إذا كانت غواية الحكي عند الروائيين هي الحدث والإيقاع الرشيق واللهاث وراء سؤال ماذا لو؟! فإن غواية الحكي في أدب خوان خوسيه مياس هي تحويل كل ما هو عادي وبسيط إلى سرد عجيب ومدهش.
ما يجذبنا جميعاً إلى الحب هو دهشة البدايات، هذا المزيج الشعوري ما بين الانجذاب والخوف، بين الافتتان بروح تعرفها ولكنك في بعد آخر من الواقع لا تعرفها حقاً. الدهشة هى ما يجذبنا إلى الحب وهى كذلك التي تجذبنا نحو حكي وسرد خوان مياس، البراعة في بناء عوالم مختلفة وتحويل كل ما هو عدمي وغير مرئي إلى راوٍ أو شخصية، القدرة على تحويل كل هاجس وفكرة إلى نسيج يربطه بفعلٍ ما أو حدثٍ ما ليكون رواية جديدة.
من هو خوان خوسيه مياس؟
ربما لا يحتفي بذكره الكثيرون وبأدبه المميز، غير أن العالم يعرفه جيداً إذ ترجمت رواياته لأكثر من 23 لغة حول العالم، خوان مياس هو أحد أهم الكتاب الإسبان المعاصرين، ولد بمدينة فالنسيا عام 1946، لم يكمل دراسته في كلية الآداب قسم الفلسفة، كان يتعين عليه دائماً العمل لمساعدة أسرته ماديا، لكنه تكفل بذاته وثقافته ثم شق طريقه إلى الأدب الإسباني حتى لقب “بالمايسترو”.
عايش ظروف الفقر وتداعيات الحرب الأهلية بإسبانيا إبان الحرب العالمية الثانية وقد شكلت الظروف الكثير في فكره وسرده الأدبي. يعمل بالصحافة وفاز بجائزة “سيسامو” في الرواية/ كما فاز بجائزة بلانيتا والجائزة الوطنية فى الرواية، من أشهر أعماله “ثلاثية العزلة” (حرف ميت، فوضى اسمك، هكذا كانت العزلة)، “الأشياء تنادينا”، “من الظل”، “هي تتخيل وهلاوس أخرى”،”المرأة المهووسة”،”العالم”.
العالم القصصي عند خوسيه مياس
في الفقرة التالية نستطيع أن نتلصص على عالم خوان مياس كما يتلصص هو علينا، راويا حكاياته في قصصه الغرائبية الممتعة، في هذه الفقرة تحديداً اكتشف مياس عالمه القصصي، ربما حدث ذلك في عقله اللاوعي ليخلق منه حبكات عديدة تستطيع أن تتلبسنا في كل مرة نقرأ له فيها.
هذه فقرة من رواية “العالم” وهي بمثابة سيرة ذاتية للكاتب يروي فيها عن “ماريا خوسيه” التي صاحبته على مدى سنوات عمره وكانت هى الشعلة الأولى للحب منذ أيام الدراسة، ماريا التي ظهرت أيضاً في رواية أخرى له وهي “امرأتان من براغ”، المرأة “الشخصية الروائية” التي تريد أن تكتب رواية بيدها اليسرى.
في الفقرة السابقة تصريح بالحب لماريا خوسيه، هذا الموقف والتصريح يحتمل شعور الدهشة أيضاً ولكن الدهشة من الألم ومن وصف وسرد مياس للمشهد، لقد صنع من جملة واحدة أعادها آلاف المرات، لربما يجد مخرجاً من الألم -ومن منا لا يفعل ذلك ولا تفعل به أفكاره ذلك وهو يحب- لقد صنع من تلك الجملة مخرجا قصصيا حيث اكتشف الوقفة الصغيرة التي بين “غير جذاب” و”بالنسبة لي” وقفة تترك الطريق للهرب، الهرب من الألم الهرب من العالم الخارجي والهرب من ماريا خوسيه فلو تتبعنا سرد “مياس” نرى أنه يخلق دهاليز وسراديب ما وراء الحكي وما وراء السطور ليهرب بالقارئ من عالمه ويهرب هو مع بطل الحكاية من عالمه ليكتشف عالما آخر أكثر رحابة أكثر تقبلاً لأفكاره ولشخصه وهواجسه وأحلامه، مثل هروب بطلة حكايات قصص “هي تتخل وهلاوس أخرى” من العالم لتغرق أكثر بداخل هوسها بشخصية “بيسنته” بحثاً عنه.
وكهروب “دميان لوبو” في رواية “من الظل” وهو رجل في الأربعينات طرد من العمل وقد اتخذ قراراً لاواعياً بأن يتحول إلى شبح، خلق لوبو شخصية “سيرخيو أوكان” ليخلق معه حواراً مطولاً داخل الرواية باعتباره لقاء تلِفزيونيا مع شهير يتلقى من خلاله المجد الذي استحقه ولم ينَلْه خلال سنوات عمله الطويلة بالمؤسسة حيث خذلته الرأسمالية كما خذله العالم وطُرد من عمله، كما استطاع إقناع تلك الشخصية بأنه ظل كشبح داخل خزانة ملابس في بيت غريب يراقب أفراده ويروي عوالمهم وتفاصيلهم وينتقل هنا “مياس” ما بين رواي الحكاية “الشبح” غير المرئي وما بين بطل الحكاية نفسه “دمان لوبو” انتقال خفيف بإيقاع مناسب يليق بحكاية نتابع فيها أحداث مصيرية للبطل وهو يخلق من تفاصيل عالم غريب عنه ومن أفكاره البسيطة عالم رحب نعيش فيه معه.
والهروب الآخر الذي صنعه “مياس” في رواية “هكذا كانت الوحدة” حيث تحاول “إيلينا” الهروب من الوحدة وتتواصل مع مكتب المحققين لينقل لها أحدهم تقارير عن حياة زوجها -وهذه سمة أخرى من سمات أدب خوان مياس وهى التلصص في كل رواياته سواء من البطل نفسه أو من قوة عليا لا مرئية -في الوقت الذي تعثر فيه على يوميات أمها وتغرق في تفاصيلها حتى أنها لا تهتم بمعرفتها بخيانة زوجها التي فترت علاقتها به، ثم تتطور اللعبة لتطلب من المحقق أن يتحدث عن نفسه داخل التقارير، أن يقحم ذاته في تفاصيل التقارير التي يكتبها عن زوجها، ثم تطلب منه أن يكتب عنها هى وتقوم هى أيضاً بكتابة يومياتها وهكذا تتبدل الأدوار ويغرق كل فرد في وحدته وتفاصيله مقارنة بحياة الآخر فيعيد كل من المحقق وإيلينا بناء ذاتهم من تفاصيل مغايرة فالمحقق يسلي إيلينا بتفاصيل مدهشة جديدة عنها وهو يكتشف عالمًا آخر له داخل تقارير يكتبها عنها في محاولة لتقابل حياتين مغايرتين.
فعل الحكي والتفاصيل الصغيرة
هذه الوقفة الصغيرة التي اكتشفها “مياس” ما بين “غير جذاب” و”بالنسبة لي” هي التي صنعت عوالم جديدة ونوافذ مغايرة للحكايات التي يهرب من العالم الخارجي وأحياناً من عالمه هو نفسه حيث لقبه النقاد الأسبان “مايسترو الغرابة” لأن هذه التفاصيل هي التي صنعت عالمه كما قال له القسيس في روايته الذاتية “العالم”:
اكتشاف خوان مياس للفصلة التي بين “جذاب” و”بالنسبة لي” تأتي الفاصلة بين “جذاب” و”بالنسبة” لتعطي معنى أنني من الممكن أن أكون جذاباً بالنسبة لآخرين حتى بالنسبة للعالم في العموم.
أنا بطل الحكايات التي ألتجأ إليها
كان “مياس” هو بطل كل الحكايات التي يلجأ إليها كما يقول في روايته “العالم”، وفي هذه الفقرة من الرواية نفسها قد تعمد إحداث جلبة دون أن يفهم لحظتها ما معنى ذلك؟ أو لماذا فعلت ما فعلته؟، ونتعمد كلنا كثيراً إحداث جلبة دون فهم عميق لمعنى لماذا فعلنا ما فعلنا؟، وقد تجسد “ربما” لخوان مياس في صورة رجل يرتدي قبعة بإطار، بالطو رمادياً، قميصاً أبيض وربطة عنق سوداء، وقد أملى عليه الكثير من الاحتمالات التي “ربما” فعل ما فعل بسببها، كذلك يتعمد “مياس” إحداث جلبة في ذهن القارئ ويملي عليه الكثير من الاحتمالات التي يصنعها من تفاصيل عالمه اليومي ، يحدث جلبة بالأشياء بالجمل والكلمات بالأفكار والهواجس بالراوي والذي عادة ما يكون راويًا عليمًا وأيضاً راويًا ذاتيًّا أو ينتقل بخفة ما بين الاثنين، يخلق “مياس” روايات من حدث بسيط كالحدث الذي ألقى فيه الحجرة على لمبة الكربيد.
الفانتازيا في سرد خوان مياس
في مزج ما بين الواقع والخيال يروي “مياس” حكاية الكلمة (بوبريما)
يروي هنا “مياس” حكاية الكلمة المنبوذة في روايته “المرأة المهووسة” حيث تروي قصة فتاة مهووسة باللغة وقواعدها ودراستها فتتجلى لها الكلمات وتحاورها ببساطة، وهنا يرصد “مياس” الرفض الذي تعرض له هو من “ماريا خوسيه” والرفض الذي نتعرض له جميعاً ولكن في شكل سردي مختلف خالقاً من كلمة “لا” معنى حقيقاً لها معاني كثيرة عن الهوية والتقبل والإشكاليات التي يدور في فلكها الإنسان المعاصر، ويعظم أيضاً من فكرة الشغف وكيف يستطيع أن يكون مخرجاً آخر من الألم والواقع. بإمكانك أن تكون البطل دائماً في روايات “خوان مياس” حتى ولو كنت خزانة ملابس أو كومدينو أو كلمة تبحث عن هويتها أو فكرة في عقل بطل حكاية أو هاجس يستطيع هو دائماً أن يخلق من الهامشي بطولة ومجد.
يخلق خوان مياس أدبه من أجل الإنسان وحده ليسخر له كل شيء حوله، من أجله هو وكل الأشياء مهمة لدى مياس، فأدبه يخلصنا من الوحدة لأنك تجد أخيرا من يعرفك على ورقة يصف بها كل فكرة تدور في ذهنك ويعرف كيف يسخر عالمك لك بأن تجد ماهيتك بين السطور أو تجدها في مخليتك أو في كل متناقض خيالي وغير منطقي المهم أنك ستجد نفسك في عالم خوان مياس. كما لا يمكننا أبدا حصر كتاباته في قالب واحد رغم تخصصه في السرد الغرائبي والأفكار المدهشة والتنقل ما بين الخيال والواقع إلا أن إنتاجه الأدبي غزير جدا ومتنوع، حتى أنه يكتب للمسرح والسينما مؤخرا وقد خاض تجربة كتابة المسرح من قبل، رغم تميز عالمه وسرده لا يمكن أبدا أن نحصره أو نختصره في وصف واحد أو عالم محدد لذلك هو أحد أهم الكتاب المعاصرين ولازال أمامنا الكثير لنكتشفه عن عالمه السردي الممتع.