على غرار مصطلح “الواقعية السحرية” الشهير، يمكننا أن نطلق على مرحلة فيروس كورونا “واقعية كابوسية” بكل ما تحمله من موت، ومرض، وهلع يمتد على مدار أكثر من عام حتى الآن، من كان يتخيل أن ما نشاهده أو نقرؤه في الأعمال الدرامية والتاريخية عن فواجع الأوبئة سنعيشه الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين وفي عز قوة وقدرة وهيمنة التطور التكنولوجي؟!
ربما توقع علماء كثيرون حدوث مثل هذه الكوارث الطبيعية مثلما توقعوا تداعيات كثيرة مرتبطة بالاحتباس الحراري والتلوث، وإلى الآن لم يلتفت لها العالم بالشكل الكافي، فمهما كان إدراكنا ووعينا إلا أن التنبؤ والتوقع يظل مختلفا عن الواقع المعاش، خاصة في ظل وتيرة الحياة المتسارعة والمتطلبات الاستهلاكية التي لا تنتهي، كل ذلك يجعل الإنسان متورطًا في واقع الحياة أكثر من أي شيء.
وفي ظل انتشار جائحة كورونا بشكل مفاجئ في كافة أنحاء العالم في بداية عام 2020 واجه إنسان “ما بعد الحداثة” واقعًا جديدًا لم يختبره من قبل. لحظات، وأيام، وأشهر صادمة وضعت البشرية في مواجهة العديد من الأسئلة الوجودية عن ماهية الحياة والوجود، والتقدم والمعرفة، القيود والحرية، الفرد والمجتمع، الأمل واليأس، الأنانية والتضحية، وغيرها الكثير من التساؤلات، والأفكار، والهواجس التي ولدت من رحم مواجهة الموت الطارئ.
في هذه القصة الصحفية نحاول التعرف عن قرب على تجارب ثلاثة أطباء عايشوا الجائحة في ثلاث دول ومجتمعات مختلفة، ومازالوا على الخطوط الأمامية للفيروس القاتل، نتأمل ونتساءل كيف عاشوا كل هذه الأشهر ملتزمين بالإجراءات الاحترازية التي ملَّ منها كثير من الناس في مختلف دول العالم، وكيف انعكست على نفسيتهم، وذاكرتهم، وكتابتهم أيضًا؛ فالأطباء الثالثة تجمعهم كذلك ممارسة الكتابة الأداة الأبرز لحفظ الذاكرة الإنسانية.
صورة سينمائية
بملابس واقية تغطي جسده كاملًا، ونظارة غطس كبيرة، وقناع ضخم يحيط الفم والأنف ظهر المدرس بقسم التخدير بجامعة القاهرة الكاتب والمترجم أحمد سمير سعد، الصورة التي بدت وكأنها قادمة من أحد أفلام الخيال العلمي، أو من منطقة منكوبة مثلما حدث في كارثة “تشرنوبل” أصبحت واقعًا وحقيقة يعيشها آلاف من العاملين في القطاع الطبي كل يوم في الخطوط الأمامية لمواجهة فيروس قاتل ومراوغ، مواجهة راح ضحيتها أكثر من 350 طبيب/ة وفقًا لنقابة الأطباء المصرية حتى الآن ومازال القوس مفتوحًا لمزيدٍ من الضحايا.
أسأل الطبيب الشاب عن هذه المعاناة اليومية المستمرة بلا بوادر لنهاية قريبة إلى الآن، فيبتسم بمزيج من السخرية والأسى قائلا “قدر ربنا؛ هنعمل ايه!” ويضيف متسائلًا:” هل عندك حل؟”. أعرف سمير منذ سنوات ككاتب ومترجم ومؤخرا اكتشفت أننا نسكن في حي واحد، ومنذ حينها تعددت لقاءاتنا، وخلالها تعرفت عن قرب على شخصيته الهادئة ودأبه وإخلاصه في عمله ومعرفته الموسوعية، وإيمانه بالقدر بنفس مقدار إيمانه القوي بالعلم. ربما هذا التكوين الشخصي والنفسي هو ما ساعده على الاتزان طوال هذه المدة، والقدرة على الاستمرار في ممارسة أدواره ووظائفه ومسؤولياته المتعددة سواء في الكتابة والتأليف أو الترجمة أو التدريس أو العمل بالمستشفى فضلا عن دوره كزوج وأب.
محاولات للتعايش
واحدة من أكثر وجوه الجائحة قسوة هي مدتها الزمنية الطويلة، وموجات الفيروس المتتالية الأمر الذي يجعل الإنسان في مواجهة حادة مع نفسه، فالبشر يحتاجون ماديًا ونفسيًا للحركة والخروج والسعي وعدم حدوث ذلك لفترات طويلة له نتائج سلبية عديدة جسديًا ونفسيًا، لذلك فرغم استمرار الجائحة إلا أنه بمجرد تخفيف بعض الحكومات للقيود والإجراءات الاحترازية، وجدنا آلاف البشر في الشوارع متناسين حجم المخاطر لصالح الاشتياق للحياة الطبيعية، لكن في وضع الأطباء والعاملين بالقطاع الطبي لا يمكنهم ذلك لأنهم -ببساطة- معرضون يوميًا لمخاطر مضاعفة ومباشرة مع الفيروس.
يشرح مترجم كتاب “ما الحياة؟” لإرفين شرودنجر مدى صعوبة الإجراءات الاحترازية التي يجب على الأطباء الالتزام بها “لأنني في الأساس طبيب تخدير ورعاية مركزة فمع الانتشار المجتمعي للفيروس كان علي اتخاذ الإجراءات الاحترازية كاملة، معضلة العمل في التخدير والرعاية المركزة أن أغلب ما نقوم به من إجراءات هي إجراءات محفزة لتكون جسيمات الرذاذ الصغيرة للغاية، عادة ما يكون الانتقال المجتمعي للفيروس في صورة الرذاذ فقط لكن مع أي إجراء محفز لتكون جسيمات الرذاذ الصغيرة للغاية يمكن أن تتعلق هذه الجسيمات في الهواء لفترات طويلة وهو ما يسهل انتقال العدوى ويجعلها محمولة على الهواء المستنشق نفسه، والمعضلة الثانية أنه حال الانتقال المجتمعي فكل شخص هو مصاب محتمل لأن العدوى قد تنتقل قبل ظهور الأعراض على المصاب.”
كتابة استثنائية
مثلما غير الفيروس من واقع حياتنا المعاش، تغيرت كذلك نظرة ورؤية وآليات الكتابة بالنسبة لأستاذ الجامعة وطبيب التخدير مشيرًا إلى أنه توقف تماما عن أي كتابة إبداعية خاصة في وقت ذروة تفشي الفيروس “كنت أبحث عن كل جديد يتعلق بالمرض وأكتب عنه لكنني أظن أن اللحظات الاستثنائية تجعلنا مستغرقين فيها تماما وهي تغير فينا كثيرًا، وتوسع من وعينا ومداركنا، وهو ما سينعكس بالتأكيد على أي نصوص مستقبلية، لكنني شخصيا مستغرق تمامًا في تفاصيل المشهد” يقول أحمد.
ويضيف صاحب كتاب “لعب مع الكون“: “بعد عام أظنني أهدأ بعض الشيء، أبعاد الموقف صارت أوضح وكل معرفة هي قوة، وعلى الرغم من أننا ما نزال لا نملك علاجا ناجعا للفيروس وكل علاجاتنا هي في سبيل دعم الجسم وتقليل المضاعفات لكن كل معلومة جديدة نعرفها عن الفيروس هي مصدر قوة وتقلل بعض الشيء من المخاوف خاصة وأننا والعالم قد اجتزنا الموجة الأولى والثانية الأكثر قسوة، وخلال أشهر قد تنجح التطعيمات في توفير مظلة واسعة من الحماية لمعظم الناس”.
محاولات للنجاة
بقدر قسوة جائحة كورونا وما تسببت فيه من خسارة في الأرواح وحالة من الهلع والذعر العام، بقدر ما كانت هناك العديد من المحاولات لتجاوز هذه الأحزان والمخاوف عبر البحث داخلها عن معاني جديدة للحياة، عن ميلاد آخر يخرج من رحم الموت.
من خلال هذه الرؤية المسكونة بالأمل مثلما يقول المسرحي الشهير سعد الله ونوس في أحد جمله الشهيرة. حاولت الطيبية والمدونة سارا الفارسي -وسارا هو اسمها وليس سارة- أن تتشبث بالأمل، واختارت أن تكون شتلة “المونستيرا” ونيسها في العزلة الإجبارية التي فرضتها الجائحة.
“المونستيرا” أو “القفص الصدري” كما يطلق عليها لتشابه أوراقها مع هيكل القفص الصدري من النباتات المنزلية غالية الثمن والنادرة التي تستخدم عادة في الديكورات الحديثة لأوراقها المميزة، ويعود موطنها الأصلي أمريكا الوسطى، “كانت بجوار الأريكة تشاهد معي التحليلات والنشرات الإخبارية مع ارتفاع وتيرة الفيروس كما شهدت العديد من المكالمات لصديقتي بأحد الدول الأوروبية والتي كانت تعاني من فزع فوق العادي كل بضعة أيام” تقول سارا.
الطبيبة المقيمة في إحدى الدول الخليجية انشغلت طوال هذه الأشهر للقاسية بمتابعة مسار ورحلة حياة ونمو الورقة الخضراء قلبية الشكل وازدياد مساحة سطحها ثم ظهور تلك التشققات كما كانت في صور الديكور البوهيمي، لكن هذه الخطوات تعثرت قليلًا “كنت أتابع يوميا آخر أعداد الحالات المصابة، وأشعر باليأس انظر لورق الشجرة فلا أرى تقدمًا أو تشققًا؛ فأشعر بمزيد من اليأس، وكأني داخل سجن مع نزيل غير متعاون، لا أجد منه سوى قسوة الورقة من الخارج كل يوم تزداد قساوة وكثافة في اللون إلى أن تخيلت أنها قد تتحول بالمساء لقطعة خشبية جافة تنتظر أن تقذف بنفسها تجاه وجهي” تقول سارا.
يوميات لوسترال
خلال هذه المرحلة عادت سارا للكتابة بعد فترة من “الرايتنج بلوك – انقطاع الكتابة” وانتظمت في تدوين يومياتها، بالإضافة للعمل على مشروع كتاب مؤجل منذ عام، كما فتحت صداقتها بشتلة المونتسيرا فضاءات جديدة للتأمل والسعادة والكتابة، تحاول سارا تذكر أولى المقاطع التي دونتها في هذه الفترة ضاحكة من ذاكرتها المراوغة، لكن بعد دقائق ترسل رسالة قصيرة على برنامج الماسنجر تتضمن واحدة من تدويناتها الأولى خلال الجائحة.
"استيقظت في أحد الأيام، لأُفاجَأ باللون الأخضر قد تفتّح قليلا كما أن الورقة صارت أرق، وقبل أن ينقضي أسبوع ظهر شق على طرف الورق الجانبي كأنه يخبرني أن ما قد شهدته من لون قاتم ما هو إلا إعلان بداية لهذا الانفراج، أصبحت تلك هي قصتي المفضلة أخبر بها صديقتي الأوروبية يوميا قبل النوم وأشاركها أهلي مع وجهات نظر متعددة عبر المكالمات الفيديو كول"
المفارقة أنه منذ بداية الجائحة توقفت سارا عن نشر يومياتها على صفحتها على فيس بوك كما كانت معتادة، واكتفت بكتابة تدويناتها في مفكرتها الشخصية، وآخر يومياتها المنشورة كانت بتاريخ 13 يناير 2020 وكتبت فيه: “حقيقة: الصوت لا ينتقل في الفراغ.. تأكدت من هذا عندما امتلأ قلبي بك فسمعت فجأة لأول مرة بعمر قلبي صوت صرير باب حجرتك، وصوت وقع أقدامك على السلم الخشبي لتغلق نافذة تطل على البحر.. سمعت أيضًا صوت تحميص الخبز الذي أعده بجانب شوربة العدس.. كرنفال من الأصوات وكأنك تلغي بحركة سحرية واحدة ٣٩ عامًا من الصمم”.
فرصة "خطرة"
بعد ثلاثة أعوام من العمل في ضاحية “لويشام” اللندنية، قرر الطبيب والكاتب الشاب طه سويدي أخذ خطوة جديدة في رحلته بمدينة الضباب، والانتقال للإقامة والعمل في مدينة “برايتون” على الساحل الجنوبي الشرقي.
لم يكن يتوقع الطبيب الشاب أن هذه الخطوة سيتزامن معها انتشار فيروس قاتل ومراوغ في كافة أنحاء العالم، تسبب إلى الآن في وفاة أكثر من ثلاثة ملايين من البشر وفقًا للإحصاءات الرسمية، بينما تشير التقديرات غير الرسمية إلى أضعاف هذا الرقم.
“ما حدث في بداية وصولي إلى لندن، ربما تكرر بشكل أو بآخر مع وصولي لمدينة برايتون؛ ففي لندن الوظيفة التي توفرت كانت في ضاحية (لويشام) واحد من أكثر الضواحي الفقيرة في لندن، والتي يشاع عنها بأنها الأكثر خطورة أيضًا” يقول طه.
ويضيف: “في البداية كنت قلقان، لكن بعد وقت قصير اكتشفت العكس، وحبيت العمل في المستشفى رغم الأعداد الكبيرة من المرضى التي تخدمهم ومعظمهم من الأصول الأفرو كاريبية” موضحًا أنه خلال هذه الفترة لم يشعر بالغربة، ولم يجد صعوبات في التواصل مع المرضى، ومازالت لويشام “الخطرة” تحتفظ بمكانة خاصة في قلبه.
حصار مستمر
عاش الطبيب الشاب لحظات قاسية في بداية الحائجة حينما خرجت الأمور عن السيطرة، وسيطر الارتباك والهلع على الجميع “كان المشهد شديد الارتباك في الأقسام الداخلية، تجد نفسك في فريق تزاملك طبيبة أمراض النساء، طبيب أشعة، طبيب جراحة، استشاري باثولوجيا، كلنا نقوم بمهام أصغر طبيب متدرب في لحظة استثنائية، ولا يمر يوم حتى تسمع عن إصابة أحد الزملاء” يقول طه.
يستطرد طه في تأمل رحلته مع فيروس كورونا قائلًا:”عندما أستعيد المشهد، تقف ذاكرتي عند حدث بعينه. في أحد أيام العمل، استدعاني ممرض لمناظرة مريض في جناح العزل، وكان هذا المريض يقاتل نزيفًا ما بعد جراحي آملاً في التعافي من إحدى أصعب جراحات أورام الجهاز الهضمي وتدعي “عملية ويبل” وشاء القدر أن يصاب هذا المقاتل الشجاع بالكورونا أيضًا. ذهبت وناظرت حالته، كانت مستقرة، أخبرني أنه لا يشعر بأي ألم شديد، ثم سألني: هل تعتقد أنني سأنجو من الكورونا؟ أجبته بأن حالته مستقرة، وعليه فإن احتمالات شفائه منها قوية، شكرني، وتمنى لي السلامة”.
ويكمل: “عرفت بعد أسبوعين أنه نقل لمستشفى آخر حيث خضع لعملية جراحية، وتوفي إثر نزيف أثناء الجراحة. هذه القصة مشهورة في عالم الطب، قصة مرضى قد ينجون من أشد الأورام شراسة ويقتلهم التهاب رؤوي سخيف أو جلطة صغيرة”.
أمل مراوغ
في ديسمبر 2020 حصل طه على الجرعة الأولى من لقاح شركة فايزر”ألقتني الجرعة الأولى طريحًا للفراش لمدة يومين تقريبًا، كانت آلام المفاصل والعضلات شديدة، لدرجة تمنعني من الذهاب لعملي، وبعدها بأربعة أسابيع تحصلت على الجرعة الثانية والتي أضافت إلى آلام الجسد ارتفاعًا في درجة حرارتي لمدة يوم واحد فقط.”
يبلغ حجم من حصلوا على الجرعة الأولى للتطعيم في إنجلترا حتى نهاية شهر مارس أكثر من 30 مليون شخص، بينما حصل أكثر من 4 مليون على التطعيم الكامل، وفقًا للخطة المعلنة من الحكومة البريطانية التي تهدف من تطعيم كل البالغين بنهاية شهر سبتمبر 2021.
ويختتم طه شهادته قائلًا:"الأمل الحذر هو الشيء الوحيد الذي بوسعي امتلاكه. لقد نجت البشرية من أوبئة أشد فتكًا في عصور سابقة، وعاشت البشرية قرونًا طويلة قبل هذه اللحظة، بالإضافة إلى ذلك لدينا حاليا أربعة لقاحات تقريبًا، وبالتالي لدينا كل الأسباب الوجيهة للتمسك بالأمل في انتهاء هذا الكابوس، قد لا يكتب لنا مشاهدة النهاية، ولكنها ستصل.
ويضيف:”لو أنني تعلمت شيئًا من هذا الوباء فهو أن الإنسان محدود القدرة أكثر مما تصورتُ، وما يثير فضولي وقلقي بالطبع هو الكثير من الكتابات والدراسات التي تحذر من زيادة احتمالات حدوث جوائح مستقبلية بسبب أنماط الاقتصاد الحالية والتي توسعت في إزالة الغابات فزاد اختلاط البشر بالحيوانات البرية وهو ما ينذر بتطور فيروسات أشد فتكًا من الكورونا. أعتقد أنه لو كتب لوالدة فورست جامب معايشة هذه الفترة، ربما لأحبت مراجعة جملتها الأثيرة “الحياة صندوق شوكولاتة”.