الفن الشعبي في تونس ليس مجرد أداة تعبير للفئات الشعبية التي تعيش على الأطراف وفي الهامش الذي لا تصله صالات السينما وقاعات الأوبرا وعروض الباليه وحسب.
إنه شكل متكامل لفن العيش، إنه تعبير يفصح فيه هذا الهامش عن كينونته، ويعبر بكامل ألقه عن وجهة نظره للأشياء ويفصح عن رؤيته للحياة ويعبر بأهازيجه عن الفرح والخوف ويحتفي بالأفراح والمآتم والحزن والحب بشكل آخر، شكل حقيقي يتماهى مع طبيعته ومحيطه في شكل إيقاع.
إنه فن لا يعرف الاغتراب عن محيطه إنه مقترن مع بيئته ويشبه أصحابه في أصالتهم ويخرج من أرواحهم بطريقة تتقاطع فيها المشاعر الإنسانية مع الطبيعة والمحيط وفلسفة الناس في العيش وفي فن صناعة الحياة على تخوم الفقر والتهميش .
في ثمانينات القرن الماضي غزا تونس كما جل الأقطار العربية ما يسمى بالحداثة المعطوبة، وهي تلك الحداثة التي تتنكر لنفسها وجذورها، تلك التي تعتبر كتابات فيكتور هيغو أرقى من كتابات البشير خريف، والتي تعتبر أغاني جاك بريل أرقى من أغاني الفولكلور التونسي القديم، وأن صوت أديت بياف أرق من صوت أم كلثوم، والتراث الكافي (نسبة لمدينة الكاف التونسية)
وهكذا أُلصق هذا التراث بسقط المتاع والرعاع والنزوح والدرك الأسفل من المجتمع (كأنه تهمة أو مسبة)، أما الفن الفرنكوفوني والحديث فهو لصفوة القوم سكان الحاضرة والمثقفين وترفع هذه الصفة عن كل من يردد هذه الأشكال الغنائية ويستهلكها (أي الغناء التراثي).
وهنا تجدر الإشارة أنه لا شيء يشبه المواطن التونسي كتراثه الغنائي، فلكلور متنوع وثري وجميل كلمة ولحن يعبق برائحة السخاب (نوع من الحلي التونسي) والبخور وبرائحة الأرض، غناء محبب تغنيه النسوة حين يطول بها غياب “الحبيب” فتنشد له “روح لوكرك يا الغريب وجالي، عمرت وكر الناس ووكرك خالي”.
إنه عبق المرأة الحقيقية التي رغم بداوتها كانت قادرة على الموت من أجل “حب العمر” الحقيقي فتفضله عن الزواج العائلي، فتنشد:
"بتي سهرانة يا عيني، ونا نموت ولا زواج الهانة ياعنيني"،
وهنا تجدر الإشارة بأن صورة المرأة في الفلكلور كانت ثائرة حرة تتزين بالحلي والسخاب والوشم الأمازيغي عكس صورتها فيما سمي بفن الحداثة الذي كرس صورة نمطية عن المرأة المدجنة عبر الأغنية التجارية الهابطة التي تسلعن المرأة وتختصرها في وجه وجسد جميل بمعايير ما يباع في الأسواق من موضة، عكس ما نادى به رواد الحداثة حينها.
إن الأغنية الشعبية تعويذة البعد والألم والأمل حين ينصهر في القلوب ليخرج في شكل مغنى.
إنه منبع الفتوة التي تُعلي كلمة السيف وتُعلي راية الفتى الذي يموت في سبيل الوطن كما قرأناه في قصيدة الدغباجي أو “الخمسة الي لحقو بالجرة” التي تحكي ملحمة معركة من أعرق المعارك التي قادها الفلاڨة التونسيين ضد المستعمر الفرنسي، ورغم استبسالهم في الدفاع عن أرضهم فقد استثناهم التاريخ الرسمي الذي سطا عليه من التفوا على السلطة فيما بعد، لكن الفن الشعبي خلّد هذه المعركة وغيرها من المعارك وتناقلتها الحناجر على مدى عقود من الزمن ولم تستطع عصا التاريخ الرسمي الغليظة أن تسطو عليها أو تمحيها من الذاكرة الشعبية.
إنه أكثر من مجرد فن، إنه تاريخ متكامل من الحكي والأساطير والسرد، والتفاصيل التي تحجز لنفسها مكانًا في ذاكرة الشعوب وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل رغم أن أغلبها لم يكن مسجلا إلى وقت جد قريب فقد تناقلته الذاكرة عبر الحكي والحفظ.
كنت في الثانية عشر مثلا حين حكت لي أمي عن قصة “البية”، بعد ما سمعت تلك الأغنية مئات المرات في أعراسنا وأفراحنا والتي عرفت بأغنية “كبي الفولارة”، كتمت دموعي حين روت لي قصة الزوج الذي أفاق في صبيحة يومٍ ما على أن زوجته وابنة عمه تركت كل شيء وراءها من مال وجاه وبذخ لتلحق برجل حياتها، ورغم هذا الجرح الغائر الذي قد يصيب رجولة أي رجل شرقي في ذلك الوقت إلا أنه أنشد لها هذه القصيدة واضعا رجولته و”شرفه” على المحك حينها لكنه خلد هذا الجرح الغائر في شكل أغنية تغنى كل حين رغم الاختلاف المتعلق بالحكاية الحقيقية لهذه الأغنية، إلا أنها لا تخفي الوجع الذي يعبق في أركان حنجرة من يغنيها ويتحسس معانيها.
نراه أيضا في أغنية “الجرجار” التي تؤرخ لإعدام سبعة شبان على يد المستعمر الفرنسي حيث أقيمت عام 1912 محاكمة للمشاركين في ما يعرف بـ”أحداث الجلاز” وهي أحداث رفض التونسيون امتلاك السلطة الفرنسية للأراضي التونسية وأسفر عن هذه الأحداث مواجهة حوالي 3000 مقاوم تونسي للسلطة الفرنسية (سنة 1911) فحكم على 7 منهم بالإعدام وعلى 18 بالأشغال الشاقة وقد نصبت السلط الاستعمارية (الديمقراطية جدا) المقصلة لأوّل مرّة في تونس للوطنيين في ساحة باب سعدون ونفّذت حكم الإعدام في مجموعة نذكر منهم الشاذلي القطاري والمنوبي بن علي الخضراوي “شهر الجرجار” وبقيت الأغنية في الذاكرة الشعبية كتأريخ لعملية الإعدام الشنيعة التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال، ويردّد التونسيون “مناحة أم الجرجار” التي حضرت فصل رأس ابنها عن جسده في مشهد رهيب.
هكذا كانت الأغنية الشعبية في تونس تؤرخ لنفسها ولأبطالها وقصص شخوصها وترسم فصلا آخر هامشيا في التاريخ الى جانب التاريخ الرسمي، إنه تاريخ الهامش، تاريخ المنسيين و”الزوفرية”، تاريخ رُسِمَ وكُتِبَ خارج دائرة السلطة ومراكز القرار، تاريخ يصنع نفسه بنفسه ولذاته، إنه تاريخ ينبت من الأرض الملطخة بالدم المخضب بالوجع وبالتضحيات، إنه تاريخ لا يكتب في أعلى هرم السلطة بين الحرير الفاخر والرخام الأبيض وقوارير النبيذ، إنه تاريخ الحقيقة التي تشبهنا، تشبه هذا الشعب وحده.
هكذا يعبر الفن الشعبي عن نفسه، تأريخ للكلمة الحرة وللمشاعر الحرة، تمثّل حر لشكل الفرح والحزن والموت كما يراه الهامش حرا من كل تصور ومن كل قولبة مسبقة.