في ظل المتغيرات الكبيرة والمتسارعة التي يعيشها العالم في العقود الماضية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعرفية، ومع صعود كبير للقوى اليمينية المتطرفة في الدول الغربية، وتعالى صيحات القومية والعداء للآخر وتزايد معدلات العمليات الإرهابية، يبدو المشهد العام لبدايات القرن الحادي والعشرين معقدًا للغاية.
ما يزيد من تعقيد المشهد حالة السيولة التي يعيشها العالم على مستوى الأفكار والمعاني والأيديولوجيات، في ظل تطور تكنولوجي هائل يتغلغل في كل نواحي حياتنا، لدرجة أصبح الحديث لم يعد تحكم الآلة في حياة الإنسان في المستقبل القريب بمثابة هاجس بل أمر مطروح وشبه مؤكد، وأصبح السؤال الآن كيف نخفف من حدة هذا التحكم وتجنب سلبياته المدمرة.
على مدار خمسة عشر عامًا في الفترة من 1990 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين، إلى عام 2006 قدم المؤرخ البريطاني إيريك هوبزباوم مجموعة من الأبحاث والمقالات محاولًا فهم المتغيرات التي يواجهها العالم في القرن الجديد في ظل ما يفرضه الواقع من أسئلة وتحديات تتعلق بالهوية والعولمة والحروب ومفهوم الدولة والسياسات النيوليبرالية وتداعياتها الاجتماعية ومدى قدرة الديمقراطية بصورتها الحالية على الاستمرار، مشيرًا إلى أنه كي نفهم الواقع وتحدياته ونجيب عن هذه الأسئلة علينا العودة للقرن العشرين بكل ما شهده من أحداث كبرى وتغيرات ضخمة نعيش جزءًا كبيرًا من تبعتها اليوم.
جمع “هوبزباوم” أبرز الأفكار والتساؤلات التي عاشها في رحلته البحثية في كتاب بعنوان “العولمة والديمقراطية والإرهاب”، داعيًا القارئ لكي يكون شريكًا في الرحلة عبر فتح باب نقاش دائم ومستمر ودعوات لتأمل واقعنا الشخصي والمجتمعي. يركز المؤرخ البريطاني في كتابه على خمس قضايا رئيسية وهي “الحرب والسلم في القرن الحادي والعشرين، وماضي إمبراطوريات العالم ومستقبلها في منظومة العولمة، وطبيعة القومية وسياقها المتقلب، وآفاق الديمقراطية الليبرالية، ومسألة العنف السياسي والإرهاب”.
في الفصول الأولى من الكتاب يتتبع “هوبزباوم” التغيرات التي شهدها القرنان العشرون والحادي والعشرون فيما يتعلق بقضايا الحرب والسلم “لو نظرنا إلى القرن على أنه ابتدأ من سنة 1914، لرأينا قرنًا مشحونًا بحروب متصلة، لم تتخللها إلا فترات قصيرة مرت دون نزاعات مسلحة، في الفترة ما بين 1914 و1945 شهدت حربان عالميتان، وأعقبتها أربعون عامًا من الحرب الباردة، وسنوات التسعينيات كانت مليئة بالنزاعات في أوروبا وأفريقيا وغرب آسيا ووسطها”، مشيرًا إلى أن التاريخ لم يشهد قرنًا أكثر دموية من القرن العشرين فقد قدر عدد من قتلوا فيه بسبب الحروب بنحو 189 مليون شخص، بالإضافة لضعف هذا العدد من المصابين.
حروب القرن الجديد
يوضح هوبزباوم أن الحروب منذ منتصف القرن العشرين تغيرت كثيرًا نتيجة العولمة والتطور التكنولوجي الكبير وسهولة حصول الأفراد على أسلحة فتاكة ورخيصة، بالإضافة لعدم قدرة الدول على ضبط حدودها فضًلا عن تفكك الاتحاد السوفيتي وما نتج عنه من انتشار غير مسبوق للأسلحة، ويرصد هوبزباوم مجموعة من الظواهر الجديدة الحاكمة لصورة الحرب والسلم في القرن الحادي والعشرين، ومن أبرزها أن العمليات المسلحة لم تعد حكرًا على الحكومات أو وكلائهم الرسميين.
كما أن القوى المتصارعة لا تجمع بينها صفات ولا أوضاع ولا أهداف مشتركة، سوى الرغبة في استخدام العنف، بالإضافة لعودة النكبات الإنسانية العامة بما في ذلك التهجير والتطهير العرقي، وتلاشي الخط الفاصل بين النزاعات الواقعة بين الدول والنزاعات الواقعة ضمن حدود دولة واحدة، أي بين الحروب الدولية والأهلية، حيث لم يعد ثمة تمييز واضح بين السلم والحرب “قبل حرب العراق عام 2003، لم يكن وصْفَا “الحرب” أو “السلام” ينطبق على الوضع في العراق الذي كان يتعرض لقصف شبه يومي منذ حرب الخليج من قوات أجنبية، كما أن أيًا من الوصفين لا يصدق على العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.
مشيرًا إلى أن الظاهرة الأكثر شيوعًا وخطورة هي عدم التمييز في الحرب بين المقاتلين وغير المقاتلين “تحول عبء الحرب على نحو متزايد من القوات المسلحة إلى المدنيين، الذين لم يصبحوا ضحاياها فحسب، ولكنهم صاروا هدف العمليات العسكرية، فالفرق بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كبير، إذ لم يشتمل عدد قتلى الأولى من المدنيين إلا على 5% في حين ارتفعت هذه النسبة في الحرب العالمية الثانية إلى 36% أما اليوم فإن 80% إلى 90% من المتضررين من الحرب هم المدنيون، أضف إلى ذلك أن معاناة المدنيين ليست متناسبة طرديا مع كثافة العمليات العسكرية؛ فحرب الأسبوعين بين الهند وباكستان كانت في نظر العسكريين مسألة بسيطة لكنها خلفت عشرة ملايين لاجئ.
التعايش مع النزاعات المسلحة
يرصد هوبزباوم أيضًا واحدة من الظواهر المهمة التي تشكل ملمحًا رئيسيًا في الحروب في القرن الحادي والعشرين وهي التعايش مع النزاعات المسلحة داخل حدود الدولة الواحدة “على مر السنوات الثلاثين الماضية، فقدت الدولة احتكارها التقليدي للقوة المسلحة، كما فقدت على نحو متزايد المعنى الأساسي للشرعية، أو على الأقل للأداء المقبول الذي يخول الحكومات بفرض أعباء كالضرائب والتجنيد الإجباري؛ فآلة الحرب صارت متاحة الآن على نحو واسع للجماعات الخاصة، ومستمرة لعقود دون أي استشراف للنصر أو التسوية كما هو الحال في كشمير، وأنغولا، وسريلانكا، والشيشان، وكولومبيا، حتى في الدول القوية المستقرة لم يكن من السهل أن تتخلص الدولة من جماعات مسلحة صغيرة مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي في بريطانيا، وحركة إيتا في أسبانيا”.
ويتساءل الكاتب كيف ستؤثر هذه التغيرات في التوازن بين الحرب والسلم في العقود القادمة، مشيرًا إلى أن تركيبة النزاع المسلح وطرق التسويات قد تغيرت تغيرًا كبيرًا، موضحًا أن الدول التي تتمتع باقتصاديات وتوزيع عادل للثروة على السكان ستكون نسبيًا أقل عرضة للاضطرابات الاجتماعية والسياسية من الدول الفقيرة التي ينخر في جسدها قدر كبير من عدم المساواة “تجنب العنف الداخلي المسلح يتوقف على ما تتمتع به الحكومات من قوى وأداء فعال، وما تتسم به من شرعية في عيون الأغلبية من شعوبها، فلا حكومة تستطيع اليوم أن تمني نفسها بشعب مدني غير مسلح، أو بدرجة من النظام العام كتلك التي عرفتها أجزاء كبيرة من أوروبا منذ أمد طويل، كما لا تستطيع أي حكومة اليوم أن تتجاهل أو تستبعد الأقليات المسلحة الداخلية”.
يشير هوبزباوم إلى أن التطور التكنولوجي الهائل وسيادة منظومة العولمة التي تفاقمت في نهاية القرن العشرين ومستمرة معنا إلى الآن تركت أثرًا ضخمًا وهائلًا ليس فقط على الحروب وإنما على كافة نواحي حياتنا “أننا نعيش في زمن تسارعت فيه خطى التاريخ، أو عملية التغير في حياة البشر ومجتمعاتهم وتأثيرها في البيئة العالمية، تسارعا مذهلا، فباتت تتقدم بسرعة تهدد النوع الإنساني والطبيعة معا، وتدفعهم إلى الهاوية”، موضحًا أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها تسبب في أزمات عديدة منها “رهاب الأجانب” الذي انتشر المجتمعات الأوروبية نتيجة الهجرات الكبيرة وفي ظل تراجع العدالة الاجتماعية وفرص العمل، شن الكثير من الأوروبيين غضبهم على المهاجرين لأنهم الفئة الأضعف في المجتمع وقد دعم هذا الهجوم الأحزاب اليمينية المتطرفة، في حين أن حقيقة الأزمة لا تتعلق بالمهاجرين بقدر ما تتعلق بمنظومة العولمة ذاتها والسياسات النيوليبرالية.
الإرهاب
ما يميز كتاب هوبزباوم بجانب تحليله الدقيق والبانورامي للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية التي شهدها القرن العشرون وبداية القرن الحادي والعشرين، هو عدم وقوعه في فخ التصورات اليمينة المختزلة المنتشرة في العقدين الماضيين والتي تشير لكون العرب والمسلمين هم مصدر الإرهاب ومنبعه، وفي هذا السياق يوضح هوبزباوم أن العنف السياسي أو ما أُصطلح على تسميته بالإرهاب، تطور عبر ثلاث مراحل ممتدة منذ سبعينيات القرن العشرين حتى الآن وهم:
- مرحلة ما سمي بإحياء “البلقنة الجديدة”، والبلقنة هو تعبير يقصد به التجزئة القائمة على استغلال القوميات الصغيرة والتي تؤدي في النهاية إلى نشوء دول جديدة مستقلة على حساب منطقة موحدة جغرافيًّا، ويعود أصل المصطلح إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث استخدم لوصف التفتت العرقي والسياسي الذي أعقب تفكك الإمبراطورية العثمانية في منطقة البلقان، ويشير الكاتب إلى أن هذه المرحلة كانت قائمة على دعوات قومية ومحاولة مجموعات نخبوية صغيرة الإطاحة بالأنظمة أو تحقيق الانفصال عن طريق عمليات إرهابية كان القصد منها لفت أنظار وسائل الإعلام مثل اغتيال ما سمي بـ خليفة الجنرال فرانكو عام 1973 على يد جماعة إيتا أو إختطاف رئيس الوزراء الإيطالي ألدو مورو عام 1978 على يد الأولوية الحمراء، ونشطت هذه الحركات أيضًا بقوة في أمريكا اللاتينية.
- أما المرحلة الثانية فقد جاءت في نهاية الثمانينات وكانت بالدرجة الأولى عرقية وعقائدية وتركزت في أفريقيا والمناطق الغربية من العالم الإسلامي، وجنوب شرقي آسيا، وجنوب شرقي أوروبا، وقد ظهر في هذه المرحلة نموذج في غاية الإرهاب وهو الانتحاري، بالإضافة للاعتماد على الاغتيالات السياسية وشهدت هذه المرحلة أيضًا ظهور الدور القوى والفعال لوسائل الإعلام وتحديدًا التلفاز الذي أصبح يملك قوة تأثير هائلة.
المرحلة الثالثة التي سادت في بداية القرن الحالي هى العنف السياسي الممنهج سواء من الإدارة الأمريكية في ظل الرئيس الأسبق جورج بوش، أو من خلال تنظيم القاعدة التي عملت كحركة لا مركزية صممت فيها خلايا صغيرة معزولة لتعمل من غير إسناد أو دعم جماهيري كبير، كما لم تتطلب قاعدة إقليمية تنطلق منها، لذلك فإن استمراريتها وقدرتها على المواجهة رغم صغر عدد أعضائها تبدو أقوى وأكثر شراسة.