يقول الكاتب والمترجم رياض نسيم حاكياً عن إحدى ميثولوجيات الحضارات القديمة “حين انتهى الله من خلق الإنسان وأسكنه الجنة لم يكن بحاجة إلى أن يضيف نسبة من الكحول إلى دمه؛ فليس في الجنة من المتاعب ما يجعلها عسيرة على الاحتمال، وعندما طرد الإنسان من الجنة نسي أن يضع تلك النسبة، فوعده بأن يعوضه في الآخرة بأنهار من الخمور تساوي أضعاف الكمية التي كان يفترض به أن يشربها في الدنيا، لكن هذا لم يحل مشكلة الحياة العصية على الاحتمال، وهنا تدخل الشيطان فألهم الإنسان على ابتكار أنواع كثيرة من المشروبات الروحية، وسميت روحية؛ لأن الروح بدونها ناقصة”
"وتذهب الأسطورة إلى أن ملائكة الموت يقيسون نسبة الكحول في دم الميت فإن كانت صفرًا قذفوا به في الدرك الأسفل من النار؛ فمن تعود على جحيم الدنيا يسهل عليه التأقلم على جحيم الآخرة"
الإيثانول، مركب الكحول الذي تمتصه الأمعاء للدم ماراً بالقلب ومخترقاً أغشية الخلايا حتى الدماغ الذي يفرز على إثره هرمون الدوبامين الذي يشعرنا بالسعادة. المكون الأساسي في المشروبات الكحولية التي رافقت الإنسان منذ فجر الحضارة الإنسانية. لكن كيف يتكون هذا المركب؟
في عمليةٍ تسمى بالتخمير تجذب الفاكهة الناضجة كائناتٍ دقيقةٍ تدعى الخمائر، تتغذى على سكريات الفاكهة وتنتج بدورها مركب الإيثانول الكحولي.
تستمر عملية التخمير حتى تصبح نسبة الكحول في الفاكهة بين 13% و16% حسب نوع الفاكهة والمشروب الكحولي لتموت الخمائر بعدها بسبب المركبات التي أنتجتها في الفاكهة، الإيثانول، ويصبح الشراب كحولياً جاهزاً للاستخدام.
يقول نوح هراري إن الإنسان اكتشف الكحول بعد الثورة الزراعية منتجاً إياها من القمح في حضارات منطقة الشرق الأوسط في مصر والعراق حالياً، إلا أنه لا يوجد دليلٌ تاريخيٌ يمكنه أن يحدد بالدقة الاكتشاف الأول للكحول من قِبَل البشر.
أدرك البشر مبكراً قدرتهم على صناعة الكحول من الفواكه المحتوية على السكر، فصنعوا الشراب الكحولي من الكثير من الفواكه والنباتات المتواجدة لديهم في مناطق نشوء حضاراتهم.
يقول المفكر والباحث المصري أحمد سعد زايد إن البشرية صنعت ثلاثة أشياء لا حد لعددها وأصنافها في تاريخ حضاراتها المترامية على وجه البسيطة: الطعام، الأديان، وبالتأكيد الكحول.
واحدٌ من أقدم الأدلة في قصة البشر مع الكحول تأتي من الصين، حيث أظهرت بقايا أثارٍ تعود للفترة 7000 ق.م صناعة البشر للكحول من الأرز المخمر والدخن والعنب والعسل.
اكتشف العراقيون صناعة البيرة من الحبوب التي يزرعونها لتصبح مشروباً قومياً يتمتع بطابع القداسة لديهم لآثاره السحرية التي يتركها على أجساد شاربيها.
وفي اكتشافات علم المصريات تذكر الأدلة التاريخية أن بناة الإهرامات من الطبقة العاملة كانوا يتلقون حصصاً يومية من البيرة ضمن أجورهم التي تدفع لهم كعمال، في حين كانت البيرة المصرية المصنوعة من حبوب القمح المخزنة مشروباً متاحاً لكافة الطبقات الاجتماعية في البلاد، كما هو الحال أيضاً في بلاد ما بين النهرين.
حمل المصريون الخمر والنبيذ معهم أيضاً للحياة الآخرة، حيث لم يستغنوا عنه بعد الموت، فقد وجدت جرار كانت تخزن النبيذ والبيرة في المقابر الفرعونية ونقوشٌ تصور طريقة صناعة المشروبات الكحولية.
مع اكتشاف البيرة مبكراً، كان النبيذ، ونبيذ العنب على وجه الخصوص، إضافةً فريدةً في رف المشروبات الكحولية التي صنعها البشر على مر التاريخ.
مصنع أريني، أقدم مصنعٍ لصناعة النبيذ في التاريخ في أحد كهوف أرمينيا يعود تاريخ إنشائه للعام 4100 ق.م في واحدةٍ من أقدم البلدان إنتاجاً للنبيذ.
يعتقد بأن نبيذ العنب تم اكتشافه في بادئ الأمر في منطقةٍ تشمل إيران وأرمينيا وجورجيا، حيث تعود آثار استخدام النبيذ في هذه المناطق لأكثر من ثمانية آلاف عام لينتقل لأوروبا لاحقاً بعد ألفي عامٍ في اليونان التي أصبح فيها النبيذ الشراب الرائج لكل طبقات الشعب كما هو الحال في البيرة في مصر وبلاد ما بين النهرين والشام.
كان اعتدال المناخ وتنوع أصناف العنب ومحاصيله واحداً من أهم العوامل التي أسهمت في ازدهار صناعة النبيذ وتطوره في حضارة اليمن القديم وبلاد اليونان ليتحول فيما بعد إلى مشروبٍ قومي ذي بُعدٍ روحيٍ ورافدٍ اقتصاديٍّ هامٍّ لحضارات العالم القديم.
كانت نسبة الكحول في الشراب لا تتجاوز في أحسن الأحوال نسبة الـ 16%، ذلك أن الخمائر تموت في حدٍ معين نتيجة المركبات التي تنتجها مع تغذيها على سكريات الفاكهة وتتوقف بالتالي عملية التخمير.
في وقتٍ لاحق، اختراعٌ جديدٌ، يمكن وصفه بالثوري، مكن الإنسان من تطوير صناعة الكحول وإنتاج ما يسمى اليوم بالمشروبات الروحية، يفتح فصلاً جديداً في قصة الإنسان مع الشراب، اختراعٌ جديدٌ يمكنه من رفع نسبة الكحول في الشراب، التقطير.
كتاباتٌ عربية تعود للقرن التاسع الميلادي تصف العملية الجديدة في صناعة المشروبات الكحولية، اكتشف البشر بأن الكحول تتبخر في درجات حرارةٍ أقل من تلك التي يتبخر تحت تأثيرها الماء، وبهذا صنعوا طريقتهم في استخلاص كحولٍ أكثر خلاصاً.
تُغلى السوائل المخمرة على النار حتى تتبخر الكحول منها مارةً كبخارٍ عبر أنبوبةٍ لوعاءٍ يتجمع فيها بخار الكحول ثم يتم تبريدها من الخارج لتعود لحالتها السائلة، والنتيجة مشروبٌ أعلى تركيزاً من أي شرابٍ مخمرٍ عرفه الإنسان.
المشروبات الجديدة المقطرة، على عكس البيرة والنبيذ، لا تفسد ويستفاد منها للاستخدامات الطبية أيضاً ولعبت دوراً هاماً في تقدم الحضارات البشرية اقتصادياً، ثقافياً، وجغرافياً.
في العصر الحديث، تقدمت صناعة الكحول بشكلٍ غير قابلٍ للحصر لأنواع المشروبات التي يصنعها الإنسان، إذ قطعنا كبشرٍ مسافةً طويلةً منذ أول كأس بيرةٍ احتساها أسلافنا الأوائل في الصين ومصر وبلاد الرافدين، ولكن هذه قصةٌ أخرى.
Muwatin Media Network
Beyond Red Lines
United Kingdom – London
Contact us: contact@muwatin.net
Executive Director and Editor-in-Chief:
Mohammed Al Fazari
mkalfazari@muwatin.net
Muwatin Media Network
Beyond the Red Lines
United Kingdom – London
Contact us:
Executive Director and Editor-in-Chief:
Mohammed Al Fazari
All rights reserved to Muwatin Media Network ©
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: contact@muwatin.net
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري mkalfazari@muwatin.net
لتصلك نشرتنا الشهرية إلى بريدك الإلكتروني
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: contact@muwatin.net
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري mkalfazari@muwatin.net
جميع الحقوق محفوظة لشبكة مواطن الإعلامية©