومؤلفاً فيها بلغته هو أو باللغة التي يترجم عنها – إلى جانب قيامه بعملية الترجمة، وأن يتوفر على الخلفية اللازمة في علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة.
وهنا سأضيف من جهتي شرطا ثالثا يجب أن يستوفيه المترجم، وهو أن يكون فنانا، هذا الشرط يهمني شخصيا في اختياري للكتب المترجمة، وقبل أن أقرأ عنوان الكتاب، أبدأ دائماً بقراءة إسم المترجم.