الحرب اليمنية ، وعليها، معقدة ومركبة ومتداخلة ما بين الأهلي والإقليمي والدولي، وأطرافها متعددة. في المستوى الأهلي وصلت أزمة النظام ذروتها بعد حرب 1994 بين الشمال والجنوب، وبعد حروب صعدة الستة منذ العام 2004.
كانت حرب 94 ضد الجنوب وحروب صعدة هروباً من أزمات النظام، وعجزه عن بناء كيان وطني، وشاهد تقصيره عن حل الأزمات الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة، إضافةً إلى صراعاته الداخلية العسكرية بين علي عبد الله صالح – رئيس الجمهورية، وعلي محسن- قائد اللواء الأول مدرع، وبين الجناح العسكري والقبلي المتمثل في أولاد الشيخ عبدالله الأحمر، وسياسياً بين المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم)، وحليفه التجمع اليمني للإصلاح الذي انتقل إلى المعارضة مكوناً مع أحزاب أخرى ما سمي بـ “اللقاء المشترك”.
الحرب ضد الجنوب وصعدة عمقت الأزمة، وفاقمت الأوضاع، وأججت الصراعات، وأنهكت النظام. ثورة الربيع العربي في اليمن 11 فبراير 2011 عرت النظام الهش، وأسهمت في إسقاطه.
احتدم الصراع أكثر فأكثر داخل الحلقة الجهنمية الضيقة للحكم: صالح، ومحسن رمزا الحكم العسكري، وبين العسكر وحلفائهم القبائل (مشايخ قبيلة حاشد)، ودارت حروب صغرى وثأرية: (حرب الحصبة) داخل صنعاء، وتفجير مسجد دار الرئاسة كرد على قصف منزل الشيخ عبدالله الأحمر، ودارت حروب في مناطق عديدة في الحيمتين وأرحب ونهم والقفر وفي العديد من المناطق النائية.
كان مؤتمر الحوار الوطني الشامل بمثابة غطاء سياسي للصراع العنيف بين “الإخوة الأعداء”. تمكن علي عبدالله صالح بدهاء شديد من نسج علاقة وتحالف مع أنصار الله الحوثيين؛ فتمكنا من إلحاق الهزيمة بقوة علي محسن الأحمر في عمران 2014، وكان استيلاء أنصار الله الحوثيين على جيش علي محسن الموالي للإصلاح وللجناح القبلي مشايخ حاشد- بداية الهزيمة الحقيقية لمحسن وللإصلاح وأبناء الأحمر؛ وهو ما أفسح السبيل أمام انقلاب 21 سبتمبر 2014، والذي قاده بقايا حيش علي عبد الله صالح والحوثيون، وكان التتويج العملي لمعركة عمران، وتلكم هي البداية الحقيقية للحرب الأهلية المستمرة حتى اليوم؛ فما إن انفجرت الحرب الأهلية حتى رمى الصراع الإقليمي الإيراني والتحالف الذي تقوده السعودية مدعوماً بالسند الدولي الأمريكي البريطاني الفرنسي وآخرين- بثقله في المعركة.
أما الأطراف الداخلية، فالطرفان الأساسيان في المواجهات في شمال اليمن هما التجمع اليمني للإصلاح ومعه مجموعة من الجيش المنقسم غير الموالي للرئيس السابق علي عبدالله صالح ومجاميع قبلية لبعضها ارتباطات بالسعودية وبعضها الآخر مرتبط بقبيلة حاشد والإصلاح، ويسيطر هذا التواجد على مأرب وأجزاء من الجوف وتعز وأجزاء من البيضاء ورداع، ولهذا الطرف تحالفات مع أحزاب اللقاء المشترك: الحزب الاشتراكي، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.
أما الطرف الثاني في الحرب الأهلية، فهم أنصار الله الحوثيين، ويعتمدون بالأساس على قبائل صعدة وحجة ومحيط صنعاء وذمار وإب ويريم وأجزاء من مأرب والجوف والبيضاء وأجزاء من تهامة وتعز، ويتلقون الدعم بالأساس من إيران وحزب الله في لبنان وبعض الشيعة في العراق، وله تحالفات داخلية مع بعض العسكر والقبائل المعادين للسعودية ولمشايخ حاشد والإصلاح؛ وهم الطرف الأقوى في الشمال.
أما أوضاع الجنوب، فبرغم الخلاص من الوجود العسكري لصالح والحوثيين إلا أن الجنوبيين منقسمون؛ فالشرعية، وهم جماعة الرئيس عبد ربه منصور المدعوم من قبل التجمع اليمني للإصلاح وبعض أطراف المؤتمر الشعبي وبعض قبائل أبين وشبوه – ينحصر وجودهم في هذه المناطق، ويلقون بعض الدعم من العربية السعودية، بينما يسيطر الانتقالي (الحركة الانفصالية) على عدن ولحج والضالع، ويلقون الدعم القوي من الإمارات العربية المتحدة (الطرف الثاني في التحالف).
وهناك وجود عسكري لجماعة علي عبدالله صالح يقوده ابن أخيه طارق محمد عبدالله صالح يعسكر في بعض مناطق تهامة في المخا والخوخة وحيس وبعض أرياف تعز، وهو ضعيف، ونفوذه ومناطق تواجده محدود، ويتلقى الدعم من الإمارات.
مع تصاعد الحرب واتساع رقعتها وتزايد كلفتها في العدة والعتاد أصبح الصراع الإقليمي السعودي الإماراتي- الإيراني هو الأساس، بحيث أصبحت الأرض اليمنية شمالاً وجنوباً ميدان قتال، واليمنيون مأجورون في حرب بالوكالة، وأصبح الصراع الإقليمي المدعوم دولياً هو الأساس الآن في استمرار الحرب وإطالة أمدها، وكانت إدارة ترامب – لأسباب تتعلق ببيع السلاح، ولأغراض التطبيع وخطة صفقة القرن- تقوم بدعم وتشجيع استمرار الحرب.
لكل طرف من أطراف الحرب أهدافه ومراميه، وفي حين توخي كل طرف من أطراف الحرب الأهلية حسم الصراع لصالحه، والتفرد بالحكم مستعيناً ومستفيداً من الدعم الإقليمي والدولي؛ فإن أطراف الصراع الإقليمي لها أهدافها ومطامعها الخاصة؛ فالإمارات العربية والسعودية يهدفان إلى الاستيلاء على اليمن وتفكيكها وإخضاعها للسيطرة والنفوذ، و في حين تطمح السعودية في تأمين خاصرتها الجنوبية، وأن يكون لها الكلمة الفصل في الجوف ومأرب وحضرموت والمهرة بحيث تتمكن من مد أنبوب النفط إلى البحر العربي- فإن الإمارات تطمح إلى الاستيلاء على الموانئ والجزر اليمنية، وأن تكون سقطرة محمية إماراتية، أما إيران، فهدفها الأساس إضعاف السعودية، والقضاء عليها باستمرار الحرب في اليمن، وتحقيق السيطرة في الخليج، ومد نفوذها إلى مناطق الوجود الشيعي كنظام طائفي دعوي، وجوهر النزوع الإمبراطوري الفارسي حاضر بقوة لكنه متوارٍ خلف الدعاوى الدينية.
وهناك الداعم الدولي أيضاً الرامي لإطالة الحرب تقوده أهدافه الاستعمارية؛ فأمريكا ترامب كانت تجارة السلاح والتطبيع أساسًا بالنسبة لها، أما بريطانيا، فحريصة على فصل الجنوب واستعادة النفوذ، وهناك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وكندا تدعم الحرب لمنافع وعوائد من السعودية بالأساس والإمارات، كما أن هناك أطرافاً إقليمية تدخل على خط الصراع كتركيا وقطر، وهما يدعمان جناحاً في الحركة الإسلامية، وهو التجمع اليمني للإصلاح، ولهذا الطرف وجود في تعز وشبوة، ويمكن أن يمد نفوذه إلى مناطق أخرى، ويمكن لسلطنة عمان أن تفيد من علاقاتها بالمهرة ومناطق في حضرموت أن تتحرك في مواجهة التواجد الإماراتي، كما أن الروس يسعون في أن يكون لهم حضور خصوصاً في الجنوب.
تتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وتتداخل مع القوى الداخلية المتصارعة؛ لتكون أكثر فاعلية وتأثيراً من أدوات الحرب الأهلية.

بدء الحرب ليس كإنهائها، فهناك مثل عربي يقول: دخول الحمام ليس كالخروج منه؛ فعندما تفجرت الحرب قبل ستة أعوام كان كل طرف يعتقد أن بإمكانه حسمها خلال أسابيع أو أشهر، وربما أن التفوق العسكري والتحالفات الداخلية التي تملكها العربية السعودية أغرتها مع التحالف الذي تقوده بالحسم الخاطف والسريع، ولكن حساب البيدر غير حساب الحقل؛ فبعد ستة أعوام لم يكن باستطاعة أي طرف من الأطراف سواء الداخلية أو الخارجية أو الإقليمية حسم المعركة أو التحكم بمسارها.
النظامان الطائفيان القروسطيان في الرياض وطهران كانا يهربان إلى الحرب من أزماتهما الداخلية؛ فنظام الآيات الآتي من احتجاجات شعبية سلمية لا يزال يعيش تحت وطأة وتهديد المظاهرات والاحتجاجات السلمية التي أسقطت سادس جيش في العالم، وجلس الآيات بفضلها على كرسي الحكم، أما السعودية، فابن سلمان كان يعد للانقلاب على حكم التراتب في الأسرة؛ ليرث الحكم خارج إطار البيعة، ولقي من الرئيس ترامب السند والدعم، وتطمح الإمارات إلى بناء إمبراطورية من الجزر والموانئ اليمنية بدعم أمريكي وإسرائيلي، ولا يدرك الجميع أن اليمن رقم عصي وصعب يستحيل ابتلاعه أو اقتلاعه، وله خبرة هائلة في مقارعة وقهر الإمبراطوريات كالرومان والأحباش والأتراك البرتغاليين والبريطانيين.
أخيراً اتضح أن الحسم العسكري صعب وشبه مستحيل، وأن الحل السياسي فيه قدر من الاستعصاء بسبب تصلب المواقف، وتعدد أطراف الحرب، وتظل المخاوف من النتائج المترتبة على ذلك تطل برأسها، وقد يكون وهم تحقيق انتصار هنا أو هناك لا يزال يعشعش في مخيلة بعض الأطراف؛ فهناك معركة محتدمة في مأرب، واحتمالات تمددها إلى مناطق أخرى ومنها تهامة واردة، وهذا يعكس عدم الرغبة الجادة في الحل السياسي، وأن الاستفادة من استمرار الحرب وإطالة أمدها هو الاحتمال الراجح، فكثرة مليشيات الحرب، وتزايد أعداد المستفيدين منها، وغياب بوادر لإنهاء الصراع الإقليمي الإيراني- السعودي تحديداً- كلها مؤشرات سلبية تذكي استمرار المواجهات والحرب.
يأتي التعقيد أيضاً من تعدد أطراف الحرب واختلافاتهم حتى بين المتحالفين أنفسهم، وحتى داخل الطرف الواحد؛ فهو لا يمثل وحدة الموقف في رؤية الحل السياسي؛ فما تريده السعودية غير ما تخطط له الإمارات، وتحالفات السعودية مع الإصلاح ومجموعة المؤتمر الموالية للرئيس عبد ربه منصور لا يجد الرضا من دولة الإمارات التي تعمل على الإطاحة بعبد ربه وإقصاء الإصلاح نهائياً، وهي في المقابل تدعم الانتقالي الجنوبي الداعي للانفصال، وإيران فيها أطراف عديدة: ولاية الفقيه، الآيات، والحرس الثوري، وكل طرف يدعم أطرافاً معينة.
مع تزايد الضعف الداخلي، وارتهان أطراف الحرب الأهلية لإمدادات وتمويل الطرف الإقليمي، وتسليم أوراقه للممول والداعم – تصبح اليمن -كل اليمن- رهينة للصراع الإقليمي، ويكون من يقرر استمرار الحرب أو إيقافها هو الأطراف الخارجية التي لا تحترم إرادة اليمنيين ولا سلام اليمن ووحدتها.
الحرب في اليمن، وعليها، حولت اليمن إلى أسوأ كارثة في العصر، والأخطر أن تتحول اليمن المنكوبة رهينة بيد الأطراف المتسببين في نكبتها.
التوجه الأمريكي مهم، وفيه استشعار بخطورة ما يجري، ولكن خطله أنه يُطرح من بوابة الصراع الإيراني- السعودي، وتقوم اليمن كأداة تفكيك للأزمة القائمة بينهما، وبين إيران وأمريكا وإسرائيل.
يبقى الرهان على الإرادة اليمنية العامة؛ فالحل الأمريكي الآتي عبر حل الصراع الإقليمي الإيراني- السعودي، والإيراني- الأمريكي في ظل غياب اليمنيين سيكون منقوصاً وملبياً لمصالح هذه الأطراف ومطامعها؛ ومطامعها أكبر من الاستجابة للإرادة اليمنية.
الفرصة الآن أمام السلام وأمام الحل السياسي أوسع، ومسئوليتنا كمواطنين يمنيين تضرروا بالحرب، ودمرت بلدهم، ومزقت وحدتهم، ونهبت ثرواتهم، وسفكت دماء أبنائهم، ودمرت بنيتهم الهشة والضعيفة لصالح صراع إقليمي لا ناقة لهم فيها ولا معزة، ووظفت الحرب عليهم؛ لكي يعبر قطار التطبيع وصفقة القرن على جثة كيانهم.
الاحتمالات الآن في ظل التوجه الأمريكي الجديد قد تكون كالآتي:
- الاستجابة للضغط الأمريكي، والقبول بحل سياسي ترضى به السعودية والإمارات وإيران، وهو احتمال مرهون بحل أزمة النووي الإيراني، والصراع في الخليج، وقد يأخذ مدًى طويلاً.
- أن تفشل المساعي، وتتصلب الأطراف المختلفة، ويظل الحال كما هو- حالة كر وفر.
- الاحتمال الثالث، وهو الأخطر: أن تجري تسويات في المستوى الإقليمي والدولي، ويُترك اليمنيون وشأنهم لتتحول الحرب إلى حرب أهلية منسية أو متروكة شأن الحروب في العديد من البلدان الإفريقية ومنها الصومال، والمأساة أن غياب طرف يمني داخلي قوي ومؤثر هو ما يفسح السبيل أمام تغول وتفرد القوى الإقليمية والدولية للتصرف في الشأن اليمني بدون مشاركة حقيقة من أهله.