اليمن السعيد لم يعرف السعادة منذ عقود. اليمن السعيد عانى وما زال يعاني من الكثير من الجراح التي أزالت البسمة من على وجوه مواطنيه. بيد أن أهم مسبب لتلك الجراح، من وجهة نظري، هو “التحول الجمهوري” الذي تحول إلى لعنة بسبب ظهوره حول ملكيات وراثية مطلقة.
الجمهورية التي من المفترض أن تكون ديموقراطية، بدلا من أن تكون سببا في تقويض القبلية والطائفية والمناطقية، كانت سببا غير مباشر في تغذيتها وتعزيزها. الدول الخليجية النفطية التي تحكمها أنظمة وراثية مطلقة وتتشارك بعضها الحدود مع “اليمن”، لم تتمنَّ إطلاقا نجاح التجربة الديمقراطية في اليمن، وخاصة المملكة العربية السعودية.
وأرى أن طريقة تعامل الملكيات الخليجية مع التحول الجمهوري والديموقراطي في اليمن، تتكرر مرة أخرى إبان الربيع العربي، حيث دفعت هذه الدول إلى إفشال نجاح الثورات عن طريق ثورات مضادة كُرست لها أموال طائلة لو أنفقت على شعوب دول الربيع لكان حالها الآن أفضل بمراحل. وفي البدء، دعمت المملكة السعودية الملكية الإمامية في اليمن لأكثر من سبع سنوات، ضد التحول الجمهوري. كل هذا حدث تخوفا من نشوء جمهورية ناجحة في الجوار.
اليمن لا يحتاج إلى ثورة سياسية تغير الواجهة السياسية فحسب، اليمن يحتاج إلى ثورة فكرية تسبق وتتزامن مع الثورة السياسية. ثورة فكرية تقتلع القبلية والطائفية والمناطقية وتعزز لدولة المواطنة. لأن المشكل الحقيقي في اليمن هو سيطرة القبيلة ونخبتها على السلطة والثروة، الأمر الذي لم يهيئ لتحقيق إبدال اجتماعي في التركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني بعد الثورة على النظام الإمامي سنة 62، بجانب المال السعودي الذي لعب دورا محوريا في جُل الصراعات الداخلية في اليمن إذا لم يكن كلها.
وبعد الربيع العربي، رغم لعب دول الخليج دورا إيجابيا ظاهريا عبر المبادرة الخليجية في رسم خارطة طريق من خلال مؤتمر الحوار الوطني، إلا أنه في الحقيقة الدول نفسها وخاصة السعودية والإمارات ساعدتا في فشل هذه المبادرة عبر دعم وتمكين أذنابها في الداخل، إذ حوّل “صالح” و”هادي” و”الإخوان” و”الحوثي” المرحلة الانتقالية بعد الربيع لتصفية حسابات. وفي الحقيقة، حتى لو عدنا قليلا إلى الربيع العربي، فسنلاحظ أنه رغم توافر الأسباب لحدوث ثورة الربيع في اليمن، إلا أن السبب الحقيقي وراءه كان هو اختلاف نخبة القبيلة اليمنية التي كانت تسيطر على السلطة والجيش في نظام صالح.
اليمن يحتاج إلى ثورة فكرية تسبق وتتزامن مع الثورة السياسية. ثورة فكرية تقتلع القبلية والطائفية والمناطقية وتعزز لدولة المواطنة
بيد أن كل هذا يبقى كلاما نظريا غير قابل للتطبيق في ظل عدم وجود شخصيات وطنية فاعلة ومؤثرة غير مرتهنة للخارج في مواقفها وخطابها. لا أحد ينكر حجم تأثير جيران اليمن وخاصة المملكة السعودية في الداخل اليمني بسبب أموال النفط الطائلة التي تملكها في شراء ذمم الداخل، وإسكات المجتمع الدولي عن حجم تداخلاتها وعبثها في الداخل اليمني، فضلا عن عدوانها الغاشم العبثي، غير المبرر إطلاقا، على الشعب اليمني.
إلا أنني مؤمن إيمانا كاملا، لو وجد اليمنيون شخصيات وطنية مخلصة غير مرتهنة للخارج ولديها خطاب وطني، لالتفوا حولها، واستطاعوا مواجهة تدخلات المملكة السعودية وغيرها من الدول. ولنا في صمود جماعة حركة أنصار الله “الحوثي” عبرة، ولو كان في الحقيقة على حساب بقية الشعب والدولة بشكل عام.
ما زلت مؤمنا أن الحرب التي حدثت ضد الشعب اليمني عبثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولو هناك شيء أفتخر به كعماني، هو عدم دخول عمان مستنقع هذه الحرب. وأذكر هنا تصريح يوسف بن علوي، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، في بداية الحرب إذ قال: “لا نريد أن يُسجل التاريخ أن عمان اعتدت على اليمن؛ فهناك مشاعر قوية جياشة لدى العمانيين تجاه اليمن..
ونعتقد أن اليمن لم تعتدِ علينا، ولم يُصدر منها أي موقف يضر للسلطنة، ولا مبرر لنا للتدخل فيها..”. ولهذا حجة النظام السعودي في حربه العبثية على اليمن وشعبها، أنها حرب دفاع استباقية عن الدولة السعودية ضد تدخلات جماعة الحوثي ودولة إيران، لا يمكن تقبلها على أي مستوى. فلو كان لدى النظام السعودي مشكلة مع النظام الإيراني، فلماذا لم يتوجه إلى إيران مباشرة! أما الموقف من الحوثي؛ فأقول ما قاله أحد الأصدقاء من المعارضين السعوديين: لو تدخل الحوثي غاشما على بلدي، لوقفت مع الدولة السعودية ونظامها ودافعت عن عرضي.
حركة أنصار الله، رغم خلافي الفكري والسياسي معها، وأراها مليشيا قروسطية، ويكفي أن أذكر مقتطفًا من خطاب عبدالملك الحوثي، زعيم الحركة، بتاريخ 24 أبريل 2021، لكي ندرك حجم تخلف الجماعة وانفصالها عن الواقع: “الحق في التشريع عندنا كمسلمين هو خاص بالله.. حق إلهي لا يجوز أن نقر به لأحد. التشريع لله وحده، فقط صياغة قوانين على ضوء هدى الله، لأننا لا نحتاج إلى أن نتأثر بالغرب الذين انفصلوا عن الله وعن الالتزام بهدى الله وشرعه.
في واقعنا كمسلمين نحرص على أن نبني مسيرة حياتنا على أساس هدى الله والشريعة الإسلامية مصدر كل التشريعات”؛ إلا أنني بكل صراحة لا أخفي إعجابي بصمودها ضد عدوان غاشم مستمر حتى الآن قرابة سبع سنوات، بل العكس، أنصار الله الآن أقوى من ذي قبل بكثير ويكاد في الحقيقة هي من تتحكم بمسار الحرب والمفاوضات والشواهد كثيرة. كل هذا حدث ويحدث رغم المظلة الدولية لهذا العدوان، للأسف، بحجة إدراج اليمن تحت الفصل السابع واستغاثة الشرعية.
كل هذا حدث ويحدث رغم الترسانة الهجومية المتقدمة جدا، والموازنة المليارية للحرب التي خصصتها دول العدوان! وما زلت مصرا على استخدام مصطلح “عدوان” الذي تستخدمه جماعة الحوثي، لا أتفق مع غاياته، ولكني أتفق على استخدام هذا التوصيف بناء على نتيجة هذا التدخل الغاشم، سواء كان على مستوى الضحايا الذي خلفه هذا العدوان، أو حتى على مستوى البنية التحتية، فضلا عن نتائج العدوان الجيوسياسية والإستراتيجية السلبية.
كل ما سبق يعطينا مؤشرا واحدا لا غبار عليه، اليمن قادر على أن ينتفض بكل قوة ويتصدى، بل يستأصل أي سرطان خارجي، وأي سرطان داخلي، لو كانت هناك شخصيات وطنية تجمع عليها كل أطياف المجتمع اليمني، يُعرف عنها ابتعادها عن أي خطاب مناطقي أو طائفي أو قبلي، وكذلك بالتأكيد ليست عليها شبهات فساد. شخصيات قادرة أن تقدم خطابا وطنيا علمانيا جامعا. هل هذا ممكن.. هل هناك فعلا شخصيات يمنية تتحلى بهذه الصفات؟ هذا سؤال يستطيع اليمنيون أنفسهم الإجابة عليه.
*مقدمة ملف “اليمن.. التحديات والمآلات”