عُرِفَ عن بدايات الحضارة العربية الإسلامية مطلع الدعوة النبوية قبل أكثر من ألفٍ وأربعمائةٍ وخمسين عاماً بأنها كانت بدايةً متواضعة تفتقر لأساسيات التدوين والكتابة، الأمر الذي انعكس بدوره لاحقاً على أزمات انقسامٍ فكريٍ تدعمه الصراعات السياسية المختلفة على عرش الحضارة التي أصبحت واحدة من أكبر الحضارات في وقتها.
رحل النبي محمد دون أن يجمع كلام الوحي الذي عُنيَ به كُتّابٌ حوله بطول الدعوة في كتابٍ يخلفه من ورائه ويحفظ سجلاً موثوقاً لطبيعة ومبادئ دعوته، ليكون أول ما تعززه الصراعات السياسية من انقسامٍ واختلافٍ فكريٍ داخل الجيل التالي للنبي وعصر الخلفاء الأربعة في الدين الإٍسلامي هو كلام الوحي نفسه.
شتات الوحي
في محاضرة للباحث المصري أحمد سعد زايد حول قصة تدوين القرآن وتحريفه، يقول بأن واحدةً من المعضلات التي واجهت الوحي هو نزول أو قول النبي للقرآن الذي كان متفرقاً، حيث كانت تمتد بعض السور بطول الدعوة بأكملها وبين المكي والمدني في صورةٍ شبهها أقرب للمنشورات أو التعليقات.
كما اعتبر أحمد زايد القرآن أول كتابٍ مدونٍ في اللغة العربية، والذي نقل الحضارة الإسلامية من طور النقل الشفاهي للنقل الكتابي.
يقول زايد بأن ذلك صعّبَ من عملية جمع القرآن ومعرفة السور، إذ إن نزول الآيات التدريجي وفقدان أغلب الحفظة في الحروب والغزوات وتراجع أعمال التدوين بالإضافة لشتات الوحي، أسبابٌ شكلت معوقاتٍ في طريق الصحابة من حيث هل هذه الآيات من القرآن أم لا، ثم لترتيب الآيات ضمن السور وفي أي سورٍ هي، وحتى هل هذا القرآن جامعٌ لكل كلام النبي الذي هو قرآن أم أنه ناقص؟
الكثير من الإشكاليات عرضت على المصحف وعملية جمع القرآن في المصحف المعروف اليوم، الأمر الذي أسس لانقساماتٍ فكرية ومذهبية داخل الدين الإسلامي على مدى قرونٍ لاحقة وحتى عصرنا الحالي.
مفكرون وباحثون معاصرون بين إسلاميٍ ولا ديني ينظرون لهذه الإشكالية كواقعةٍ تاريخيةٍ حقيقية تُشْكِلُ على المصحف الحالي، حيث تذكر كتب التراث التاريخي والسيرة طبيعة مشكلات الجمع واختلافاتها بالتفصيل، فيما يذهب مفكرون وباحثون آخرون لمحاولة دحض وجود مشكلاتٍ في عملية الجمع أو لا.
المفكر التجديدي في الفكر الإسلامي والمرجع الشيعي، كمال الحيدري، يرى بأن القرآن في حد ذاته كان مجموعاً في عهد النبي منكراً ادعاءات شتات المصحف وعدم جمعه إلا في عهد الخلفاء بعد وفاة النبي، قائلاً بأن المصحف في الوقت نفسه الذي جمعه الخلفاء كان مجموعاً في عهد النبي من قِبَل كتبة الوحي في مصحف وليس فقط في شذرات وكتب ولكن بالتأكيد بطريقةٍ مختلفةٍ عن طريقة جمع مصاحف الخلفاء.
الصحابي عبد الله بن مسعود
يُذكر في كتب التاريخ كما يقول الباحث أحمد سعد زايد بأنه كان للنبي كتبةٌ يكتبون الوحي، منهم عبد الله ابن مسعود وزيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم، إلا أن الشيعة ينكرون ذلك في حق معاوية بن أبي سفيان، ذلك أن إسلامه وارتباطه بالنبي كان بعد فتح مكة السنة الثامنة للهجرة، أي قبل وفاة النبي بثلاث سنين، في حين أن الدعوة منذ بداية القرآن استمرت لأكثر من ثلاثةٍ وعشرين عاماً.
المرجع الديني الشيعي كمال الحيدري، يقول بأن ذكر مصحف بن مسعود في الروايات التاريخية المرتبطة بعملية جمع القرآن دليلٌ على أن المصحف كان مجموعاً على عهد النبي، وأن الاختلاف وقع من بعد ذلك بين الصحابة في طريقة الجمع واختلاف المصاحف الموجودة.
مصحف ابن مسعود كما يصفه الحيدري، هو مصحفٌ مرتبٌ يبدأ بالسور المكية ومن ثم المدنية على خلاف الترتيب الحالي في المصحف الذي يتداوله المسلمون فيما بينهم، حيث كان التدوين فيه تدويناً مرتبطاً بالنزول التدريجي التاريخي طوال حياة النبي.
عبد الله بن مسعود، واحدٌ من الصحابة الأوائل الذين دخلوا الإسلام، حيث تعتبره بعض المصادر الإسلامية بأنه بين أول ستةٍ أسلموا أو أول عشرين شخصاً اتبعوا النبي إبان دعوته في مكة في السنة الأولى للبعثة، وكان من أوائل المسؤولين عن كتابة كلام النبي الذي يقصد به القرآن.
يذكر المحدث الترمذي في كتابه مختصر الأحكام (3/160) ومحدثون آخرون قول النبي “من أراد أن يقرأ القرآن رطباً كما أُنزِل فليقرأ قراءة ابن أم عبد” وقوله في الصحيح الجامع للألباني (3509) “رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد”.
الكثير من الأحاديث المروية عن النبي توضح منزلة الصحابي ابن مسعود وقربه من النبي والمهمة الموكلة إليه في جمع وتدوين القرآن، ما جعل من ابن مسعود قطباً معارضاً يُحسب له حساب عند عملية جمع القرآن في عهد الخلفاء ومعارضته لما يقومون به.
مصحف ابن مسعود
يروي مسلم في صحيحه (2464): أمر النبي للصحابة “خذوا القرآن من ابن أم عبد –فبدأ به- ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة”.
مسألة جمع القرآن في عهد الخلفاء أثارت الكثير من التساؤلات حول دوافع هذا الجمع في وقتٍ كان هنالك مجموعةٌ من الصحابة كعليٍ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود لديهم مصاحف مجموعة، في حين تذكر بعض الروايات بأن الجمع يثير الشكوك حول ما إذا كان مصحف الخلفاء هو المصحف الكامل أو أنه نقل ما قاله النبي بأمانة.
يقول سعد زايد إن عملية الجمع أصبحت مشروطةً فقط بأن يأتي الصحابي بشاهدين فقط على أنهم سمعوا هذه الأية من النبي ليتم إدراجها في المصحف ثم يثار الاختلاف حول مكان هذه الآية وفي أي سورة، الأمر الذي ترك لاحقاً عوائق أخرى أمام فهم المراد من النص القرآني واختلاف تأويله، وبالتأكيد إنكار وجود نصوصٍ معينة أو ادعاء نقصانها.
يقول سعد زايد إن عملية الجمع أصبحت مشروطةً فقط بأن يأتي الصحابي بشاهدين فقط على أنهم سمعوا هذه الأية من النبي ليتم إدراجها في المصحف ثم يثار الاختلاف حول مكان هذه الآية وفي أي سورة، الأمر الذي ترك لاحقاً عوائق أخرى أمام فهم المراد من النص القرآني واختلاف تأويله، وبالتأكيد إنكار وجود نصوصٍ معينة أو ادعاء نقصانها.
وقف ابن مسعود معترضاً على عملية جمع المصاحف في عهد الخلفاء، مدعياً بأن ما لديه هو أكمل وأكثر حقانيةً وواقعيةً مما يهرف به الخلفاء والصحابة، حيث يروي مسلم والبخاري في صحيحيهما عنه (2463-5002) قوله “والذي لا إله غيره، ما من كتاب الله سورةٌ إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آيةٍ إلا أنا أعلم فيما أُنزلت..”
اختلاف مصحف ابن مسعود
يروى أيضاً بأن الاختلاف الذي كان بين مصحف ابن مسعود والقرآن الحالي لم يكن مقتصراً فقط على طريقة الترتيب التاريخي للنزول، وإنما شمل اختلافاتٍ جمةً في النصوص، حيث شمل آياتٍ أطول وأكثر وأنكر وجود سورٍ وآياتٍ موجودةً في المصحف الذي يتداوله المسلمون اليوم.
سورٌ من قبيل الناس والفلق، يقول ابن مسعود بأنها ليست سوراً من القرآن وإنما كانت مجرد أدعيةٍ لا أكثر وكانتا غير موجودةٍ في مصحفه، في حين هي اليوم موجودة في المصحف الحالي.
يروي ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد (7/152) أن ابن مسعود كان يدعي بأن النبي أمر أن يتعوذ بتلك السور لا أنهما من آيات القرآن وأنه كان لا يقرأ بهما.
سورٌ أخرى كانت موجودةً في مصحف ابن مسعود وليست موجودةً اليوم، كسورة الحفد والخلع، وأن قنوت ما بعد الركوع من دعاء “اللهم إنا نستعينك ونستهديك…” كما جاء في الدر المنثور (ج6-ص421) إنما هو جزء من سورةٍ في القرآن في مصحف ابن مسعود.
لم تقف الاختلافات في المصحفين عند هذا الحد، ولكنها كان تختلف في متن النصوص نفسها كما تروي كتب التاريخ والحديث، ما يعني أن ذلك قد يهدد التأويل المتداول، والمختلف عليه أيضاً، لآيات القرآن الحالية وإمكانية حقيقة وجودها كنصٍ وحيانيٍ من عدمه.
السياسة أيضاً وصراعات الصحابة لم تنتهِ بعد ذلك، وكان لها أثرها في تشكيل المصحف الذي بين أيدينا، ما يدفع للتساؤل حول مصير مصحف ابن مسعود والمصاحف الأخرى التي لم يصلنا منها سوى الروايات التاريخية التي تحكي عن تلك الفترة، وتلك قصةٌ أخرى تتبع.