ملخص الدراسة
تنطلق إشكالية الدراسة من خلال مشهد وثائقي؛ يتمثل في تنامي استخدام التكنولوجيات الحديثة وشبكة الإنترنت من قبل المجتمعات، خاصة الفئات الشابة منها، ومدى انعكاس ذلك على حاجة المجتمعات للمكتبات العامة في كونها مؤسسة تعنى بتوفير مصادر المعلومات وتمكين المجتمعات من الولوج للفضاءات الثقافية المتعددة، و لمعالجة هذه الإشكالية التي يصبو إلى استشراف مدى إمكانية الانترنت وخدماتها في تحجيم دور المكتبات العامة ، ولتحقيق ذلك اعتمدنا على المنهج الوثائقي القائم على تحليل الإنتاج الفكري المكتوب، وتوصلت الدراسة إلى:
- الإنترنت لا تشكل بديلا عن المكتبات العامة
- التكنولوجيا الحديثة وشبكة الإنترنت، كان لها تأثيرات عميقة وجلية في المكتبات العامة.
مقدمة
تعد المكتبات بشكل عام المرفق الأساسي في تنمية وتطوير المعرفة والثقافة لدى الأفراد والمجتمعات، ومن أجل تحقيق ذلك أولت الشعوب والدول على مر العصور أولوية لاستحداثها بحيث يمكن لجميع أفراد الشعب الاطلاع واستخدام مصادرها، وذلك كثورة محتشمة على الاحتكار الذي كان يجعل من حق الاستفادة من مصادر المعرفة مقتصرا على فئات بعينها.
وكان للمتنامي المتزايد لاستخدام الإنترنت في العقود القليلة الماضية بليغ الأثر في العديد من القطاعات والمهن المختلفة، فضلا عن تأثيراتها على الطبيعة الإنسانية لاسيما فيما يخص أنماط استهلاكه للمعلومات وطرائقه في البحث عنها، الشأن الذي جعل من المختصين في المكتبات والمعلومات يطرحون تساؤلات جادة على المستوى الأكاديمي فيما يخص مستقبل المكتبات العامة في ظل الاستخدام المكثف والمتزايد للإنترنت.
وفي كتابه المعلومات الإلكترونية والإنترنت في المكتبات، طرح أستاذ المكتبات والمعلومات بجامعة منتوري قسنطينة “أ.د. عبد اللطيف الصوفي” مجموعة من التساؤلات في غاية الأهمية فيما يخص مستقبل المكتبات في عصر الإنترنت “هل ستختفي المكتبات العامة من الوجود بعد أن تصبح ثورة الإنترنت حقيقة واقعة في كل مكان؟، ويصبح كل إنسان بمقدوره تحصيل المعلومات، التي يريد، من أي مكان، وبدون حدود وبنفسه ولنفسه، وإذا كان الأمر كذلك فمتى ستختفي هذه المكتبات من الوجود؟” (صوفي، ص.96، 2001).
وبذلك فإن دلالات هذا السؤال المعبر عنه منذ ما يزيد على عشرين سنة والذي يعبر عن نوع من الحيرة والدهشة لدى المختصين في المكتبات والمعلومات تشير إلى عدم وجود رؤية واضحة حول مدى قدرة المكتبات العامة على الحفاظ على مكانتها في الساحة الثقافية كمصدر من مصادر المعلومات وخدماتها، وكذا تلكم الأدوار التي سيتوجب عليها أداؤها إن لم تؤل للزوال.
إشكالية الدراسة
تنطلق إشكالية الدراسة من خلال مشهد وثائقي؛ يتمثل في تنامي استخدام التكنولوجيات الحديثة وشبكة الإنترنت من قبل المجتمعات، خاصة الفئات الشابة منها، ومدى انعكاس ذلك على حاجة المجتمعات للمكتبات العامة في كونها مؤسسة تعنى بتوفير مصادر المعلومات وتمكين المجتمعات من الولوج للفضاءات الثقافية المتعددة، وبذلك فهل التكنولوجيات الحديثة والإنترنت تشكل بديلا عن المكتبات العامة؟ بحيث يمكن الاستغناء عنها.
وبناء على ما سبق، جاءت هذه الدراسة لمعالجة هذه الإشكالية من خلال الإجابة على التساؤلات التالية:
- هل تشكل شبكة الإنترنت بكل تطبيقاتها وخدماتها بديلا عن المكتبات العامة؟
- ما تداعيات الاستخدام المكثف للإنترنت على طبيعة سلوكيات الباحثين عن المعلومات؟
- ما الأدوار الجديدة التي يتعين على المكتبات العامة مجاراتها لضمان خدمات متميزة للمواطن الرقمي؟
أهداف الدراسة
تهدف الدراسة إلى الإجابة على التساؤلات السابقة لكشف طبيعة العلاقة القائمة ما بين المكتبات العامة وعصر الإنترنت، وكذا تعريف القراء بالمكتبات العامة والخدمات التي تقدمها للمستفيدين منها، وأدوارها المحتملة في العصر الحالي، وكذا استشراف مدى قدرة الإنترنت وخدماتها على تحجيم دور المكتبات العامة وإلغائها.
منهج الدراسة
تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوثائقي القائم على تحليل الإنتاج العلمي المكتوب، ونقده، لأغراض التوصل إلى استنتاجات من شأنها الإجابة على تساؤلات الباحث.
الجانب النظري للدراسة: المكتبات العامة وعصر الإنترنت
1. المكتبات العامة
تشكل المكتبات العامة فضاء ثقافيا على درجة عالية من الأهمية، إذ تتمثل في كونها مؤسسة ثقافية قاعدية، تضمن للمواطنين الولوج إلى الفضاءات الثقافية المتعددة، وتعمل على تنمية المقروئية لدى الأجيال الناشئة، فضلا عن سعيها لتقديم خدمات معلوماتية لكافة الشرائح الاجتماعية المتباينة في مستوياتها الثقافية والاجتماعية، على قدر كبير من الحيادية والمساواة، وبذلك فهي تمثل أحد أبرز آليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية لدى المجتمعات والبلدان.
1.1 تعريف المكتبات العامة
المكتبة العامة واحدة من المؤسسات العامة التي أوجدت لخدمة المجتمع، من خلال أرصدتها المتنوعة والمتجددة، وموظفيها الذين يعملون باستمرار على أن تكون المكتبة بخدماتها وأنشطتها في مستوى تطلعات أفراد المجتمع المحلي، وقد حاول الكثير من المنظرين وضع مفهوم واضح ومحدد للمكتبة العامة، حيث عرفها الباحث محمد فتحي عبد الهادي في كتابه المكتبات العامة بأنها “مؤسسة ثقافية تقدم خدماتها المكتبية والمعلوماتية لجميع أفراد المجتمع في منطقة معينة، وتساندها مخصصات مالية عامة أو خاصة” (عبد الهادي، ص. 1، 2001)، وقد قصر هذا التعريف دور المكتبة العامة على تقديم الوثائق والمعلومات، عرفتها كذلك المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سنة 2003 على أنها “المركز المحلي للمعلومات الذي يتيح كافة أنواع المعرفة والمعلومات للمستفيدين منها، وهي مؤسسة ثقافية اجتماعية مكملة للمدرسة ولها دورها الأساسي في خدمة المجتمع”.
وبالتالي فالمكتبة العامة تقدم خدمات عديدة للمجتمع، وهي تكَمل دور بعض المؤسسات الأخرى كالمدرسة، لأنها تخدم جمهورا أوسع فهي لا تضع شروطا لاستعمالها، لأنها “مؤسسة اجتماعية وثقافية وتربوية لها هدف سام هو جمع وحفظ وتنظيم تراث الإنسان الثقافي والحضاري، وجعله في متناول أيدي أفراد المجتمع، وذلك بغية الارتقاء بمستوى هؤلاء الأفراد فكريا، وثقافيا وتربويا من خلال ما توفره من أوعية معلومات، وما تقدمه من خدمات، وما تقوم به من أنشطة هادفة، وهي مدعومة من الدولة أو المواطنين أو منهما معا، وملزمة بتقديم خدماتها لجميع فئات المجتمع بصرف النظر عن الجنس أو السن أو اللون أو العقيدة أو المستوى التعليمي أو الثقافي، وتكون معظم خدماتها المتاحة لهذه الفئة مجانية”، وبذلك فهي مكتبة الشعب أو مكتبة الجميع لأنها تقدم خدماتها بلا تفرقة على الإطلاق.
ويعرفها حشمت قاسم في كتابه مدخل لدراسات المكتبات وعلم المعلومات (1990) إن المكتبة العامة في المجتمع تعد “جامعة للشعب تهب العلم حرا لكل من يقصدها”، فهي بذلك مورد ومفتاح للمعرفة على المستوى المحلي، وأداة أساسية للتعليم المستمر، لاتخاذ القرار السليم، وللتطوير الثقافي للفرد والجماعات الاجتماعية. وليست المكتبة أداة فاعلة داخل المجتمع فحسب وإنما هي “قوة حية في خدمة التربية والثقافة والعلم، ووسيلة أساسية لتنمية العقول على الدفاع عن السلام والمشاركة في الرقي الروحي للإنسانية”.
والمفهوم الجوهري الذي نستخلصه هو أنها مؤسسة فريدة من نوعها تسعى لتنمية الفكر والروح من أجل تحقيق السلام العالمي والعيش في ظروف جيدة من العلم والتربية والثقافة مما يوفر للفرد والإنسانية ككل الرفاه الاجتماعي، الثقافي والاقتصادي.
2.1 خصائص المكتبة العامة
وانطلاقا من التعريفات السابقة يمكننا أن نحدد للمكتبة العامة خصائص هي:
- المكتبة العامة تقدم خدماتها لجميع فئات المجتمع دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو غير ذلك، وهي تقدم خدماتها لجميع الأعمار، ولجميع المستويات الثقافية والتعليمية،
- المكتبة العامة تقدم خدماتها بالمجان بصفة عامة، بصرف النظر عن مخصصاتها المالية ومصادرها سواء كانت عامة أو خاصة،
- المكتبة العامة تتوفر على أرصدة علمية ثقافية تربوية، لكنها ليست متخصصة إلى حد كبير،
- أن المكتبة العامة ترتبط بالبيئة التي توجد فيها، سواء كانت مقاطعة كبيرة أو مدينة أو حيًّا، مما يقتضي ضرورة الاهتمام باحتياجات تلك البيئة وخصوصياته،
- خدمات المكتبة العامة ليست محدودة في الإفادة من أرصدتها فقط، وإنما تتصل كذلك بتنشيط الجو المحلي للمجتمع وتفعيله، وتحقيق الانسجام الاجتماعي.
3.1 أهداف المكتبة العامة
تسعى المكتبات العامة إلى إتاحة جميع مصادر المعلومات المتوفرة بها مجاناً وتوفير إمكانيات البحث الحر والثقافة الذاتية وتشجيع وتدعيم عادة القراءة بإرضاء مختلف الأذواق، فيعتبر إذًا وجود المكتبات العامة صرحاً للتعليم ومركزًا للثقافة والبحث وتهيئة لجيل مثقف وواع قادر على تحمل مسؤوليته.
وهي تسعى لتوفير الاحتياجات الأساسية لذلك المجتمع ودراسة بيئته ومستويات تعليم أفراده ومعرفة التطور التاريخي للتراث الثقافي له بغرض تقديم خدمات متكاملة للأفراد دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الجنس أو الدين أو العمر أو المستوى الثقافي أو غير ذلك، وتحصل بالتالي على مصادر المعلومات بمختلف الموضوعات والأشكال.
فأصبحت هذه المكتبات حلقة الوصل في نقل التراث الثقافي إلى المجتمع الذي توجد فيه، فمع ازدياد وسائل المعرفة أصبح من الصعب على الإنسان أن ينقل ثقافته من جيل إلى جيل فكان لا بد من إنشاء مؤسسة تؤدي هذه المهمة.
فالمكتبة بذلك واحدة من مؤسسات النشأة والتنمية الاجتماعية، وهي تعمل في المجتمع من أجل تحقيق جملة من الأهداف:
- تذليل مشكلات التعليم الذاتي غير النظامي للصغار والكبار، وتقدم لهم وسائط تساعدهم على تطوير مستواهم العلمي وبالتالي تشجيع التعليم المستمر
- إثراء المعرفة الإنسانية، وتنمية المعلومات في مختلف فروع المعرفة، ورفع نوعية البحث العلمي، ودعم نشاطات الباحثين عن طريق تحسين برامج خدمات المعلومات لاستغلال أعلى نسبة من المعلومات المخزنة في قواعد بيانات إلكترونية متاحة لجميع الأعضاء والقراء
- تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين عامة دونما تمييز بين مواطن وآخر
- دعم النشاطات العلمية والاجتماعية والتربوية
- تحقيق الرفاه الاجتماعي عن طريق توفير الفرص لقضاء وقت فراغ ممتع وبناء، والاستثمار الإيجابي للوقت بما يعود بالنفع على الأفراد
- تنمية الهوايات، والرفع من القابليات العقلية للمزيد من الإبداع، وصقل المواهب وتنمية الذوق السليم والإبداع الفني والأدبي والعلمي عن طريق توفير المعلومات لإشباع الأذواق الثقافية والعلمية بين المواطنين،
- توفير المعلومات المتنوعة للأفراد وفق احتياجاتهم، مما يجعلهم على مستوى من الوعي بما يجري من أحداث على المستويات المحلية، الإقليمية والدولية.
2. عصر الإنترنت
ظهرت الإنترنت في ستينيات القرن الماضي، وذلك كنتيجة نتيجة لمشروع Arpanet الذي أطلق عام 1969، وهو مشروع من وزارة دفاع الولايات المتحدة، أنشئ هذا المشروع من أجل ربط الجامعات ومؤسسات الأبحاث لاستغلال أمثل للقدرات الحسابية للكومبيوترات المتوفرة، إلا أن استخداماتها بقي محتكرا على مجموعات صغيرة من الباحثين المتمرسين في علوم الحاسوب، والاستخدام الواسع للإنترنت بدأ مع أوائل التسعينات من القرن، حيث تم في المختبر الأوروبي للفيزياء والجزيئات CERN ، والذي يقع على الحدود بين فرنسا وسويسرا، نشر مشروع الشبكة العالمية الويب والتي اختُرعت من قبل العالم الإنجليزي تيم بيرنرز لي في عام 1989، التي مكنت العامة من استخدام الإنترنت بشكل سهل وسلس، وبذلك زادت نسبة استخدام الإنترنت سنويا وبشكل مضاعف حتى وصلت إلى نسبة الكثافة التي يتم استخدامها في العصر الحالي.
1.2 الاستخدام المكثف للإنترنت
لقد تنامت نسبة استخدام الإنترنت من طرف الإنسان وتعاظمت لتصبح الوسيلة الأولى للعصر الحالي، إذ باتت الإنترانت وتطبيقاتها تستخدم في جميع مجالات الحياة الإنسانية سواء الثقافية والاقتصادية والفنية والشخصية وغيرها، ومن بين تلكم الدلائل التوثيقية التي استطعنا الوصول إليها، نجد مجموعة من الأرقام والدلالات التي تشير إلى حجم الإنتاج المعلوماتي باستخدام الويب كل 60 ثانية، وهي بحسب موقع go glob كالآتي:
جدول _01_: حجم الانتاج المعلوماتي على الويب كل 60 ثانية
فضاءات النشر على الانترنت
جوجل google
فايسبوك facebook
الأنستغرام instagram
تويتر twitter
البريد الالكتروني e-mail
اليوتيوب youtubeسناب شات snap chat
الواتس آب WhatsApp
Pinterest
WeChat
المجالات.
الأندرويد
الآيفون
Reddit
ما ينشر كل 60 ثانية
أكثر من 2.315.000 بحث
3.125.000 إعجاب و243.055 صورة محدثة وأكثر من 3.000.000 مادة يتم مشاركتها.
يتم تحميل حوالي 65.000 صورة.
أكثر من 430.000 تغريدة
أكثر من 150.000.00 رسالة.أكثر من 2.700.000 مشاهدة للفيديوهات و 139.000 ساعة من الفيديوهات تشاهد على اليوتيوب وأكثر من 300 ساعة تحمل على اليوتيوب.
ترسل أكثر من 280.000 سناب.44.000.000 رسالة معالجة، و486.000 صورة،و70.000رسالةفيديو تشارك.9.888 مقال ينشر.أكثر من 195.000 دقيقة من المحادثات السمعية، وأكثر من 21.000.000 رسالة.
أكثر 100 مجال جديد
يتم تنزيل أكثر من 95.000 تطبيق.
يتم تنزيل أكثر من 48.000 تطبيق.
أكثر من 140 تقرير.
https://www.go-globe.com/things-that-happen-every-60-seconds
وبناء على البيانات السابقة يتبين لنا:
- أن نسبة استخدام الإنترنت في تزايد مستمر
- أصبحت الإنترنت وتطبيقاتها فضاء من فضاءات الاتصال العلمي والثقافي، ومصدرا هاما من مصادر المعلومات
- أن نسبة البحوث (الاستفسارات) عن المعلومات في الفضاءات الرقمية من خلال تطبيقات الإنترنت أكثر بكثير مقارنة بالمكتبات التقليدية، وخاصة العامة منها.
تحليل ومناقشة نتائج الدراسة على ضوء التحليل الوثائقي
من خلال الاطلاع المكثف على الإنتاج الفكري المكتوب في موضوع الدراسة، تمكن الباحث من التوصل إلى مجموعة من البيانات والمعلومات التي من شأنها الإجابة على التساؤلات التي انطلقت منها الدراسة.
1.هل تشكل شبكة الإنترنت بكل تطبيقاتها وخدماتها بديلا عن المكتبات العامة؟
من خلال بيانات الجدول -01- يتبين أن نسبة استخدام شبكة الإنترنت لأغراض الولوج إلى مصادر المعلومات عامة والثقافية بصفة خاصة مرتفعة جدا، وذلك راجع لعدة أسباب منها ما يتعلق بتجاوز عقبات الزمان والمكان، ومنها ما يتعلق بالإشكاليات القانونية والتنظيمية التي تكاد منعدمة في فضاء الإنترنت.
وبناء على ذلك فإن الطرح الذي يقوم بناء على هذه المعطيات ليشير إلى أن شبكة الإنترنت تمثل بديلًا للمكتبات العامة، فهو طرح منقوص من عدة نواحي هي:
1.1 بروز جيل جديد غير مؤالف للمكتبات: لقد أدى الاستغلال المكثف للإنترنت في جميع مجالات الحياة، إلى بروز أجيال جديدة ويقصد بهذا الجيل الجديد من المستفيدين كما يتم الاصطلاح عليه في أغلب الأدبيات، بالجيل الذي يستخدم التكنولوجيات الحديثة بشكل مكثف وبالأخص شبكة الإنترنت والأجهزة الذكية على غرار الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية والألواح الرقمية، حيث تُشير (بوعناقة، 2016) بأنه ”في غضون السنوات العشرة المقبلة، سيكون العالم متّصلا على الدوام، وسيبرز جيل جديد يمكن تسميته بالجيل ج (Generation C) قياساً بالأحرف الثلاثة للأفعال الإنكليزية، Connect ارتبط، Communicate تواصل، Change غيّر.
ولد هذا الجيل في تسعينيات القرن الماضي، ونضج في بيئة مليئة بالتواصل الاجتماعي، سواء عبر الهواتف الجوالة، أو الكومبيوترات المحمولة، أو الأجهزة اللوحية، أو حتى كومبيوترات المدارس والجامعات والعمل، دائمة الاتصال بالإنترنت، وشاهد العالم من منطلق تقني، وهو يعتمد على الإنترنت بشكل مطلق للتواصل مع غيره، ومع اقتراب تخرج هذا الجيل من الجامعات، يتوقع الخبراء أن يكون له أثر بالغ على شتى القطاعات، حيث إنه سيجمع ويستهلك المعلومات بطرق جديدة مبتكرة (ثورة الجيل ج في العالم الرقمي).
1.2 نقص في إدراك مفهوم المكتبة العامة: لا تعد المكتبات بصفة عامة والعامة بصفة خاصة؛ مجرد مخازن تحتوي على مجموعة من مصادر المعلومات المنظمة والمهيكلة لتسهيل الوصول إليها، بل إن مفهوم المكتبة العامة يتعدى هذا المخيال إلى ما هو أبعد من ذلك، فالمكتبات العامة إلى جانب كونها فضاء يوفر مصادر المعلومات، فإنها كذلك توفر خدمات المعلومات والتي تعد من أهم المنتجات غير المادية للمكتبة، وتتعدد هذه الخدمات وتتنوع بتنوع أنواع المكتبات العامة وأهدفها، فالمكتبات العامة تقدم خدمات مرافقة للمستفيدين فيما يخص:
- مساعدة المستفيدين في اختيار مصادر المعلومات التي تتناسب وحاجياتهم منها،
- تمكن المستفيدين من الوصول إلى معلومات موثوقة لا يشبها النقص، وبذلك تحمي مستفيديها من المعلومات المغلوطة (miss information)،
- تساعد المستفيدين في عملية استخدامهم للمعلومات والمعارف وذلك من خلال الخدمات المرجعية، التي تمكن المستفيدين من التواصل المباشر أو غير المباشر مع أخصائي المعلومات لأغراض توضيح الأفكار، شرحا، طلب معلومات معمقة من مصادر أخرى ذات العلاقة بموضوعه،
- تعمل على توفير معلومات جاهزة للمواطنين من شأنها تذليل العقبات الاجتماعية على غرار، تزويد المستفيدين بمعلومات حول فرص العمل التي تتناسب ومهاراتهم، التعريف بالتخصصات العلمية وإرشاد الطلاب في المرحلة الجامعية،
- كما تعمل المكتبات كذلك من خلال الملتقيات والأنشطة التي تقوم بها على تقديم محاضرات للمواطنين ذات العلاقة بالثقافة والتاريخ والدين والقانون،
- القيام ببرامج تعليمية من خلال توفير دورات تدريبية للمستفيدين كبرامج تعلم اللغات، تعلم البرمجة، وغيرها من المهارات التي باتت مطلوبة بشكل كبير من طرف مختلف شرائح المجتمع،
وبذلك يمكن القول إن الإنترنت وخدماتها لا يمكنها أن تشكل بديلًا نهائيا للمكتبات العامة، في ظل تميز الخدمات التي تقدمها للمستفيدين والتي لا يمكن للإنترنت أن تتوفر عليها، إلا أن الإنترنت تبقى وسيلة هامة تمكن المكتبات من تحسين وتطوير خدماتها من خلال الاستغلال الأمثل لشبكة الإنترنت وخدماتها.
ومنه “فإن علينا اليوم أن ننظر إلى المكتبات العامة نظرة أكثر اتساعا وانفتاحا، بل وأكثر حداثة، بغية مسايرة مطالب العصر، وآفاق المستقبل، ونستطيع الجمع بين الخدمات التقليدية والعصرية على حد سواء، لذا علينا مساعدتها للدخول إلى المعلومات بأشكالها الحديثة، فضلا عن الأوعية التقليدية؛ إن من واجب هذه المكتبات أن تكون مركزا ثقافية في منطقتها وهذا يتطلب منها استخدام كافة الوسائل الممكنة والمتاحة، المطبوعة وغير المطبوعة، المقروءة والسمعية-البصرية، والآلية حتى تكون مراكز اتصال نافع، بالمفهوم الجديد لهذا الكلمة، وليس معنى ذلك أن تقف الوسائل الحديثة منها موقف المنافس للكتاب، بل موقف المكمل له” (صوفي، ص. 97، 2001).
ونقلا عن مدونة المكتبات؛ فإن الرئيس السابق لجمعية المكتبات الأمريكية والمدير المتقاعد لنظام المكتبات في مقاطعة وستشستر بولاية نيويورك “موريس جاي ميتشن”: لقد وقف مستشرفو المستقبل وكتاب افتتاحيات الصحف وأعداد لا تحصى من الناس على أهبة الاستعداد منذ سنوات لنعي المكتبات العامة وتأبينها، مجادلين في ذلك بأن الإنترنت سوف تلغي الحاجة إلى المكتبات، بل وحتى إلى الكتب، لكن من يزور المكتبات العامة في الولايات المتحدة الأمريكية يجد بأن الإقبال على استخدامها يزداد عاما بعد عام.
وبذلك نخلص إلى أن الإنترنت لا تشكل خطرا على المكتبات العامة ولا تعمل على إزالتاها، وإنما تمثل وسيلة مكملة ومساعدة للمكتبات العامة على أداء رسالتها والمتمثلة في تقديم مصادر المعلومات ومختلف الخدمات المرافقة لها، كمركز ثقافي متميز، إلا أن الاستخدام المكثف للإنترنت كانت لها تداعيات على طبيعة سلوكيات المستفيدين في البحث عن المعلومات، وهو ما يقودنا للإجابة عن التساؤل الثاني والمخصص لرصد جملة هذه التغيرات والتي سنذكرها في العنصر الموالي.
2. ما تداعيات الاستخدام المكثف للإنترنت على طبيعة سلوكيات الباحثين عن المعلومات؟
لقد أحدثت الإنترنت تأثيرا هائلا في الحياة المعاصرة، بحيث إنها تُوفر استخداما سهلا للخدمات المتاحة في أي مكان وفي أي وقت للمستخدمين المتصلين بالأجهزة الرقمية، إذ أبرزت شركات مثل Google و Amazon الجوانب السلبية لخدمات المكتبات التي تقدم داخل جدرانها ولساعات محددة، فالمستفيد وجد أن استرجاع المعلومات على الإنترنت أسهل من زيارة المكتبة، وهذا النجاح الباهر للإنترنت يُبين أن على المكتبات أن تتطور وتتغير لتلاقي حاجيات المستفيدين، (Tripathi,Manorama; Mumra, sunil.2010) وبفعل ذلك تغيرت سلوكيات المستفيدين في البحث عن المعلومات، إذ أصبح المستفيد يعتمد في عملية البحث على خدمات الإنترنت بمفهومها الواسع من محركات البحث والمواقع الأكاديمية المتاحة على الخط وكذلك دوريات الوصول الحر بمختلف أشكالها على غرار الأرشيفات المفتوحة، حيث تشير بينات موقع (go-globe.com, 2017) إلى أن “3.8 مليون عملية بحث تجرى على محرك بحث (google) كل 60 ثانية، وأن 120 حساب على الموقع الأكاديمي (linked in) تنشأ كل 60 ثانية”.
كما أن تغير سلوك المستفيدين في البحث عن المعلومة يتضح جليا في استخدامهم للهواتف الذكية في عملية البحث، حيث تُشير الإحصائيات إلى أن “أكثر من النصف -أي (57%)- من أجهزة الهواتف الذكية تُسجل حسابات على محركات البحث مثل محرك (vista)، وأن ما يُقارب الـ(40%) من الناس يبحثون فقط باستخدام الهواتف الذكية، وأن (55%) من عمليات البحث باستخدام الإنترنت تتم كل ساعة من الزمن، و(81%) كل خمسة ساعات من الزمن”. (go-globe.com, 2017)
وأمام هذه الحقائق يتبين أن سلوك الباحث عن المعلومة، وبالأخص الباحثين الأكاديميين عن المعلومات العلمية والتقنية، قد تغيّر؛ إذ أصبحوا يستعملون أدوات البحث على الإنترنت وباستخدام الهواتف الذكية، ومن أجل أن تواكب المكتبات الجامعية هذه التطورات وأن تلبي احتياجات المستفيدين واستقطابهم من أجل أداء مهامها البحثية والتعليمية.
ومن خلال ذلك يمكن القول بأن الأنترنت كان لها تأثير جلي في عملية تغيير سلوكيات المستفيدين عن المعلومات الشأن الذي يستوجب على المكتبات العامة أن تلعب أدوارا جديدة لتواكب هذا النمط الجديد من البحث عن المعلومات، وهذا ما سنتطرق إليه في العنصر الأخير من هذه الدراسة.
3. ما الأدوار الجديدة التي يتعين على المكتبات العامة مجاراتها لضمان خدمات متميزة للمواطن الرقمي؟
تطورت المكتبات العامة بشكل تدريجي ومستمر، نتيجة لمجموعة من العوامل؛ من بينها سلوكيات المستفيدين المتغيرة من جهة، وتنامي استخدام التكنولوجيا سواء من طرف المكتبات العامة أو من طرف المستفيدين منها.
ومن بين أسباب هذه العوامل نجد ظهور سُبل جديدة للنشر، ممَا حتم المكتبات على تقديم خدمات إلكترونية مع مراعاة تواجد القيمة المضافة لمثل هذه الخدمات، وكذا سُبل إدارة المصادر الإلكترونية في البيئة الرقمية، وليست العوامل التقنية وحدها التي أدت إلى إحداث تغيرات على مستوى المكتبات العامة وأدوارها، بل إن أحد أهم مفاتيح التغير يعود إلى تغير سلوكيات المستفيد وأنماط تعاملهم مع مصادر المعلومات والبحث عنها؛ التي أصبحت تؤكد على المكتبات والمكتبيين التعامل مع طلبة يدرسون بشكل جماعي (التعليم التشاركي) بدل القارئ الصامت (القراءة الفردية؛ وهو النظام المعمول به حاليا في المكتبات الجامعية الجزائرية)، ومنه أصبح على بنايتها أن تتسم بالمرونة والديناميكية في المساحة.
ومن بين جملة التحديات والفرص التي أدت إلى ظهور أدوار جديدة للمكتبات حسب دراسة لكل من (Tait; martzroukou, 2016) هي:
3.1 دور المكتبة في الوصول الحر وتسيير بيانات البحث
تغيرت المكتبات العامة إذ أصبحت مرنة وقابلة للتغيير بفعل الضغوطات الاجتماعية والسياسية والتقنية، ومن أهم التغيرات التي مرت بها المكتبات الجامعية نجد حركة الوصول الحر؛ والتي جاءت كاستجابة للأسعار العالية لمقالات المجلات، بالإضافة إلى القوانين المُحيطة بتسيير البيانات؛ والتي تُنشر وتُوزع على نطاق واسع والتي تُشكل بدورها استثمارا مُهمًا في المال العام. هذه التغيرات القانونية والتنظيمية أثرت في مجتمع الباحثين والناشرين ممَا أدى إلى تنامي المستودعات الرقمية في المكتبات، وإشكاليات إعدادها وتسييرها والتحكم فيها وإتاحتها للاستخدام.
3.2 استخدام تكنولوجيا المعلومات في بيئة تعليمية متغيرة
إن مكتبات القرن الواحد والعشرين تمتد وراء جدران مؤسساتها الفردية إلى بيئة الوصول الحر للمعلومات، وتتعامل مع أدوات الإنترنت التشاركية والتشبيك على الخط، إذ إن عمال المكتبة يجب أن يكونوا في موقع لدعم مجتمعات المتعلمين الدولية، وأن يكونوا مستجيبين لجميع احتياجات المستفيدين من المكتبة حول العالم. وهذه التغيرات تتطلب ثقافة منفتحة وتشاركية لتلافي التحديات التقليدية النمطية في عمل المكتبات، إذ إن المكتبة الحالية تعتمد على أنظمة الاكتشاف الصناعية التي تمكن من استخدام كشاف مركزي واحد وواجهة بحث تسمح بالبحث عبر خدمات المكتبة المحلية.
3.3 وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية
من أوجه تأثيرات البيئة الرقمية في المكتبات؛ نجد استخدام الهواتف النقالة وبالأخص “الهواتف الذكية” بمختلف أنواعها كوسيلة آنية لإيجاد الحلول لمشكلات الولوج السهل للويب والبحث من خلال “محركات البحث” ووسائط اجتماعية، دونما الحاجة إلى مهارات بحث عالية، إذ إن أولوية المكتبات في التحول بناءً على سلوكيات المستفيدين في البحث عن المعلومات باستخدام مناهج ومقاربات مختلفة. كذلك استخدام المكتبات لوسائل التواصل الاجتماعي لتثمين خدماتها بغية مشاركتها من قبل جمهور واسع، ممَا يُمكن المستفيدين من التفاعل مع المكتبة والمناقشة فيما بينهم، وكذلك تستثمر المكتبة الجامعية الحديثة في أدوات الويب 2.0 بغية تعزيز الاستثمار في وسائل التواصل الاجتماعي.
3.4 تلعيب العمل ومعامل الهاكرز Makerspace and gamification
ويقصد بـ Makerespace كمصطلح عام للدلالة على مكان يلتقي فيه الناس مع بعض للقيام بنشاط معين، حيث إن المكتبات العامة أصبحت توفر مثل هذه الفضاءات، بُغية خدمة نشاطات مستفيديها ومشاريعهم حيث تجهز هذه الأماكن حسب التخصصات والاهتمامات لمزاولة الأعمال التطبيقية وكذا استخدام مواد المكتبة غير الكتب كالمجسمات والمطبوعات ثلاثية الأبعاد وغيرها.
بينما مصطلح gamification فهي أدوات تستخدم لمساعدة المستفيدين في الانخراط والقراءة، حيث يعرف المصطلح على أنه “استخدام عناصر تصميم الألعاب في سياق غير الألعاب” بحيث تحتوي ممارسات نشاطات الإبداع والقراءة.
3.5قيمة الثقافة الرقمية في سياق المكتبات الأكاديمية
أصبحت الثقافة الرقمية كفاءة يسعى إليها المكتبيون بشكل كبير، نظرا لأن الخدمات المكتبية باتت تُقدم من خلال مجال الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة، حيث إن دور عمال المكتبة تطور وأصبح أكثر تأكيدا على أهمية اليقظة بالمستجدات التكنولوجية، كمقاربة حديثة للبحث عن المعلومات واستخدامها من خلال المشاركة والاتصال، فدور المكتبي لم يعد مُجرد حارس لأوعية المعلومات بل وسيطا ومُسهلا لها.
ومن بين جملة الأدوار الأخرى التي يتعين على المكتبات العامة مواكبتها نذكر:
– التواجد الفعلي على الإنترنت، وتقديم خدمات المعلومات في هذه البيئة،
– أن تبتكر وسائل بحث ذكية متاحة على الإنترنت لرصد سلوكيات المستفيدين،
– أن تجعل خدمات المعلومات، وأدوات البحث التي تعتمد عليها مُتاحة على تطبيقات الهواتف الذكية،
– أن تعمل على استقطاب كافة شرائح المجتمع وتمكينهم من ثقافة القراءة،
– التركيز على الأجيال الناشئة لزرع، وتمكينهم من مهارات البحث وسبل التعامل مع مصادر المعلومات،
– أن تتحول إلى مراكز منتجة للمعرفة والإبداع من خلال العمل على تأطير مستفيديها وتوفير الدعم لهم.
خاتمة
لقد عالجت هذه الدراسة، إشكالية مستقبل المكتبات العامة في ظل التكنولوجيات الحديثة وتنامي الاستخدام المكثف للإنترنت في الحياة الثقافية، وتداعياتها على المكتبات العامة من خلال تساؤل جوهري حول مستقبل المكتبات العامة في ظل الإنترنت والخدمات التي تقدمها ومدى تأثيرها في دور المكتبات العامة في الحياة الثقافية، وإمكانية الاستغناء عنها، إلا أن الدراسة توصلت إلى أن التكنولوجيا الحديثة ومنها الإنترنت وخدماتها لا تشكل خطرا على استمرارية تواجد المكتبات العامة، وذلك نظرا لكون هذه الوسيلة الهامة –الإنترنت- لا تشكل بديلًا عن المكتبات العامة وذلك عائد إلى طبيعة الخدمات التي تقدمها المكتبات العامة لمستفيديها، وكذا نظرا لاعتبارات تتعلق بمصداقية المعلومات فضلا عن الدور الريادي الذي تقوده المكتبات العامة في الجانب السوسيوثقافي.
إلا أن التكنولوجيا الحديثة وشبكة الإنترنت، كان لها تأثيرات عميقة وجلية في المكتبات العامة، فبدل أن تشكل خطرا أو بديلا عليها، أصبحت تستخدمها كأدوات ووسائل تمكنها من أداء أدوارها بفعالية أكبر من خلال تجاوز عقبات الزمان والمكان، وكذلك من خلال الخدمات الحديثة والمتجددة التي باتت المكتبات العامة توفرها من خلال الاستغلال الرشيد والأمثل للتكنولوجيات الحديثة وشبكة الإنترنت.
أسلوب راقي وأفكار جبارة توحي بأن ورائها عظيم من عظماء القلم