نعيد نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع ”رصيفـ22“
داخل كل منّا ظلمات ونور، وعلينا أن نستمع إلى صوت النور في داخلنا كي لا نضل، والإنسانية هي أساس كل الأديان. هكذا قدم الروائي اللبناني أمين معلوف، في روايته “حدائق النور”، عقيدة المانوية.
في الرواية، يتحدث ماني ، النبي الذي بدأ دعوته حوالي عام 240 ميلادي وقال إنه خاتم الأنبياء، قبل زمن النبي محمد بحوالي 400 عام، ويقول: “أنتمي إلى جميع الأديان ولا أنتمي إلى أي منها، لقد لُقن الناس أن عليهم أن ينتسبوا إلى عقيدة كما ينتسبون إلى عرق أو قبيلة، وأنا أقول لهم إنهم يكذبون عليكم، اعرفوا أن تجدوا في كل عقيدة، في كل فكرة، المادة المنيرة وأزيحوا القشور”.
ويشرح ماني علاقة العالم والكائنات بالظلمات والنور: “في بدء الكون وُجد عالمان منفصلان الواحد عن الآخر: عالم النور وعالم الظُلُمات. وفي حدائق النور كانت جميع الأشياء المشتهاة، وفي الظُلُمات كانت تقيم الشهوة، شهوة عارمة ملحّة هدّارة. وبغتة حدثت صدمة عند حدود العالميْن، أعنف صدمة عرفها الكون وأشدها هَوْلاً. وعندئذٍ اختلطت جُزيئات ‘النور’ بـ‘الظُلُمات’ بألف شكل مختلف، وهكذا ظهرت جميع المخلوقات، الأجرام السماوية والمياه، والطبيعة والإنسان… في كل كائن وفي كل شيء على السواء تتعايش وتتشابك الظلمات والنور”.
هذه رواية وليست عرضاً لوثائق تاريخية، ولكن عادةً، تكون تفاصيل روايات الكاتب اللبناني الفرنسي المختص في الرواية التاريخية أقرب ما يمكن إلى ما عَثَرَ عليه في نصوص لمؤرخين.
وُلد ماني بن فاتك أو فتق، وهو فارسي متحدر من أسرة ملكية، عام 216 ميلادية، في إقليم بابل، في وسط العراق الذي كان في ذلك الوقت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية.
وقال للمرة الأولى إن الوحي أتاه وهو في سن الثانية عشرة، وفق كتاب “الفهرست” لابن النديم: “كان يتكلم ماني، على صغر سنه، بكلام الحكمة. فلما تم له اثنتا عشرة سنة أتاه الوحي، على قوله، من ملك جنان النور وهو الله، تعالى عما يقوله. وكان الملك الذي جاءه بالوحي يسمى التوم، وهو بالنبطية ومعناه القرين، فقال له: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات”.
تشابه في الفرائض بين المانوية والإسلام
تفيد بعض المصادر التاريخية بتشابه في الفرائض وطرق تأدية بعض العبادات بين المانوية والدين الإسلامي. وبحسب الباحث فراس السواح، في كتابه “موسوعة تاريخ الأديان: الكتاب الخامس”، تثير التشابهات الكثيرة بين الديانتين التساؤلات وتدفع إلى الحيرة حول كيفية تطابق الفرائض وتأديتها بين دينين أحدهما سبق الآخر بأكثر من أربعة قرون، وكانت أفكاره تنتشر بلغة فارس المحلية.
من الفرائض المتشابهة الصلاة، فهي في المانوية كانت فريضة تؤدى في مواقيت معلومة، وبحركات جسدية معينة من قيام وركوع وسجود، بحسب كتاب “العلاقات العربية الساسانية خلال القرنين الخامس والسادس للميلاد” لسالم أحمد محل، وهي أربع صلوات في اليوم، الأولى عند الزوال والثانية عند العصر فصلاة المغرب عقب غروب الشمس ثم بعد ذلك صلاة العشاء.
وفي كل صلاة، تُكرر السجدة 12 مرة، ويُقال في السجدة وفي كل صلاة: “مبارَكٌ هادينا بارْقَلِيط رسولِ النور، ومباركة ملائكته الحفظة، ومسبح جنوده النيرون”.
أيضاً، فرض ماني الوضوء بالماء الجاري قبل الصلاة، وفي حالة عدم توفّر الماء سمح بالتطهر بالرمل أو بما شابهه، وفق ما أورده الباحث الدنماركي وأستاذ الدراسات الإيرانية السابق في جامعة كوبنهاغن آرثر كريستنسن (ت. 1945)، في كتابه “إيران في عهد الساسانيين”.
يشبه ذلك تماماً ما جاء في الإسلام من الإيصاء بالوضوء بالماء أو بالتيمم. كما في الصلاة كذلك في الصوم. فرض الإسلام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة (623 ميلادي) صوم ثلاثين يوماً في السنة. وقبله، كان ماني قد فرض على أتباعه الصوم، وكان الصوم الرئيسي في الدين المانوي فريضة مدتها ثلاثون يوماً في كل سنة، ويكون في شهر نيسان/ أبريل من كل عام، إذ كان الاعتقاد أن هذا الشهر مقدس، وينتهي الصوم المانوي بعيد “صدقة الفطر” بحسب جيووايد نغرين في كتابه “ماني والمانوية”، وإذا نقص الشهر القمري يصومون 29 يوماً فقط، أي يبدأون الصوم بظهور الهلال وينهونه بظهور الهلال، ويختمون صيامهم الثلاثيني بالذبائح والصدقة.
وروى ابن النديم في “الفهرست” أن المانويين “يصومون الشهر تكريماً للقمر ويُخصصون تسعاً فيه تكريماً لرب البخت، وسبعة منه تكريماً للشمس وهي رب الخير عندهم”، وصيامهم هو عبارة عن الامتناع والإمساك عن جميع المأكولات والمشروبات من طلوع الشمس إلى غروبها.
تثير التشابهات الكثيرة بين الديانتين المانوية والإسلامية التساؤلات وتدفع إلى الحيرة حول كيفية تطابق الفرائض وتأديتها بين دينين أحدهما سبق الآخر بأكثر من أربعة قرون، وكانت أفكاره تنتشر بلغة فارس المحلية
أيضاً، عرف المانويون الزكاة، فكان على كل مانوي، وفق كريستنسن، أن يدفع عُشْرَ ماله سنوياً لكهنتهم، إضافةً إلى الصدقات المستمرّة التي تُدفع عنهم وعن أطفالهم لرد شرور الشياطين.
وفي الإسلام، فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، وهي فريضة واجبة على كل مسلم يمتلك مالاً زائداً عن الحاجة الضرورية التي لا غنى له عنها مثل الطعام، واللباس، والمسكن، ولها حكام مختلفة لتأديتها بحسب اختلاف نوع المال، إنْ كان ذهباً أو فضة أو ماشية أو زرعاً.
وحرَمت المانوية الخمر وفق كريستنسن الذي يشير في كتابه إلى أن ماني شدد على تحريم الخمر مطالباً أتباعه بأن “يطوفوا بلاد العالم ليبشروا بالدين وينصحوا الناس بالاستقامة”.
بدوره حرم الإسلام الخمر، ولكن بالتدريج، إذ لم يمنعه بشكل مباشر وقاطع منذ البداية، وبدأ الأمر بالحديث عن آثامه التي تفوق منافعه دون حسم الموقف منه. ووفق بعض الآراء، فإن التحريم المتدرج جاء لأن أتباع الإسلام قد يجدون صعوبة في ترك شرب الخمر بعدما اعتادوه لسنين طويلة، إذ كان منتشراً بين العرب قبل النبوة.
بشارة المسيح
قال النبي محمد عن نفسه إنه النبي المبشر به من المسيح، أو النبي عيسى كما يسمّيه المسلمون، وهي مقولة رددها أتباع ماني، وفق كتاب “الزندقة والزنادقة” لعاطف أبو عوض، وأضافوها إلى صلواتهم، إذ يختتم المانوي صلاته بالتحية والسلام على ماني قائلاً: “مبارك هادينا البارقليط رسول النور”، بحسب كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني (ت. 1153).
والبارقليط هو لفظ مأخوذ من كتابات القديس يوحنا، ويعبر ليس عن طبيعة شخص، بل عن وظيفته. فهو مَن يلعب دور المساعد الإيجابي، والمؤيد، ويقوم بهذه المهمة المسيح كما يقوم بها الروح القدس.
كما قال النبي محمد عن نفسه إنه آخر الأنبياء والمرسلين وإن الملاك جبريل أبلغه بذلك، كان ماني قد قال عن نفسه إنه آخر الأنبياء. أيضاً، فرض ماني الوضوء بالماء الجاري قبل الصلاة، وفي حالة عدم توفر الماء سمح بالتيمم وكان المانويون يصومون 30 يوماً في السنة.
ويعتبر المسيحيون أن الروح القدس (البارقليط) نزل على تلامذة المسيح يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للمسيح، وهناك “صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”.
أما في الإسلام، فقد جاء في القرآن: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (سورة الصف، الآية 6).
وكما قال النبي محمد عن نفسه إنه آخر الأنبياء والمرسلين وإن الملاك جبريل أبلغه بذلك، كان ماني قد قال عن نفسه إنه آخر الأنبياء، وفق ما أشار أبكار السقاف في كتاب “الدين في الصين والهند وإيران”.
من أين أتى التشابه؟
تثير التشابهات الكثيرة بين الديانتين التساؤلات وتدفع إلى الحيرة كما قال فراس السواح، فالأمر يظهر وكأنّ أحداً ينقل عن آخر.
لكن الباحث السعودي في علم الأديان المقارن ومدير مركز دراسات الأقليات المسلمة، د. محمد صفر يشير في حديث لرصيف22 إلى أن القول بأن الإسلام اقتبس بعضاً من أفكاره ومعتقداته بل ومن تشريعاته وعبادته من ديانات سابقة كالمانوية يعود إلى رغبة صاحب القول بأن يوحي بأن رسالة النبي محمد لم تأت بجديد وليست وحياً إلهياً بقدر ما كانت من صنيعته وتجميعه وتحريفه لتلك الموروثات.
ويلفت الباحث المصري في الشؤون الإسلامية إسلام البحيري إلى أنه لم يكن يُعرف عن النبي محمد أنه كان يقرأ كتب الأولين المقدسة ولم يكن ينسخها ويحتفظ بها كنوع من الثقافة. ويقول لرصيف22: “لم يكن معروفاً هذا عنه، والقول بأنه احتمال ليس دليلاً علمياً عند المؤرخ، وعند الأصوليين قاعدة: ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال”.
في تاريخها، عانت المانوية من الاضطهاد، فمؤسسها ماني نفسه سُجن قبل أن ينفّذ به حكم إعدام أصدره الإمبراطور الفارسي بهرام بن سابور (بهرام الأول). ونقل منير البعلبكي، في كتابه “موسوعة المورد”، عن كتاب “العراق – البلد العربي الذي نخره السياسيون” لإبراهيم عبد الطالب، أن ماني صُلِبَ على أحد أبواب مدينة بيت العابات (جندى شابور) في الأهواز، بعد أن عُذب وقُطّعت أطرافه ثم أحرقت جثته ونثر رماده.
وتلقت المانوية ضربات عدة على يد الرومان، ففي عام 445م أعلن البابا ليون العظيم تحريم نشاط المانوية، بحسب ج. م. ر. تيار في كتابه “أسقف رومة”. وعام 527م، قرر الإمبراطور جوستان الحكم بالإعدام على جميع أتباع المانوية، وفق إيان غاردنر في كتابه “نصوص مانويّة من الإمبراطورية الرومانية”.
وفي العالم الإسلامي، تعرض أتباع المانوية إلى اضطهاد أينما وُجدوا. ويذكر فاروق عمر، في كتابه “التاريخ الإسلامي”، أنه ورغم تزايد الاضطهاد ضد المانوية في الفترة العباسية باسم مكافحة الزندقة والإلحاد والدهرية والمجون، إلا أن أتباعها كانوا نشيطين خصوصاً في المجال الفكري، وشكلوا حلقات ثقافية يطلق عليها اسم “إخوان الصدق”.
ويضيف أن الخليفة العباسي “المهدي” (775-785) يُعتبر أول مَن أعلن الحرب ضد المانوية وجميع التيارات الفكرية المعارضة باسم مكافحة الزندقة، حتى سُمي بـ”قصاب الزنادقة”، وأنشأ من أجل ذلك “ديوان الزنادقة”، وكان أتباع المانوية يجبَرون على المثول أمام القاضي والبصق على صورة ماني وذبح طائر، ذلك لأن المانوية تحرّم ذبح الحيوان، وبحال رفضوا التوبة يُحكم عليهم بالموت.
واستمر اضطهاد المانويين وتعاظم مع الخليفة “المقتدر” (908-932)، وبحسب “فهرست ابن النديم”، هبط عدد رموز المانوية في بغداد من 300 شخص إلى خمسة أشخاص فقط، في أواخر القرن العاشر الميلادي.
يُذكَر أن الهروب المستمر للمانويين من العراق والمشرق، وخصوصاً أثناء اضطهادات الفترة العباسية أدى إلى تزايدهم في أواسط آسيا، وفي عام 745 اعتنق بوقي خان، أحد ملوك منغوليا الشمالية، المانوية، وجعلها الدين الرسمي للدولة، ومن خلال ذلك وصلت المانوية إلى الصين وكذلك إلى روسيا وسيبريا، وفق عاطف أبو عوض في كتابه “الزندقة والزنادقة”.