مطلع إبريل الجاري، أصدر 104 جنرالاً في الجيش التركي بياناً يرفض مشروع شق قناة إسطنبول ويحذر من الانسحاب من اتفاقية مونترو، متخوفين من أن هذا المشروع والالتفاف على الاتفاقية يهدد استقرار منطقة البحر الأسود والأمن التركي بالنتيجة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وصف البيان بالانقلاب، فيما تم اعتقال قيادات عسكرية، في وقت رفضت قيادات وأحزاب معارضة مشروع حزب العدالة والتنمية، ليقابلها أردوغان بالسخرية مجددا.
في حين تدعي الرئاسة التركية والحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، بأن المشروع سيكون مساهماً في الحفاظ على البيئة، رئيس بلدية إسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، وصف المشروع بالكارثي، إذ إنه سيشكل دماراً هائلاً لتراث المدينة وشكلها التاريخي، في حين سيشكل أزمة جديدة في النقل ويهدد سكان الجزيرة الواقعة بين المضيق والقناة الجديدة بالتعرض للزلازل، ناهيك عن الآثار الكارثية على البيئة والتلوث.
قناة اسطنبول
قناة اسطنبول المائية الجديدة، مشروع طموح لشق قناة مائية لعبور السفن على غرار قناة السويس المصرية تصل بين بحري مرمرة والبحر الأسود ممتدة بطول 45 كيلومترا وبعرض 275 مترا وعمق 77 مترا آخر، لتقسم مدينة إسطنبول لثلاثة أقسام تتوسطه جزيرة بين قارتي أوروبا وآسيا.
يأتي مشروع القناة حسب الحكومة التركية لتخفيف الضغط عن مضيق البوسفور غرب إسطنبول والذي تمر عبره من وإلى الدول المطلة على البحر الأسود أكثر من واحدٍ وأربعين ألف سفينة مختلفة الحجم سنويا إلا أن خلف ذلك أسبابٌ أخرى هي محور إصرار تركيا على هذا المشروع.
اتفاقية مونترو
في مونترو سويسرا، العام 1936، وقعت تركيا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي اتفاقية سمحت للأتراك بتسليح مضيق البوسفور والدندريل وتنظيم عبور السفن الحربية والمدنية عبر المضيقين للبحر الأسود في حالة الحرب والسلم.
شكلت الاتفاقية تفوقا للسوفييت في البحر الأسود في وقت تنازلت فيه بريطانيا للأتراك لدفعهم بعيدا عن التحالف مع ألمانيا هتلر، أما الآن فهي على الأتراك عبء يستفيد منه الروس أكثر من الأتراك الذين لا يستطيعون منع دخول قوات البحرية، قد يحاول أردوغان التخلص منه عبر قناته الجديدة التي يريد شقها في اسطنبول.
أردوغان ووزير خارجيته صرحوا في أكثر من مناسبة بأنهم لا ينوون الخروج من الاتفاقية التي مازالت ساريةً منذ أكثر من خمسةٍ وثمانين عاما، ولكنهم أيضا يرفضون خضوع قناتهم الجديدة للاتفاقية، وإنما ستكون مشروعا يُدار بالطريقة التي يرونها هم.
بينما يرى معارضو القناة خاصة الجنرالات والأدميرالات الوقعين على بيان رفض شق القناة أن الانسحاب من اتفاقية مونترو أو المساس بها يعرض أمن تركيا للخطر، وأن تلك الاتفاقية ضمنت في الحرب العالمية الثانية لتركيا الوقوف على الحياد وجنبتها ويلات التورط في حرب عظمى.
قانون العبور البريء
تنص اتفاقية الأمم المتحدة للبحار على حق المرور العابر من المضائق الطبيعية دون فرض أي رسوم مقابل العبور، وهو ما تسميه في الفرع الثالث بالعبور البريء، وهو الأمر الذي تراه دول تشرف على مضائق مهمة في خط الملاحة الدولية بأنه اتفاقية تراعي مصالح الدول العظمى التي فرضته ويحرمها من مورد اقتصادي هام.
تحاول تركيا بمشروع القناة الجديد أن تتجاوز هذا القانون، إذ أن مضائق وقنوات العبور الصناعية كقناة السويس وبنما هي ممرات لا يشملها حق المرور العابر، أي أن هناك رسوما تتحصل عليها الدول المشرفة على هذه الممرات في خط الملاحة.
القناة الجديدة كقناة صناعية ستمثل موردا اقتصاديا هاما لتركيا، تستطيع عبره الالتفاف على القوانين التي تحرمها من تحصيل رسوم العبور من مضائقها التي تعتبر الطريق للبحرين الأسود والأبيض المتوسط.
خاصة مع حركة الطاقة والاكتشافات الجديدة والمتوقعة للنفط والغاز في البحر الأسود والتي تعني حاجة أكبر للقناة بالنسبة لتركيا ولدول البحر الأسود أيضا، إلا أن قواعد لعب جديدة تحمل الدول المطلة على التخوف من مثل هكذا مشروع رغم الحاجة له.
قواعد لعب أميركية جديدة
الروس حذروا على لسان خارجيتهم ورئيسهم من محاولة تركيا الخروج من اتفاقية مونترو، فيما يتخوفون من أن تمنح القناة الجديدة إذا ما رفضت تركيا خضوعها لاتفاقية المضائق تفوقاً أميركياً جديداً في الصراع على الحدود الروسية، وخصوصاً الأزمة الأوكرانية.
الأتراك أيضا كما قال وزير خارجيتهم بأن أمن البحر الأسود من اختصاص الدول المطلة عليه، ولكن معظم هذه الدول أصبحت أيضا جزءا من المعسكر الغربي في مواجهة المصالح الروسية وبعضها أصبح عضوا في حلف الناتو بالفعل.
الأميركيون كما تشير تقارير ينظرون للمشروع بأنه سيمنحهم تقدما بتجاوز الاتفاقية القديمة عبر القناة الجديدة التي لا تخضع لاتفاق العبور الذي تشرف فيه تركيا على مضائق العبور للبحر الأسود، ما يعني إمكانية تواجدها العسكري وحلف الناتو للضغط على الروس، كما أنه سيُسهم في تعزيز دورهم في الأزمة الأوكرانية الروسية.
آمال طريق الحرير
من زاوية أخرى تعتبر تركيا بوابة طريق الحرير الصينية الجديدة لأوروبا وممرها الخلفي بعيدا عن نفوذ الإمارات على موانئ جنوب الجزيرة العربية والبحر الأحمر.
تطمح تركيا بهذا المشروع لأن تحقق عائدات جديدة من طريق الحرير بجعل إسطنبول قبلة مالية جديدة تنافس دبي في المنطقة. الاتفاقية الإيرانية الصينية الجديدة، التي وقع عليها البلدان على خارطة طريق لتعاون وشراكة استراتيجية على مدى ربع قرنٍ قادم، تعزز هذه الطموحات لدى السلطان العثماني باعتماد الصين على ممر تجاري بري آمن عبر إيران وتركيا، وآخر بحري عبر مشروعها الجديد.
في نفس الوقت ترى الإدارة التركية أن بإمكانها إضعاف مكانة قناة السويس عبر طريق الحرير الذي يمر عبرها وقدرتها على خلق ظروف ملاحة أكثر سلاسة للربط بين دول البحر الأسود وسلسلة القوافل الآسيوية باتجاه أوروبا في توجيه الاعتماد على الحزام الصيني وممر القطب الشمالي.
فهل ينجح أردوغان في شق قناة اسطنبول ويخلق فرصا اقتصادية واقعية جديدة لتركيا أم تكون التسعة مليارات وربع المليار دولار تكلفة شق القناة ، إضافة للأضرار البيئية الخطيرة، هي التكلفة الباهظة التي يدفعها أردوغان من أجل التخلص من اتفاقيات دولية يراها ظالمة ومجحفة ؟