ثمة عادة، ثابتة إلى حدٍ ما في غزة في شهر رمضان، إذ تمتلئ الحارات بألعاب خفيفة للأطفال. يجري تركيب هذه الألعاب في أول أيام رمضان وتستمر حتى عيد الفطر. تمثل هذه الألعاب وسيلة فرحٍ مؤقتة لكثير من الأطفال، خصوصاً أمام قلة تواجد هذه الألعاب في الأيام العادية من جانب، وعدم اعتياد الأطفال على الذهاب لـمدن الملاهي من جانب آخر، إثر حالة الفقر التي يعانيها أكثر من نصف سكان القطاع.
لكن حتى هذه العادة، اختلفت ومُنعت، إثر تفشي وباء كورونا في غزة، ما أفقد الأطفال وسيلة فرح كانوا ينتظرونها، وأفقد آخرين مصدر رزقٍ مؤقت كانوا يراهنون عليه في تحسين أوضاعهم المادية.
ملاهي حارات غزة: فرح ورزق "على قد الإيد"
بشكلٍ شبه يومي، يخوض يوسف النجار مع طفله أحمد حواراً من نوع مختلف، إذ يسأل أحمد والده عن السبب الذي منع جارهم من نصب الأرجوحة في حارتهم. بالنسبة لأحمد، وأطفال حارته، لا يمثل شهر رمضان في نظرهم سوى أنه موسم نصب الأراجيح والألعاب الخفيفة الأخرى كالـ”ترامبولين” في الحارة.
في مثل هذه الأيام، اعتاد أحمد إلى جانب غالبية أطفال حارته الواقعة وسط مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، أن يقضوا غالبية أوقات يومهم في شهر رمضان وهم يستمتعون بركوبها.
يشرح الوالد أن أسئلة أحمد تتطلب، جهداً كبيراً منه، إذ يحاول الإضاءة لطفله ذو الـ 10 سنوات، بشكل مبسط على الأزمة التي سببها تفشي وباء كورونا في غزة، وانعكاسها على حياة الناس في القطاع. لكن في النهاية ينتهي الحوار بإلحاحٍ مستمر على الأرجوحة، يصل حد البكاء، فيما يكون الوالد قد بلغ نهايته من محاولات تطييب خاطر ولده الفاشلة.
يقول النجار إن الألعاب "كانت جزءا من هوية رمضان بالنسبة لأطفال الحيّ. عندما تخبرهم أن رمضان اقترب، فإن ذلك لا يعني لهم سوى أن الأرجوحة التي ينتظرونها على وشك العمل، وأن أيام اللعب والفرح ستستمر حتى العيد".
يقول النجار إن الألعاب “كانت جزءا من هوية رمضان بالنسبة لأطفال الحيّ. عندما تخبرهم أن رمضان اقترب، فإن ذلك لا يعني لهم سوى أن الأرجوحة التي ينتظرونها على وشك العمل، وأن أيام اللعب والفرح ستستمر حتى العيد”.
ليس النجار وحده من يعاني، إذ صدرت أزمة فيروس كورونا، النقاش نفسه لكثير من الآباء في معظم مناطق قطاع غزة. إلى غرب القطاع حيث يقع مخيم الشاطئ للاجئين، يجد الوالد يحيى ظاهر نفسه في حالةٍ شعورية مؤذية حين يطلب من طفله أحمد الذهاب لأرجوحة قريبة كما أيام رمضان الماضية.
بحسب ظاهر، يعكس هذا النقاش ضمنياً، حالة عجزٍ يعاني منها كثيرٌ من عائلات غزة، بفعل قلة الإمكانيات المادية، التي تمنعهم من توفير وسائل لعبٍ مختلفة لأطفالهم، إلى جانب قلة مدن الملاهي في القطاع، هذا عدا عن طبيعة المعيشة في المخيمات. ويشرح ظاهر أن منع نصب الأراجيح والألعاب بسبب الأزمة الصحية التي يعيشها القطاع “كسرت خاطر الأطفال”، وكشفت عن ضعف حيلتهم أمام أبسط مطالب أطفالهم وهي: أرجوحة.
ويقول ظاهر وهو عامل بناء، إن الأمر لا ينحصر تماماً في موضوع الدخل المادي، بل يضاف إليه المكان الذي تعيش فيه. يسكن ظاهر وعائلته المكونة 8 أفراد في بيتٍ لا تتجاوز مساحته الـ 80 مترًا، وهو كما يقول “لا يتسع حتى لكرسي إضافي، فما بالك حين تضع أرجوحة في قلب البيت”.
على الجانب الآخر، تمثل هذه الألعاب مصدر دخل مؤقت لكثير من الشبان والعائلات، في وقتٍ وصلت فيه نسبة البطالة في قطاع غزة الذي يسكنه أكثر من مليوني نسمة، لـ(49%)، وترتفع إلى (70%) بين الخريجين الجامعيين، في حين تجاوز معدل الفقر (53%)، ويعتمد (80%) من أهالي غزة على المساعدات الإغاثية المقدمة من المؤسسات الدولية.
يروي لنا يوسف المدهون (26 عاماً)، الذي اعتاد أن ينصب أرجوحته في حارته شرق مخيم جباليا للاجئين، أن أزمة كورونا حرمته من دخلٍ مادي كان يعتمد عليه في مثل هذه الأوقات في إعالة نفسه وعائلته. ويقول إنه كان يحصل من خلف العمل في أرجوحته أجرة تقرب الـ50 دولار يومياً، كانت تكفي يومياً لتغطية مصاريف عائلة المدهون والتزاماته الشخصية كما يقول، مضيفاً: “إلى جانب البسمة في حضرة الأطفال، تحولت الأرجوحة إلى جزء من عاداتي في رمضان والعيد”.
يزفر بضيق، ويُكمل: ” فيروس كورونا، حرمنا من هذه العادة المفرحة لي ولأطفال الحي”.
كما المدهون، امتنع الشاب قيس الدرة من مخيم رفح جنوب القطاع من نصب أرجوحته هذا العالم، وللأسباب ذاتها، خشية العدوى من جانب، والإغلاق ومنع الشرطة في الأماكن الحيوية والمكتظة من جانب آخر.
يقول الدرة (29 عاماً) المعروف في حارته بـ"أبو الأرجوحة"، إن الأزمة الصحية أفقدته "مصدر دخل كنت أنتظره بفارغ الصبر، لتحسين أوضاع عائلتي المادية".
يعتمد الدرة الذي يعمل عتالاً، على الدخل الذي توفره له أرجوحته في تلبية متطلبات عائلته خلال شهر رمضان إلى جانب ضمان كسوة العيد لأطفاله الثلاثة. يتنفس، ويكمل: ” هكذا كنت أضمن فرحة أولادي وفرحة أطفال الحارة. لكن الآن، صدقاً، بالكاد قادر أمشي يومي، خصوصاً مع تعطل نصف الأعمال الأخرى بسبب أزمة كورونا”.
كورونا يعقد أزمات غزة المحاصرة
يعيش قطاع غزة المحاصر منذ ما يزيد عن 14 عاماً، في أزماتٍ معيشية واقتصادية معقدة. ومع تفشي وباء كورونا، دخل القطاع في أزمةٍ صحية بقطاع صحي متدهور أصلاً، إثر الحروب والحصار الإسرائيلي الذي قوض مقدرات القطاع. مؤخراً، زادت حدة الأزمة الصحية بعد موجة تفشي حادة لفيروس كورونا.
تشير تقارير صحية إلى أن الكثافة السكانية العالية في غزة، إلى جانب ضعف المقدرات الصحية عرقلت جهود السيطرة على الوباء، إذ يعد القطاع واحداً من أكثر المناطق كثافةً سكانيَّة في العالم. وبحسب تقاريرٍ يسكن الكيلومتر المربع الواحد في مخيمات قطاع غزة الثمانية للاجئين: 42 – 55 ألفَ شخصٍ.
ومنذ بداية أزمة كورونا في آب/ أغسطس الماضي حتى اليوم وصل إجمالي الإصابات بالفيروس في غزة إلى 100,405 إصابة، بينها 13,610 حالة نشطة، فيما سُجل وفاة 884 حالة.
مؤخراً، بات يٌسجل في غزة نحو ألفي حالة يومياً مصابة بفيروس كورونا، إلى جانب حالات وفاة تصل لـ 15 حالة يومياً.
وبحسب تصريحاتٍ لوزارة الصحة، كانت المراهنة في البداية على المناعة المجتمعية كحلٍ للسيطرة على الوباء أمام ضعف الإمكانيات، وقلة اللقاحات الواصلة لقطاع غزة. لكن تبدى مؤخراً، أن هذا الحل غير مجدٍ على الأرض، خصوصاً مع دخول القطاع في موجةٍ ثالثة من تفشي الفيروس.
إلى ذلك، قال الناطق باسم وزارة الصحة بغزة أشرف القدرة، لنا، إن هناك أكثر من 269 حالة مصابة بفيروس كورونا في القطاع تصنف ما بين خطرة وحرجة، و355 حالة تحتاج إلى رعاية طبية.
وبخصوص اللقاحات المتوفرة، قال إن الصحة في غزة حصلت على 110 آلاف جرعة فقط من لقاحات كورونا المختلفة، تكفي لـ55 ألف مواطن، لكنها لا تلبي الحد الأدنى من حاجة القطاع. فهناك 150 ألف كادر طبي وكبير سن وذوي أمراض مزمنة وضعيف مناعة، يحتاجون إلى 300 ألف جرعة، وعدد الجرعات المتوفرة، لا يكفي.