هذا العام، قد يبدو من المناسب للذي سيعد تقريرا متلفزا عن حاتم علي أن يبدأه بصوت “يسري فودة” من إحدى حلقاته من برنامجه “سري للغاية” والتي كانت عن المشير عبدالحكيم عامر وهو يقول: “كان العام عاما حزينا”
بلا شك، فمنذ غزو فيروس كورونا حياتنا تلاشت مظاهر الحياة الاجتماعية، ومات العديد بسببه، لم تنفك المصائب عن الحدوث! هذه المصائب أبت إلا أن تفاجأنا برحيل أحد أعمدة الدراما العربية في السنوات العشرين الأخيرة، وهو المخرج السوري حاتم عليّ. لعل حاتم عليّ يحضر في أذهان الأجيال الحالية مرتبطا بمسلسل “عمر” أو مسلسل “أوركيديا”، إلا أن حاتم وما فعله وما قدمه للدراما السورية بصورة خاصة والعربية بصورة عامة، أكبر من أن يتم اختزاله في عمل أو عدة أعمال درامية!
في التسعينات، وفي فورة التنافس الدرامي بين أحد قطبي الدراما المصرية آنذاك، يحيى الفخراني وصلاح السعدني، ظهرت أعمال درامية استحوذت على لب المشاهد العربي لمخرج اسمه نجدت إسماعيل أنزور، مثل الجوارح و جواهر ونهاية رجل شجاع. لكن ما ميز فئة مسلسلات مثل الجوارح والكواسر والبواسل وغيرها، هي ثيمة الفنتازيا التاريخية، إلى جانب الحربالانتقامالثأرالحبالفراق وغيرها من الثيمات التي أخرجت المشاهد العربي من حواري وزقاق المدن المصرية وصورة رجل أبو طربوش أحمر إشارة لأعمال “أسامة أنور عكاشة” الدرامية. أعمال أنزور، بالنسبة لي شخصيا وحسب ذاكرتي القصيرة جدا، كنت قد شاهدت مثلها سابقا في مسلسل اسمه البركان لمحمد عزيزية وهاني السعدي، مع نجوم تكرر ظهورهم لاحقا مع أنزور، مثل رشيد عساف، سلوم حداد، عبد الهادي الصباغ، عدنان بركات وصباح عبيد.
لم يعد حينها التنافس بين الحرافيش والطرابيش الحمراء في الدراما المصرية، والحارات والاحتلال الفرنسي في المسلسلات السورية، مثل أبو كامل وحمام القيشاني وأيام شامية..إلخ، بل أصبحت الفانتازيا كذلك حاضرة وبقوة وتكاد تكون الأولى في المشاهدة، أو لربما كانت كذلك وباكتساح فعلا لو كان وقتها اليوتيوب متوفرا. لكن، ما حدث بعد ذلك، وفي عصر هذا التنافس الدرامي الحامي، وأسماء مخرجين كبار، ومؤلفين وكتّاب سيناريو كبار، يظهر مخرج شاب في أواخر الثلاثينيات من عمره، ويفرض اسمه كأحد الأسماء الهامة والقوية في عالم الإخراج.
ممثل كان جزءا من أعمال أنزور كممثل، وغيره من المخرجين، ومخرج قدم أعمالا بسيطة مثل فارس في المدينة، أو سفر، إلى جانب إخراجه جزئين من سلسلة العمل التلفزيوني مرايا، للمثل السوري ياسر العظمة. إلا أن هذا المخرج الشاب، فاجأ صنّاع الدراما والمشاهد العربي، بتحفة فنية تاريخية، من العصر العربي ما قبل الإسلام، أو كما يُسمى جهلا بـ “الجاهلي”. هذا العمل هو “الزير سالم” الذي قام ببطولته الفنان السوري سلوم حداد إلى جانب كوكبة من النجوم مثل خالد تاجا وجهاد سعد وفرح بسيسو وسمر سامي وعابد فهد، وبزوغ نجم ممثلين آخرين مثل تيم حسن وقصي خولي. ورغم الجدل حول بعض أحداث المسلسل، إلا أنه وبما لا يدع مجالا للشك، استحوذ على اهتمام المشاهد العربي وقتها.
انتظر الجمهور، وأنا واحد منهم، تكرر العمل بين سلوم وحاتم، أو حتى بين المؤلف ممدوح العدواني وحاتم، ولكن فاجأنا حاتم في العام الذي يليه بعمل تاريخي آخر، أكثر جودة وأجمل صورة، كان هذا العمل هو مسلسل صلاح الدين الأيوبي، الذي كتب السيناريو له المؤلف د.وليد سيف. ولم يظهر سلوم حداد هذه المرة كبطل للعمل، بل جمال سليمان، إلى جانب كوكبة من الفنانين مثل المغربي محمد مفتاح، سوزان نجم الدين ونجاح سفكوني وغسان مسعود وعبدالرحمن آل رشي وحسن عويتي وجلال شموط وتيم حسن. ولم يكتفِ حاتم بتقديم قطعة من الإبداع تمثلت في الأداء المبهر لطاقم العمل، بل كان العمل كذلك يأتي مصحوبا بمقدمة غنائية بصوت الفنانة أصالة، وأشعار محمود درويش.
إن كان مسلسل صلاح الدين نتيجة الانتفاضة الفلسطينية في خريف 2000، فقد قدّم حاتم عليّ عملا دراميا تاريخيا ولكن هذه المرة عن الأندلس، وهو ما عرف لاحقا بثلاثية الأندلس. في صقر قريش، وكما فعل في مسلسل صلاح الدين، لم يركز العمل فقط على عبدالرحمن الداخل، بل التاريخ ما قبل عبدالرحمن، والعوامل التي أدت إلى ثورة العامة على حكم الأمويين، وبشاعة انتقام العباسيين فيما بعد. وكان ذكاء حاتم ووليد، في جعل المشاهد يتعاطف مع بطل العمل بطريقة يتمنى فيها لو أن كل خصومه يختفون في غمضة عين، ثمّ هذا التعاطف ينقلب إلى حيرة وشك، قبل أن ينقلب إلى غضب وكره في آخر الحلقات! كما أن المشاهد لا يتذكر فقط صقر قريش وخادمه بدر، بل كذلك دور أبي مسلم الخراساني الذي أبدع في تأديته الفنان باسل ياخور.
حاتم كرّر الأمر نفسه لاحقا في العام الذي يليه وهو يقدّم للمشاهد العربي في عام 2003 الجزء الثاني من الأندلسية، الجزء الذي تصدى لبطولته وللمرة الأولى الفنان تيم حسن، الذي من الممكن القول إنه إلى جانب مسلسل الملك فاروق، قدم دور العمر. ربيع قرطبة، أو الملك المنصور محمد بن أبي عامر، تعلق بقلب وذاكرة المشاهد العربي كمثال على أن الحلم حتى وإن كان عظيما، إلا أنه غير مستحيل التحقيق. وقبل أن يختم حاتم أندلسيته، قدم في عام 2004 عمله الدرامي الملحمي، التغريبة الفلسطينية، مقدما لوحة فنية إبداعية تحوي قصة تهجير الفلسطيني من أرضه مستندا على حكاية عائلة واحدة، الشيخ يونس، والذي قدّم دوره المبدع الراحل خالد تاجا، إلى جانب طاقم آخر من المبدعين مثل جولييت عواد وجمال سليمان ويارا صبري وتيم حسن ونادين سلامة.
في عام 2005، يقدم لنا الثنائي حاتم ووليد أحد أجمل المفاجآت في المهرجان الدرامي لعام 2005، وهو الجزء الثالث من الأندلسية، ملوك الطوائف. وتمثلت المفاجأة في وجود نجوم مثل أيمن زيدان وجمال سليمان وسلاف فواخرجي وتيم حسن وسوزان نجم الدين ومحمد مفتاح جنبا إلى جنب. ورغم أن لكتبة التاريخ بالنسبة لهم أن انتهاء عصر ملوك الطوائف يتمثل في دخول المرابطين وأخذهم للملك من ملوكها، إلا الثنائي حاتم ووليد مضيا بنا إلى حتى آخر أيام المعتمد بن عبّاد ملك إشبيلية، تيم حسن، بعد أن بدأ المسلسل بعلاقة الغرام المولعة بين ابن زيدون، جمال سليمان، وولّادة بنت المستكفي، سوزان.
انفصل الثنائي حاتم ووليد بعد هذا العمل، ولم يظهر “آخر أيام غرناطة” الذي تأجل أكثر من مرة أبدا. لكنهما التقيا مجددا في مسلسل عمر، الذي عرض عام 2012. لكن حاتم قبلها كان قد تعاون مع الكاتبة والسيناريست المصرية لميس جابر، وقدما سوية تحفة درامية أخرى، وهي الملك فاروق. وراهن حاتم على نجمه المفضل، تيم حسن، لتأدية دور الملك فاروق، ونجح العمل وحقق نجاحا باهرا في الوقت الذي كان فيه المشاهد العربي منشغلا بمسلسل باب الحارة.
لا أجد تفسيرا لعدم ظهور فنانين سوريين وعرب مع الثنائي حاتم ووليد، مثل رشيد عساف وعباس النوري ومنى واصف وفايز قزق، إلا أن النخبة التي برزت معهم مما لا شك فيه أنها وضعت لنفسها موطئ قدم لاحقا في الدراما العربية، وأصبحت اليوم متصدرة للمشهد الدرامي مثل تيم وباسل خياط ومكسيم خليل ونسرين طافش.
حاتم علي لم يكن مجرد مخرج عادي كان كل همّه تقديم عمل ما للدخول به في السباق الدرامي كل عام، بل كان مخرجا يهتم بالنوع والكيف، وتقديم ما يمثل إضافة حقيقية ويترسخ في أذهان الناس. فقد أعفانا من الأعمال الدرامية التاريخية المصرية، التي تأتي سطحية الإعداد ولا تزيد عمّا تحتويه أو تقدمه المناهج الدراسية. كما لا ننسى اهتمامه بالجانب الموسيقي المرادف لأعماله الدرامية، والتي قادها الموسيقي الرائع طاهر مامللي.
خسارة حاتم علي، هي خسارة عظيمة للدراما العربية ككل، عشرون عاما ملأها حاتم بالأعمال الدرامية المتنوعة، والسينما والمسرح. لعلي لا أبالغ إن قلت إن الدراما العربية الحديثة فقدت أباها ومجددها. مخرج آمن في داخله أنّه طالما لديك الفكرة لإنجاز عمل ما، وتتوفر لديك الأدوات لذلك، فالعمل سوف يتم ويتحقق. حاتم علي مثال يحتذى به في تقديم أعمال درامية ستبقى راسخة أبدا في أذهان المشاهدين لروعة محتواها والإبداع في صناعتها.