ماذا يفعل المرء إن مات في اليوم الذي يبدأ فيه تحقيق أحلامه؟
أصدرت استوديوهات بيكسار، في احتفالات الكريسماس 2020 فيلم “سول” أحدث إنتاجاتها من أفلام الرسوم المتحركة ذات التكلفة الضخمة، والتي تجاوزت الـ 150 مليون دولار، على منصة المشاهدة الرقمية ديزني بلس. الفيلم من إخراج الثنائي بيت دوكتر وكيمب باورز وشاركهم في كتابة السيناريو مايك جونز.
يدور الفيلم حول “جو جاردنر”، مدرس موسيقى في مدرسة متوسطة، مهووس بموسيقى الجاز ويحلم بالاحتراف، وفي اليوم الذي يتمكن فيه من الانضمام لفرقة عازفة الجاز الأسطورة “دوروثي ويليامز”، وقبل أن يحقق حلمه بالعزف خلفها في حفل عام بيوم واحد يسقط في بالوعة صرف صحي عمومية ويفارق الحياة.
الهروب من الحياة الآخرة
يجد جو جاردنر، والذي قام بالأداء الصوتي له الممثل الأمريكي جيمي فوكس، نفسه في عالم برزخي بين آلاف الأرواح التي تستعد لعبور طريق مستقيم بين ملايين النجوم نحو بوابة الآخرة “the great beyond”، أو ما بعد الحياة. يرفض جاردنر الانطلاق نحو البوابة الضخمة المضيئة، يتمكن من الهرب من هذا المصير الحتمي ليجد نفسه في عالم سديميّ آخر. ليس “عالم الـ”ما بعد” العظيم- the great beyond” تلك المرة بل “عالم “ما قبل” العظيم – the great before” والذي يدعونه مجازا “مرحلة/ندوة التأهيل للحياة”.
في عالم “التأهيل للحياة”، حيث يدعى جميع العاملين على إدارته مجازا باسم “جيري” يتم الاستعانة بمرشدين ممن فارقوا “الحياة-life” لمساعدة الأرواح الجديدة في العثور على شخصياتها المميزة تمهيدا لإرسالهم للحياة على الأرض عبر “بوابة الأرض” والتي لا تتخطاها أي روح إلا حين العثور على “شرارتها” وبهذا يكتمل جواز مرورها للأرض.
يصبح جو، والذي يعتقد فريق العمل “جيري” أنه عالم النفس حائز جائزة نوبل “بيورن بورجنسن”، مرشدا روحيا “للروح 22” التي تقوم بأدائها الصوتي الممثلة الأمريكية تينا فاي، تلك الروح التي فشل في إرشادها سابقا في اكتشاف شرارتها كل من “إبراهام لنكولن”، “غاندي”، “والأم تيريزا”.
بعد صراع بين “روح 22″ و” جو” وبعد أن تكتشف حقيقته ورغبته في العودة للحياة يتفقان على مساعدة جو في العودة للأرض بجواز مرور “روح 22” على أن تفلت هي من مصير الولادة في الأرض، ذلك المصير الذي لا ترغب هي فيه وتهرب منه باستمرار.
الحياة في جسد آخر
بمساعدة “مون ويند” الإنسان الحي من الأرض والذي التقياه في المساحة “بين الحسي والروحي” مساحة الانفصال عن الحياة، تلك المساحة التي تحلق فيها الأرواح البشرية حين تشعر “بالحماسة الشديدة” أو حالتها النقيض “الإحباط الشديد”. حيث يحلق الصوفيون حين يستبد بهم الوجد، الفنانون في ذروة إبداعهم وممارساتهم الفنية، المتأملون، وأيضا حيث تتعذب الأرواح الضائعة لإثقالهم أرواحهم بالكثير من الهموم والإحباطات، في تلك المساحة يتمكن جو بمساعدة من “مون ويند” العودة إلى الأرض لكن، وعن طريق الخطأ يصطحب “روح 22” معه.
على سرير المستشفى، يكتشف “جو” أن روحه قد حلت في جسد قط بينما روح “روح 22” حلت في جسده هو. وفي محاولة العثور على “مون ويند” كي يصحح الخطأ ويعيد جو لجسده ويتمكن من اللحاق بحفلته الأولى كعازف جاز محترف مع العازفة الأسطورة “دوروثي ويليامز” ولكي تعود “روح22” إلى عالمها، عالم “ما قبل الحياة” وتتخلص من الجسد المادي الذي لا تحبه ومن تجربة الحياة التي لا تريدها.
تختبر “روح22” في جسد “جو” الحياة وتفاصيلها الصغيرة، طعم البيتزا، خبرة المشي، مياه الاستحمام الساخنة، الانجذاب لصديقة، سحر الموسيقى، والكثير من تفاصيل الحياة البسيطة، تلك التفاصيل التي ندعوها بالـ”عادية” ويختبر “جو” في جسد القط وعبر مراقبته لـ”روح22″ في جسده إمكانيات التواصل مع الصديق الحلاق، مع الأم، وكيف يمكن أن يكون التواصل الإنساني، طعم الحلوى، أشعة الشمس، ضوضاء المدينة. تختبر “روح 22” الحياة وتحبها، وينتبه “جو” إلى الحياة التي عرفها طوال حياته ولم ينتبه لها.
في مديح التفاصيل الصغيرة
ليس جديدا على ستوديو بيكسار تقديم أفلام رسوم متحركة تحمل أفكارا فلسفية عميقة، لكن فيلم “سول” هو الفيلم الأول بعد اثنين وعشرين فيلما انتجوها (وربما من هنا جاءت تسمية “روح22” لتجسد بشخصيتها عن فلسفتهم في إنتاج الأفلام) يدور فيلم “سول” بين الحياة وما بعدها، متنقلا بين عالمين طبيعي وما وراء العالم الطبيعي. يبحث عن معنى الحياة والموت، عن الغاية والهدف من العيش، وكيف يجب أن نعيش الحياة، عمَّ نبحث، وعمَّ يجب أن نهتم ونتمسك في الحياة.
في عالم ما وراء الحياة بمستوياته الثلاث، “عالم ما قبل الحياة” وعالم “ما بعد الحياة” وعالم ما “بين الحسي والمادي” تسيطر درجة أو درجتين من اللون على المشهد، إما الأسود والأبيض ، وإما الأزرق بدرجاته، أما عالم الحياة، حياتنا على الأرض فتمتلئ مشاهدها بالألوان، كل الألوان. في عالم ما قبل الحياة تسيطر نغمات موسيقية رتيبة على المشاهد، أما في عالم الحياة فتمتلئ الموسيقي بالحيوية والإثارة. شخصيات عالم ما وراء الحياة تفتقر للملامح والأسماء، أما شخصيات عالم “الحياة” فملأى بالملامح التي تفيض بالمشاعر والعواطف بتنوعها وتعددها.
عناصر مثل الألوان وحركة الكاميرا ورسم الشخصيات وملامحها وحركاتها، حركات الأصابع واليدين أثناء العزف على البيانو، دقة تلك التفاصيل تنسيك أحيانا أنك تشاهد فيلم رسوم متحركة. ولا يمكن إغفال الموسيقى التصويرية المميزة من تأليف ترينت ريزنور وأتيكوس روس في إضفاء حالة من الحميمية والكمال على العمل الفني؛ فالعمل الفني أو الحياة هي حصيلة التفاصيل الصغيرة والأمور العادية، هي حصيلة كل ما نفعل ونشعر ونختبر، وتلك الحياة هي الغاية والهدف.
في مشهد النهاية، بعد أن استعاد “جو” جسده، وصاحب عازفة الساكسفون “دوروثي ويليامز” والتي قامت بأداء صوتها الممثلة الأمريكية “أنجيلا باسيت” عازفا على البيانو، بعد أن حقق حلمه الذي صبا إليه طيلة عمره، وهرب من الحياة الآخرة ليحققه، لم يشعر كما كان متوقعا بمشاعر فياضة، كأن الأمر كان عاديا، وبإخباره لدوروثي عن مشاعره حكت له حكاية سمكة كان حلمها هو الوصول للمحيط، وبعد أن سبحت أوقاتا طويلة وبينما تسأل عن طريق المحيط أخبروها أن هذا هو المحيط، تعجبت وقالت لهم هذا هو المحيط؟! إنه مجرد مياه أيضا.