الأصل في العمل الثوري الثبات على المبدأ والاستمرارية، فـ الثورة في مفهومها العملي هي الحد من وضع تمادى في انعدام إنصافه للحد الذي يجعل من الشعوب تعتزم على إقامة موازين جديدة تضمن بها حقوقها الإنسانية في ظل مبادئ المواطنة التي تضمنها دولة مدنية تقف على مسافة متساوية من جميع الأيديولوجيات والعرقيات والمجموعات الإثنية والمعتقدات، الشأن الذي يخول للسلطة المفوضة خلق عدالة اجتماعية قائمة في أساسها على مبدأ المواطنة ومتكئة على حقوق الإنسان.
ومن هذا المنطلق تصبح الثورة ضرورة استمرارية الغرض منها لا إسقاط الطغيان فحسب، بل وبناء دعائم الحاضر الذي تم رسم معالمه وخططه سلفا، فالتحصيل الثوري لا يتم بإسقاط دعائم نظام بال، بل بالتجسيد الفعلي لمبادئ ونظام جديد يقوم على ضمان شرعية الثورة وانتصارها.
وما كُتب في التراث البشري المكتوب حول الثورات والتحرر ليس بالشيء اليسير ولا الهين، لكن ومع ذلك تلقى بعض الأعمال الإبداعية رواجا أكثرا نظرا لما تحمله من قيمة في ذاتها تجعل منها مرجعا يستند عليه الإنسان لتشكيل وعي حقوقي وثوري يسمح له بخوض غمار تجربته الخاصة.
تعد رواية مزرعة الحيوان للكاتب البريطاني (جورج أورويل) تجسيدا رمزيا للواقع الثوري من حيث مبادئها وانبعاثها لكن ليس هذا ما يجذب انتباه القارئ لها، بل قيام الثورة المضادة على أنقاض الثورة الشرعية وإعادة موازنة الوقائع الدكتاتورية السالفة مع نكهة شاعرية متسمة بوهم الحرية.
تبدأ الأحداث الثورية وفق رواية مزرعة الحيوان بحديث (الخنزير ميجرو) أمام جمع من حيوانات المزرعة وقيامه في بادئ الأمر بتفنيد كون نظام الطبيعة قائما على أساس من الطبقية الاجتماعية، وحمل بعد ذلك (الخنزير ميجرو) الإنسان كونه المسبب الوحيد للجوع والعمل المرهق، وأقر باقتران المعاناة بمسببها الأصلي (الإنسان) وراح يدعي أن إزالة المسبب يؤول إلى زوال المتسبب به (الظلم الاجتماعي).
وقام هذا الأخير بعقد مقاربة بين ما تنتجه الحيوانات وما تستهلكه وعن منتجاتها فيما تُصرف، وخلص بعد ذلك (الخنزير ميجرو) بالدعوة إلى الثورة التي ستحقق للحيوانات الثراء والحرية، كان يرى حتمية وقوع الثورة بغض النظر على المدة التي ستستغرقها الحيوانات في إقامتها سواء كان أسبوعا، أو عام، أو مائة عام لكن حتمية قيامها مؤكدة.
وختم (الخنزير الثوري) خطابه بتوصية ذوي الأربع بعدم الاقتداء بسبل الإنسان ولا القيام بعاداتهم مهما كانت وجدد الدعوة للسلام ونبذ الاستبداد والتشبث بالوحدة بين بني جنسهم سواء كانوا ضعفاء أم أقوياء بسطاء أم أذكياء.
راحت حيوانات المزرعة بإنشاد أغنية وحوش إنجلترا كأغنية ثورية، وقد تحققت نبوءة (الخنزير ميجرو) وتحققت الثورة وتحررت الحيوانات وأقاموا مزرعة الحيوان ووضعوا دستورا لهم، لكن الداعي لسرد الأحداث الروائية السابقة ليس الاقتداء برمزية ثورة الحيوان وإنما كون الرواية نفسها تبين وبشكل تراجيدي كيف استحالت ثورة الحيوانات في مهب الريح منهوبة واستبدلوا طغيانا بطغيان أشد.
هل يستدعي العمل الثوري الديناميكية والاستمرار؟ وهل يمكن استغلال الشرعية الثورية، لإقامة حكم دكتاتوري؟
إن قيام الثورات ليس بالشيء الاعتباطي وإنما هي حالة من ردود الفعل الطبيعية نتيجة سياسات اجتماعية واقتصادية معايشة تفرض على الشعوب الثورة لإنهاء مثل هذه التصرفات التي تنعكس سلبا عليها، في ظل واقع تعمق الهوة ما بين الطبقات الاجتماعية الموغلة في اتساعها وتمددها، في حين يظل العامل الوحيد الذي يبقى ثابتا في جميع الحركات الثورية في العالم وعلى مر التاريخ هو ”التعليم” والذي يمكِّن من نقد الوقائع المعاشة ووضع فيصل ما بين تلك المفاهيم المترسبة من نظام معين، ومفاهيم جديدة تصبو المجتمعات لإقامتها كدعائم أساسية لواقع جديد.
ونضرب مثالا لذلك بمفاهيم الثورة الاشتراكية التي بزغت لنقد واستئصال رواسب الفكر الرأسمالي الطبقي البالي، ولقد صورت ”مزرعة الحيوان” ذلك بحيث قامت الحيوانات بالتنظير لمبدأ “الحيوانية” لإسقاط الحكم الإنساني بشكل رمزي.
كما أن جميع الأنظمة القمعية تقوم على أكاذيب وإشاعات وجواسيس فكر تكون دعامة لها في الساحة الشعبية ويكون دورها هو ترسيخ وشرح مفاهيم النظام وسياساته وسلوكياته ودعمها، أو خلق ضبابية تجعل من الشعوب عاجزة عن الحكم والفهم والنقد، الشأن الذي يسمح للنظم بتمرير أوراقها، ولا تسقط هذه الأنظمة ولا تقام الثورات من دون استئصال جذري لمثل هذه الأجندة التي أخذت محلها أجهزة استخباراتية وأجهزة إعلامية دعائية في الوقت الراهن، لقد صور “جورج أورويل” ذلك في شخص الغراب الذي كان يصور للحيوانات وجود عالم آخر وراء السماء البعيدة، عالم فيه أكل وشرب وراحة وعدالة أكثر من هذا العالم، بحيث تبرمج الحيوانات بشكل تلقائي على الحلم بالأرض البعيدة بعد الموت بدل المحاولة من أجل تغيير واقعهم.
إن المسار الثوري ليس نقطة واحدة فاصلة ما بين حقبة ما قبل الثورة وما بعدها، وإنما مزيج حلقي يربط العوامل في ما بينها ليشكل مسارا مركبا تتراكم فيه العوامل وتتهيأ من خلالها الساحة للوضع الثوري، وأولى بدايات المسار الثوري تتجسد في تردي أوضاع النظام القائم وضعفه، لأنه لا يمكن للوضع الثوري أن يقوم في ظل نظام قوي متطاول النفوذ، فهشاشة النظم الحاكمة وتشققاتها تمثل الصدع الذي من خلاله يتسلل نور الثورة للشعوب والرعية، وقد جسد ذلك (جورج أورويل في روايته) بصورة رمزية حيث وصف تردي وضع (جونز: صاحب المزرعة).
وكذلك يتبين للدارس في الشؤون الثورية وتاريخ الثورات أن معظم الثورات الحاصلة والناجحة أتت ثمارها بفعل التراجع الفعلي للأنظمة القائمة وتصدع جبهاتها مما يؤدي إلى ضعف في قوتها على التحكم بالرعية وتوجيهها، ويترتب على الحلقة الأولى من المسار الثوري سالف الذكر (ضعف النظام) هو فشل النظام في تحقيق توازن اقتصادي مما يخلق بشكل شرطي إهمال أوضاع الرعية وتدهور أحوالهم ونقص قدراتهم الشرائية مما يتولد عن ذلك إشكاليات اجتماعية متفاقمة ومتزايدة في حدتها وتصعيدها الشأن الذي يقود بالرعية الى مسار آخر من المسار الثوري.
ويتمثل هذا المسار في بدء وتفاقم التصرفات المعادية للرعية للحد الذي يصل بها إلى العصيان الكلي، وهذا ما يفاقم في إضعاف فاعلية النظام القائم الذي تتهاوى أمامه المسارات والحلول مما يقود بالنظام نفسه إلى الدفع نحو مسار آخر من المسار الثوري. ويتجسد هذا المسار الأخير في توجه النظام القائم نحو استعمال وسائل القمع والعنف ضد الراعية مقتنعا بأن ذلك يؤول إلى إطفاء فتيل الثورة، في حين أن ذلك يكون نقطة البداية للثورة بحيث تأخذ الشعوب درب المواجهة مع النظام القائم، وكلما ازدادت الأنظمة قمعا ازدادت العزيمة الثورية وتحولت المواقف الدفاعية إلى أخرى هجومية كبديل عن الدفاع والخنوع، الأمر الذي يقيم دعائم الثورة. ولقد استطاع كاتب رواية (مزرعة الحيوان) في أن يقولب هذه الوقائع في قالب رمزي يسرد فيها عصيان حيوانات المزرعة بعد إهمالهم وتجويعهم بالعصيان على صاحب المزرعة والتهجم عليه وطرده في آخر المطاف.
إن مرحلة ما بعد الثورة تلعب دورا مهما في تحديد المسار الذي ستتخذه الدول والشعوب الثائرة، وغالبا ما يتم عقب الثورة مباشرة تدمير رموز النظام السابق من شخصيات ومؤسسات وهيئات وقنوات إعلامية، وكل ذلك يتم من خلال الإطاحة برموز النظام البالي وتغييرها بشعارات جديدة تكون الثورة هي الرحم الذي تنبثق منه والإرادة الشعبية هي المرجعية لها وذلك من خلال إعلان دستور ثوري يكون نتيجة لحوار ديمقراطي نزيه، ولقد صورت ”مزرعة الحيوان” ذلك حين قامت الحيوانات بتدمير رموز الإنسان وقيامهم بإعلان دستورهم الثوري الذي يحمل اسم وصايا الحيوانية، وأهم ما يميز مرحلة ما بعد الثورة هي النقاط التالية:
- إنتاج قيادة جديدة.
- تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلالية التامة.
- تحقيق مبدأ المساواة القائم على المواطنة.
- الحد من مظاهر الفساد السياسي والمؤسساتي.
- الالتزام بالحقوق والواجبات التي تفرضها قوانين مدنية تحترم مواثيق حقوق الإنسان.
إن الثورة التي لا تحافظ على مبادئها والتي لا يحرص ثوارها على إقامة نظام جديد يجسد مبادئها وكذلك تجنيد الثوار لحماية الثورة، قد يؤدي ذلك إلى سقوطها وإعادة الشعوب إلى حالة أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة وفي ما يلي سنذكر أهم عنصرين يسهمان في إسقاط الثورات:
- احتكار الثورة: إن أهم ما يهدد الثورة هي قيام طبقة معينة باحتكار الثورة والتَسَيُّد عليها على أساس كونهم قادة للثورة ومحركين لها وقيامهم بتنميط الطبقات والإثنيات والعرقيات الأخرى، ولقد استطاع “جورج أورويل” من أن يجسد ذلك من خلال مقاربته في رواية مزرعة الحيوان بحيث أقدمت الخنازير على احتكار الثورة باعتبارهم من يقوم بالمجهود الفكري الإداري بينما الآخرون يقومون بمجرد مجهودات عضلية، بحيث يتم خلق طبقية جديدة باسم الثورة وباسم المصلحة العليا للوطن.
- الصراع على السلطة: من نتائج احتكار الثورة هو تولد الصراع ما بين الطبقات المحتكرة للسلطة، الشأن الذي يتداعى منه عمليات إقصاء وتشويه ممنهج لأطراف ثورية معينة على حساب أخرى لأغراض سلطوية، وكذا اعتماد أسلوب التخويف بعودة الأوضاع السابقة لما قبل الثورة.
ويتواصل المسار الثوري في السقوط نحو دركات أحلك لما قبلها في ما يسمى بتدويل الثورة وعلاقاتها مع الأنظمة الخارجية، بحيث تنفرد الطبقة المنتصرة من الصراع سالف الذكر بالسلطة، ومن ثم تتوجه نحو التدويل وإقامة علاقات خارجية تضمن لها البقاء في السلطة، وهنا ينحرف مسار مصدر الشرعية من الشرعية الثورية إلى الشرعية الشعبية وصولا إلى الشرعية الخارجية، وهذا ما يمثل الانهيار المطلق للثورة. ولقد جسدت رواية مزرعة الحيوان ذلك في عدم اعتراف الخنازير بمزرعة الحيوان، والتوجه نحو مزرعة القصر، والتمرد على قيم الثورة على غرار المساواة ما بين الحيوانات من خلال شيطنة كل المعارضات، وكذا إطلاق إشاعات حول التقاتل والعنف والحروب الأهلية وغيرها.
ومع ذلك يتبلور دور الثورة المضادة والذي فيه يستغل النظام السابق انشقاق وضعف صفوف الثوار في محاولة استرداد الحكم بالقوة بأعنف الأشكال، وهذا ما جسده جورج أورويل في روايته من خلال عودة صاحب المزرعة، لكن غالبا ما تفشل هذه الثورات المضادة بفعل الوازع الثوري، وكذا من خلال محاولة الطبقات المتسيدة باسم الثورة المحافظة على السلطة وجسد ذلك أورويل في محاولة الخنازير بالتسديد على باقي الحيوانات باسم الثورة.
وهذا ما يجعل من سارقي الثورات مجرد جماعات شر تقوم على التقاتل الدائم في ما بينها على السلطة مما يخلق الانشقاقات الداخلية وكذا تفشي كل من الفساد والعمالة وصولا للخيانة العظمى، مما يجعل من الأنظمة الفاسدة الجديدة التي تحمل شعار الثورة إلى العمل على استمالة مشاعر الشعوب واللعب على أوتار الثورة والفداء وكذا التهديدات الخارجية وبرمجة خطط تنمية وبناء زائفة فقط من أجل امتصاص غضب الشعوب.
لكن هذا المسار لا يتمخض منه سوى الانقلابات العسكرية حيث تتفرد الجهات التي تحتكر قوة السلاح بالسلطة وذلك لاعتبار الشرعية الشعبية منتفات في أساسها وتكون هذه الانقلابات موجهة ما بين الطبقات التي انصرفت عن الشرعية الشعبية نحو شرعيات واهية مغالية في تنميطها للشعوب وتحديها لهم، وجُسد ذلك في مزرعة الحيوان في الصراع ما بين خنزيرين حول السلطة، ومن ثم يتمخض واقع جديد يعرف بالديكتاتورية الثورية، وهي الحكم الشمولي باسم الثورة والذي غالبا ما يُفرض بقوة السلاح، ويدعم ركائزه كل من (الجهلاء، المازوشيين، والمستفيدين) وذلك من خلال أدلجة إعلامية وتوجيه جماهري ينافي الحياد والديموقراطية.
وهكذا تتوصل الثورة إلى آخر مسار لها والذي يتمثل في التدخل الخارجي، وسيطرة الأنظمة الخارجية على مقدرات الشعوب وحريتها مقابل إبقاء الأنظمة الديكتاتورية المترسخة بقوة السلاح والمدعية بالثورية، في ظل إرهاص حقوقي وقمع أمني وتجويع اجتماعي.
ومن هنا تبرز كل من أهمية الاستمرار في المسار الثوري باعتباره مجالا مفتوحا لا يعرف الركود من أجل غلق كل منافذ الثورات المضادة أو استحداث أنظمة قمعية جديدة، وكذا التفطن لدور وأهمية الشعوب في حماية ثوراتها وديمقراطيتها، لأن الشعوب وحدها هي القادرة على بناء الدول وهي الوحيدة القادرة على حماية بلدانها، كما أنها تمثل القوة الأكبر لدولها.
نظرة من الواقع الذي نعيشه
استمتعت كثيرا
شكرا لك دكتور