“إنّ القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيانيّة، التي لها مصدر إلهي وربّاني بالفعل، غير أنها ترجمة أنجزها الرّسول نفسه في خطاب وجّهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم. لهذا السبب، لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نقيِّم القرآن بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان، ولا يجوز لنا أن نتعامل معه كنصّ في العلم أو السياسة أو الأخلاق. وإذا فعلنا ذلك فإنّنا نقترف جرماً كبيراً، ونظلم القرآن ظلماً عظيماً”.
عبر هذا المقطع من مقدمة كتاب “الحداثة والقرآن” يناقش الباحث المغربي سعيد ناشيد واحدة من أكثر الإشكاليات والتحديات التاريخية والمعاصرة التي يواجهها المسلمون في تعاملهم مع القرآن؛ فالنص الإسلامي المقدس من جهة، هو ذاته ترجمة بشرية لصور الوحي الرباني بعث بها الرسول محمد عليه السلام وفقًا لثقافة، وظروف، ومدركات مجتمعه من جهة أخرى، وبالتالي فنحن أمام نص يجمع القداسة والبشرية وفقًا لرؤية الكاتب، وقد شهد التاريخ الإسلامي صراعات عديدة على مدار تاريخه لنفي هذه الطبيعية الثنائية للنص، وترسيخ رؤية أحادية تخدم فئات بعينها.
الكتاب الصادر عن دار التنوير يتميز ببساطة ووضوح أسلوبه، وتعدد وجهات نظره، واعتماده على التساؤل بشكل رئيس مما يفتح مساحات واسعة للنقاش والحوار؛ فالكاتب لا ينشغل بتقديم إجابات تامة ونهائية، بقدر ما يركز على التساؤل، والتفكير، والبحث، ولذلك لا يقدم ناشيد كتابه في صورة البحث الأكاديمي المعتادة حيث يقسم الكتاب إلى مقدمة، وأبواب وفصول، بقدر ما يقدمه في صورة محاور، وتساؤلات، وأفكار من أبرز عناوينها:”ما القرآن؟، وما الوحي؟، وما الإسلام؟، وهل هناك من نص مقدس؟، وهل الأصولية عودة للدين؟، والتفكير في الله، والشريعة والقرآن، وأخلاق الحداثة وأخلاق القدامى”.
من خلال هذا البناء القائم على التساؤل والتفاعل والحوار مع القارىء يقدم ناشيد شرحًا أكثر وضوحًا لمعنى، ودلالة، وحدود ثنائية “القداسة والبشرية” في النصوص الدينية التي لا تقتصر على النص القرآني فقط “أحاول فى هذا الكتاب أن نستلهم مقاربات كل من الفارابي وابن عربى وسبينوزا لمفهوم النبوة، وكذلك استلهم آراء عدد من المصلحين أمثال عبد الكريم سروش ومحمد الشبستري وأحمد القبانجي، وأيضا استثمر بعض المفاهيم والتصورات التراثية التي صاغها جورج طرابيشي في مشروعه النقدي، وقبل هذا وذاك اعتمد أساسا على علماء القرآن القدماء (السيوطي والقرطبي والسجستاني وغيرهم) وصولا إلى بعض المستشرقين على رأسهم تيودور نولدكه، لكي نستنتج فى الأخير أطروحة متكاملة قد تساعدنا على إعادة بناء العلاقة مع النص القرآني على أساس تعبدي قد يسهم فى طمأنينة النفس، بعيدا عن أى توظيف سياسي، أو تحريضي، أو إيديولوجي قد ينتج البغضاء والطغيان والتطرف”.
القرآن بين السماء والأرض
لا يستهلك سعيد ناشيد طاقته في مقدمات نظرية طويلة ولا يراوغ القارىء بألفاظ ومصطلحات معقدة ومبهمة وإنما يدخل إلى موضوعه مباشرة متسألًا “ما القرآن؟” ومن خلال هذا التساؤل يحاول تحرير النص الديني من كل ما علق به على مدار قرون طويلة من مسلمات وتأويلات في غير محلها، ويوضح ناشيد أننا عندما نتكلم عن القرآن عادة ما نخلط بين ثلاث ظواهر متباينة وهي:
- الوحي الرباني: وهو صور وحيانية استشعرها الرسول ويحاول التعبير عنها وتمثّلها، إمّا عبر قوّته التّخييلية، كما يقول الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا عن تجارب النّبوة، أو عبر القلب والوجدان كما يشرح أحمد القبانجي.
- القرآن المحمدي: وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى آيات شفهية، انطلاقًا من وعيه وثقافته وشخصيته وقدرته التأويلية.
- المصحف العثماني: وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعدّدة، ثمّ من مصاحف متعدّدة إلى مصحف واحد جامع.
وهنا يتساءل الكاتب أين "كلام الله" من هذا؟، ويجيب أننا لا نملك من "كلام الله" غير "كلام رسول الله"، مشيراً إلى أن الوحي الإلهي بعد أن صيره الرسول قرآنا محمدياً ثم صيره المسلمون مصحفاً عثمانياً، صار نصاً بشرياً.
موضحًا أن عدم قدسية القرآن ليست انتقاصاً منه ولكنها تأكيد لحقيقة أن القرآن مخلوق كما قال المعتزلة وكل مخلوق محكوم عليه بالنقص والنسبية، فالكمال لله وحده “باسم الإسلام وبدعوى حماية الإسلام ارتدت الثقافة الدينية الإسلامية عن مبدأ التوحيد الربوبي، وسقطت سهوًا أو قصدًا في شرك تقديس النص الديني، لقد أوصلنا تقديس النص الديني والعجز عن تخطي أحكامه إلى سبات العقل، وجمود الوجدان، وضمور الإرادة. أوصلنا إلى “إيمان العجائز” القائم على الخوف”.
العالم القديم والحديث
يشير الكاتب إلى أن القرآن جاء مخاطبًا العالم القديم وهناك فروق شاسعة بين العالم القديم والحديث في منظومة المعرفة والقيم والعلوم “معضلة النصوص الدينية لكافة الأديان أنها كتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسسات، والسلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعي أن تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أي نظام قيَمي أو معرفي فعال، بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة لكل التأويلات والتفسيرات مهما بدت متناقضة. غير أن الحديث عن القصور ليس انتقاصًا من الذات الإلهية كما يظن عبدة النصوص، ولكنه تأكيد لحقيقة بديهية: الكمال للخالق دون المخلوق”.
وفي هذا السياق يوضح ناشيد أن دور القرآن الأساسي هو التعبد، نتلوه ونرتله في الصلوات ونتواصل به مع الله، فالقرآن ليس دستورًا كما يزعم بعض من يستخدمونه لخدمة مصالحهم السلطوية، والقرآن ليس كتابًا علميًّا يحوي بين طياته نظريات علمية كما يزعم البعض الآخر بدعوى الإعجاز العلمي.
“الذين يقدّمون تفسيرات لبعض الاكتشافات العلمية عن طريق ربطها بالقرآن، مثل الحديث عن الذرّة والكواكب والاكتشافات الطبّية.. وغير ذلك. وهي اكتشافات معرّضة للتجاوز عن طريق اكتشافات جديدة تُخطّئها أو تنفيها، وتجعل القرآن الكريم الذي هو خطاب تعبّدي عرضة لتأويلات متهافتة تدّعي لنفسها العلم في حين أنها لا تتسق أبداً مع شروط العلم. بل هي تأويلات تضع القرآن في مواضع تقلّل من قيمته مدّعية تأكيد ما جاء فيه، وهو عمل لا يطلبه الخطاب القرآني نفسه. القرآن الكريم خطاب تعبّدي خالص. وهذا يكفي لمن يملك إيماناً سوياً وحسّاً سليمًا”.
اقرأ أيضا: تجليات الوحي في الأديان البشرية الكبرى
يستطرد الكاتب في شرح وجهة نظره قائلًا:”حين نظنّ أن القرآن المحمدي كلام صدر أو فاض مباشرة عن الذات الإلهية، ونزل بالتمام والكمال وبالمعنى الحرفي، فإننا ننتهي إلى تقديس كل أفعال الأمر الواردة فيه باعتبارها أوامر الله إلى الإنسان، أو هكذا نظن. وبالتالي يتحول الخطاب القرآني من رسالة تعبدية تنطلق من جوارح المؤمن، إلى وصايا أبدية تعطل الإبداع وتشل الإرادة. وبهذا النحو فإن أولئك الذين يعتبرون هذه الأحكام أبدية يحولون القرآن إلى عائق من عوائق التحديث”.
ويضيف:”المشكلة بالأحرى هي حين نعتقد بأن التقابل هو بين مفاهيم الخلافة والبيعة والشورى والإمامة والطاعة من جهة، وبين مفاهيم الديمقراطية والانتخابات والتصويت والتعددية والتداول على السلطة من جهة ثانية، هو تقابل بين جهاز مفاهيمي ديني أو إسلامي يمثل مضمون الوحي الرب، وجهاز مفاهيمي مدني أو غربي يمثل جوهر الثقافة الغربية. وهكذا تحديدا، سيبدو التقابل وكأنه بين إرادة الله من جهة وإرادة الحضارة الغربية من جهة ثانية. وهذا أيضا خطأ جسيم، بل خطيئة كبيرة”.
الإصلاح الديني
يشير ناشيد إلى أن أولى خطوات الإصلاح الديني تكمن في إدراك أن التحرر من مفاهيم وقيم العالم القديم القائمة على النظرة السحرية للعالم “الإصلاح رهين بتحرير الخطاب الديني من مفاهيم العالم القديم، أي تحريره من مفاهيم الطاعة والولاء والتحريم، ومن قيم العار والعورة والتابو، ومن وساوس التعويذات والرقية والتنجيم” مشيرًا إلى أننا بحاجة لخطاب ديني جديد يستبدل مفاهيم العالم القديم بمفاهيم تنتمي إلى عصر الحداثة بكل ما تحمله من قيم الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والفردية والعقلانية، وتوضيح الفروق في منظومة القيم بين العالم الحديث والقديم.
"في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة في سن الثانية عشرة يعد فضيلة، وكانت مشاركة أطفال دون سن الرابعة عشرة في الأعمال القتالية يعد بطولة، وكان القتل والاغتصاب أثناء الحروب والغزوات حقًا من حقوق المنتصرين، وكان تنفيذ عقوبة الإعدام أمام مرأى الجميع نوعًا من الإنصاف، لكن ضمائرنا، وحتى بنيتنا العصبية، لم تعد تتحمل اليوم مثل هذه الأعمال. فقد صرنا ميالين الى تجريم الكثير من فضائل القدماء، ما يؤكد أن العقل الأخلاقي يتغير عبر التاريخ".
لا يكتفي الكاتب بانتقاد أفكار المنهج السلفي فقط، ولكنه أيضاً يرصد إشكاليات مماثلة عند العديد من المفكرين المعاصرين مثل محمد شحرور ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الذين حاولوا أن يقدموا رؤية عصرية للقرآن فحملوها بما لا يحتمل أيضًا وأضافوا عليه مزيدًا من القدسية، والنتيجة أننا ندور منذ قرون في دائرة مفرغة وفقًا لوجهة نظر الكاتب.
“حمل المسلمون النص القرآني على الوجوه المحتملة، طرقوا كل الممكنات التفسيرية المتاحة، جربوا جميع المستويات التأويلية، من مناهج الظاهر إلى مدارج الباطن، مددوا القياس إلى أبعد مدى ممكن، جربوا الانتقائية بكافة متاحاتها، لكن لا جدوى ترجى. كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف إلى الأعلى ثم تتدحرج، فيعودون إليها من جديد”.
خلاصة الكتاب
في خاتمة الكتاب المحمل بالعديد من الأفكار والتساؤلات ووجهات النظر المتعددة تجاه القضايا الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، يحدد الباحث المغربي سعيد ناشيد خمس نقاط رئيسة يلخص فيها رؤيته لقضية تجديد الخطاب والفكر الديني وهم:
- أولًا: تحرير الخطاب الديني من النظرة السحرية للعالم بحيث لا يجوز عقلًا ولا يليق شرعًا أن تخرج النصوص والشعائر عن سياقها التعبدي ونستعملها كرقية شرعية أو وصفة سحرية لغاية الخلاص من الفقر أو الشفاء من المرض.
- ثانيًا: تحرير الخطاب الديني من التوظيف الإيديولوجي عن طريق التوقف عن استعمال الخطاب الديني من أجل السلطة.
- ثالثًا: تحرير الخطاب الديني من النفس الغاضبة التي تقوم بالتحريض والتجييش ودغدغة مشاعر الاحتراب والحمية والعدوان.
- رابعًا: تحرير الخطاب الديني من النزعة الطائفية.
- خامسًا: تحرير الخطاب الديني من مفاهيم الفقه التقليدي وهي مفاهيم رائجة ويقود استعمالها إلى تقويض وإجهاض ممكنات الحداثة السياسية من قبيل مفاهيم دار الإسلام ودار الحرب، وعقيدة الولاء والبراء، ومصطلحات كثيرة على شاكلة الجماعة والرعية وأهل الذمة.