نادية حرحش كاتبة وباحثة فلسطينية درست العلوم السياسية وحصلت على ماجستير الفلسفة الإسلامية من جامعة برلين الحرة، ونشر لها العديد من الأبحاث والمقالات بالعربية والإنجليزية التي تتناول التراث العربي والإسلامي، وصدر لها روايتين هما “في ظلال الرجال” و”على درب مريم” وكتاب بحثي بعنوان “نساء القدس”.
تجمع نادية حرحش في كتاباتها البحثية والأدبية بين دقة وواقعية البحث العلمي، ومتعة وخيال الأدب، كما تنطلق في أعمالها من تساؤلات مركزية عن المرأة، والمجتمع الفلسطيني، والتاريخ، والهوية، والتنوع الثقافي، وعلاقة الأنا بالآخر، والموروث الاجتماعي والعقائدي وكيف نتعامل معه بصورة معاصرة؟
- ما نحتاجه اليوم هو الثورة، ثورة على وعينا المغيّب وثقافتنا المغلفة بحجاب عن التاريخ إلا من قشوره الصدئة.
- كيف لنا أن نتوقع تعاطف ومساندة وقد انحرفت أو بالأحرى تكسرت بوصلتنا الفلسطينية!
- الإسلام ليس ما يفهمه ماكرون وليس ما يمارسه المسلمون
- لا يمكن النظر إلى وضع المرأة بمعزل عن المجتمع
- العيش تحت الاحتلال ليس بالعيش الطبيعي. لا يمكن أن يكون طبيعيا، ولا يمكن اعتياده
شبكة مواطن الإعلامية حاورت نادية حرحش عن رؤيتها للمشهد العربي والفلسطيني بعد مرور عشر سنوات على اندلاع ثورات “الربيع العربي” وإلى نص الحوار.
بعد عشر سنوات من اندلاع ثورات "الربيع العربي" كيف تتأملين لحظة الثورة وتبعاتها إلى الآن؟
يبدو الأمر وكأنه حلم تحول إلى كابوس، ما بدا وكأنه شعلة أمل بإيقاظ الشعوب، صار حريقاً يأكل الأخضر واليابس. ما نحتاجه اليوم هو الثورة، ثورة على وعينا المغيّب وثقافتنا المغلفة بحجاب عن التاريخ إلا من قشوره الصدئة، نحتاج إلى ثورة داخلية نعيد بها حساباتنا كأفراد قبل أن نفكر بمحاسبة السلطات.
لا يمكن لشعوب لا تعرف عن تاريخها إلا فتوحاته، وعن ثقافتها وحضارتها إلا إقصاءها وعدم تقبلها للآخر، أن تثور على واقع لا ترى منه إلا المؤامرات التي يخطط لها الآخر، وتتغاضى عن أفعالها ولا تحاسب نفسها قبل محاسبة أي أحد. الثورة تنتج عن وعي، عن ثقافة، عن إدراك حقيقي. ونحن شعوب يغيب عنا الوعي ولا نفهم من الثقافة إلا ما تنتجه لنا الفيديو كليبات ولا ندرك أبعد من مساحتنا الخاصة المتفردة بنا.
في الأشهر الماضية أعلنت أكثر من دولة عربية عن تطبيع علاقاتها مع المحتل الإسرائيلي برأيك كيف حدث ذلك بهذه السرعة، وكيف سينعكس هذا الوضع الجديد على القضية الفلسطينية؟
انشغال الشعوب بأمورها الفردية، كما تحولنا إلى أفراد منشغلين بما يؤرق يومنا وما يحيط بنا من مصائب بالكاد نتخلص منها أو ننقذ أنفسنا منها، هكذا صرنا كشعوب. في السابق كان الشأن الفلسطيني شأنا عربيا لأن العدو واحد، اليوم العدو متعدد ومختلف ومتغير. ما حصل بالعالم العربي منذ الثورات جعل كل دولة متفردة في مصابها، سورية، اليمن، ليبيا، العراق، لبنان، مصر.
ما الذي يجري بفلسطين أمام ما يجري من مصائب وكوارث بالدول الأخرى؟ هذا من جانب. من جانب آخر، الوضع الفلسطيني الداخلي، عندما ينظر العالم إلى ما يحصل داخل فلسطين ويرى الانقسام والفساد يغلب في سوئه الاحتلال، كيف لنا أن نتوقع تعاطف ومساندة وقد انحرفت أو بالأحرى تكسرت بوصلتنا الفلسطينية؟
وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني، وبعد ما شهدناه من تتابع في عملية التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، يبدو أن هناك غيابًا للدبلوماسية الفلسطينية أو بالأحرى فشلًا أوصلنا إلى هذه المرحلة التي لم تعد فيها الدول العربية ترى عائقًا أمامها للتطبيع ولم تعد ترى إسرائيل كعدو.
وبما أننا نعيش في زمن اختلط فيه المنطق بالهرطقة، كل شخص أو جهة يستطيع أن يبرر ما يقوم به بلا أدنى شعور أو حاجة للشرح. ووصلنا إلى مكان خطير جدا بالتأكيد هو موازاة التطبيع بالتنسيق الأمني الذي تعتد به السلطة الفلسطينية وتعتبره “مقدسا”. فكيف لي أن أقنع البلاد التي هرولت وتهرول للتطبيع أن هناك تطبيعًا مقدسًا وتطبيعًا مدنسًا؟!
يعيش العالم لحظات فارقة في ظل جائحة كورونا، كيف تتأملين تداعيات الفيروس على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام؟
أعتبر ما جرى خلال هذا العام باجتياح الكورونا لحياتنا فرصة توفر لنا خلالها الكثير مما كان غير ممكن من قبل، على الرغم من صعوبتها وخطورتها وكارثتها. إلا أن فرصة حقيقية عشناها بالتنفس والتوقف قليلا أمام انفسنا وأمام حياتنا المهرولة أمامنا.
الطبيعة تنفست الصعداء، كنا أمام لحظات تاريخية بالفعل عندما توقف العالم عن الحراك بالكامل. عندما استطعنا لأول مرة بحياتنا كبشر في هذا العالم الجديد أن نتنفس مع الطبيعة هواء نقيا بلا عوادم السيارات والطائرات والمصانع. صرنا لأول مرة نسمع زقزقة العصافير وسط زحام بيوتنا المكتظة. ما كان يتطلب إنجازه ترتيبًا وتنسيقًا وسفرًا وتجهيزًا ومصروفات ووقتًا يمتد إلى أيام وأسابيع صار ممكنا خلال ساعات معدودة.
الوقت الذي كنا نهدره بالذهاب إلى مكاتبنا في أزمات السير الخانقة صرنا نستثمره بالاهتمام أكثر ببيوتنا ومحيطنا، صرنا نرى أكثر حياتنا اليومية عن قرب، اضطررنا للتعامل مع حياتنا ببساطة أكثر، رجعنا إلى طبيعتنا الفطرية التي جعلتنا نلمس أكثر محيطنا.
مع بداية الفيروس ظهرت تنبؤات وتوقعات بتغيرات كبيرة ستحدثها الجائحة في حياة البشر والمنظومة الرأسمالية الحاكمة للعالم، لكن بعد عام يبدو العالم كما هو، كيف تتأملين هذه المفارقة؟
قدرة الإنسان السريعة على التكيف هي سلاح ذو حدين. والكوارث الطبيعية مهما كانت كارثية لها دوما ما لا تعلنه من إيجابيات فورية. مثلا، بعد البراكين التي تحرق كل شيء ، تخرج الأراضي الأكثر خصوبة. التغييرات الحاصلة لن نراها ونفهمها اليوم، ولكن ما لا يتغير ونأمل دوما تغييره هو المنظومات السيادية والرأسمالية. هؤلاء يتحكمون بكل مصادر الرزق والحياة، التغير الذي يصيبهم يستطيعون التحكم بمجرياته لمصالحهم.
يتأثرون بالطبع، ولكن التأثير الذي يحصل معهم ليس الذي نتوقعه أو نتمناه. خسارة رأس المال لمصالحه لا تعني فلسه وتسوله بالشارع. خسارته ليست كخسارة الأفراد العاديين. وعليه، فتحسب كذلك بطريقة مختلفة وتبعاتها مختلفة.
مع الأسف، العالم لم يعد كما هو، لأن ما مكنته هذه الجائحة هو استغلال الأنظمة لسيادتها القمعية بحجة الحماية والوقاية، فصار إعلان الطوارئ في الكثير من بلدان العالم هو الاعتيادي. مرعب أن نعتاد على ما هو غير عادي.
الإسلام الذي أعرفه وأنتمي له ويشكل هويتي الإنسانية والأخلاقية يشتق معانيه من خلال أحرف اسمه " سِلْمٌ" و"سلام".
مع الهجمات الإرهابية الأخيرة في فرنسا تحدث الرئيس الفرنسي "ماكرون" عن أن الإسلام دين يعيش في أزمة، على أي مدى تتفق مع فكرة أن الإسلام يعيش في أزمة؟
المسلمون يعيشون في أزمات. الإسلام ليس ما يفهمه ماكرون وليس ما يمارسه المسلمون. الإسلام الذي أعرفه وأنتمي له ويشكل هويتي الإنسانية والأخلاقية يشتق معانيه من خلال أحرف اسمه ” سِلْمٌ” و”سلام”. الإسلام الذي بشّر به الله العالم بكونه للعالمين هو الإسلام الذي لا يفرق بين مسلم وأعجمي إلا بالتقوى، الإسلام هو إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
التفكير الاستشراقي نحو الشرق المسلمين هو ما يفهمه ماكرون، وعليه مقصده ونيته وفهمه مرتبط من خلال هذه الثقافة التي بنت مفهوم الشرق لدى شعوبها ولدينا على ما يبدو من خلال رؤية مستشرقيهم له. وعليه، دورنا نحن أهل الشرق بأن نكون مسلمين كما هو الإسلام الذي نفهمه لا الإسلام الذي يدفعنا إليه المستشرقون والمتطرفون.
سؤال الهوية واحدة من الأسئلة البارزة المطروحة بقوة مع صعود التيارات اليمينية في المجتمعات الغربية، كيف تتأملين سؤال الهوية عالميًا وعربيًا؟
الهوية تصبح باستخدامها مثل الدين. لم نعد نفهم أو نميز بين الدين والعرف، بين الهوية والقومية، بين الانتماء والتطرف. نحتاج ربما للعودة إلى الإنسان نفسه. قبل أن أتأمل شكل هويتي، أحتاج تأمل ذاتي كإنسان. ما الذي يجري بالإنسانية؟ علينا أن نلتقي من جديد مع إنسانيتنا، ومن ثم نستطيع أن نتأمل هويتنا ونحددها.
انطلقت في السنوات الماضية العديد من دعوات لتجديد الخطاب الديني برعاية ودعم حكومات عربية مختلفة، وسرعان ما تراجعت، كيف ترين صعود مثل تلك الدعوات ثم تراجعها كأن شيئا لم يكن؟
لأن الخطاب الديني مدفوع من قبل جهات بعينها. كل يروج للخطاب الذي يحركه حراكه السياسي والدولي والإقليمي. في ظل انتشار المعلومات بكافة أشكالها ومصادرها من كافة الاتجاهات، لم تعد هناك جهة تسيطر على الترويج لخطاب بعينه. هذا من ناحية يؤثر في تفكير الناس، إلا أنه من ناحية أخرى مؤقت وسريع التغيير والتبديل. أن تسمع اليوم في اللحظات نفسها عدة خطابات عن الموضوع نفسه لعدة جهات كلها مقنعة وكلها تحارب الرأي الآخر. وعليه، لم تعد هذه الخطابات مؤثرة كما في السابق عندما كانت محددة وموجهة وممولة من مصدر واحد مهيمن.
المرأة حاضرة بقوة في أعمالك سواء الروائية أو البحثية كيف ترى وضع المرأة العربية الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين مقارنة بوضعها في بدايات القرن الماضي؟
وضع المرأة يتراجع كما يتراجع وضع المجتمع. لا يمكن النظر إلى وضع المرأة بمعزل عن المجتمع. إذا ما كنا نعيش بمجتمع وضع المرأة فيه سيئ، فهذا مجتمع وضع الرجل فيه سيئ كذلك، ووضع الأطفال ووضع العائلة. بدايات القرن الماضي تشكلت فيه النهضة النسوية التي فقدت اليوم الكثير من إمكانياتها وهويتها وتأثيرها. تلك الفترة شهدت ظهور نساء رائدات مثل هدى شعراوي التي قادت الحركة النسوية العربية وحثت عشرات بل مئات من النساء في مختلف الأقطار العربية واستطاعت أن تكون جزء من الحراك التحرري الوحدوي العربي.
كوني فلسطينية لا يعني أن حياة الاحتلال هي فقط حياة مقاومة مباشرة مع احتلال، ولكن بين طيات هذه الحياة تكمن حياة إنسانية بجدارة، حياة الناس، المرأة، الأطفال. المشاعر الإنسانية والتجارب الحياتية المختلفة هي نفسها
العائلة وتاريخها وذاكرتها معاني متكررة في كتاباتك برأيك إلى أي مدى يمكن للكتابة وغيرها من الفنون أن تحفظ هوية فلسطين؟
الكتابة الإبداعية ليست منفصلة عن التاريخ والذاكرة والتراث. بالمحصلة، ما ينتجه خيالنا هو عملية نقل للواقع بطريقة إبداعية. من جهة معينة، لدي وعي بأن كتابتي يجب أن تحافظ أو تسهم بحفظ الذاكرة الفلسطينية. ومن جهة أخرى، كتابتي هي منتج لما تفرزه حياتي ومحيطي وبيئتي، وأنا فلسطينية. ولكن في إطار منفصل أحاول وبوعٍ كذلك أن تكون كتابتي إنسانية. وإنسانية هنا تعني أنني على الرغم من كوني فلسطينية، ولا أدعي التفضيل بهذا، ولكن بالفعل الحياة الفلسطينية بها ما هو مختلف.
العيش تحت الاحتلال ليس بالعيش الطبيعي. لا يمكن أن يكون طبيعيا، ولا يمكن اعتياده. ولكن كوني فلسطينية لا يعني أن حياة الاحتلال هي فقط حياة مقاومة مباشرة مع احتلال، ولكن بين طيات هذه الحياة تكمن حياة إنسانية بجدارة، حياة الناس، المرأة، الأطفال. المشاعر الإنسانية والتجارب الحياتية المختلفة هي نفسها. اختلافها فقط بالمحيط والبيئة والظروف.. تغير فيها الأسماء والأماكن فقط.
ما هو عملك القادم؟
انشغالي بكتابة المقالات بمواكبة ما يحدث على الصعيد الفلسطيني ومتغيراته المركبة من اجتماعية وسياسية وإقليمية يأخذ الكثير مني. وكذلك محاولتي التركيز على البحث الأكاديمي فيما يتعلق بمشروع الدكتوراه الخاص بي. ولكني بمرحلة مراجعة أخيرة كما أرجو ذلك– برواية مذكرات كلب. يمكن عن هذه الرواية أن أقول إنها رواية حقيقية بجدارة لأنها تحكي قصة كلب عائلتي. أتمنى أن أنتهي من مراجعتها بالأيام القادمة.