التصق بالشراب والنبيذ بالذات طابعٌ قدسي لدى قدماء المصريين، ففي حين كانت الآلهة مخترعة الشراب، كان المصريون يتمتعون بشراب البيرة المتاح لكل أبناء مصر القديمة بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، ويتلقاه العمال كجزءٍ من حصصهم اليومية.
كانت بيرة الشعير والقمح مقدسةً لدى المصريين وتحمل في تاريخها معهم قصصًا عن علاقة الإنسان بالآلهة في العالم القديم وقصة عن مشاطرة الآلهة أسرارها معهم في خلق أصناف الشراب ومركباته.
حرص المصريون كما هو مكتشفٌ من أثار المقابر على اصطحاب جرار النبيذ معهم في رحلتهم للعالم الآخر والتزود بها لإكمال عيشهم هناك، فيما تصور نقوش الكثير منها طريقة صناعة النبيذ من العنب.
النبيذ كان مشروب الآلهة والطبقة الحاكمة في مصر القديمة، في حين كانت البيرة هي المشروب القومي المتاح لكافة أبناء الشعب صغارًا وكبارًا.
يذكر محمد شعبان في مقالٍ له على رصيف22 عن تبريد المصريين القدماء للبيرة التي عُرفت بإسم “هكت” بالاستفادة من هواء نهر النيل.
في ضريح الملك عقرب “سعرقت” الأول، ملك مصر العليا، 3500 ق.م، وجد علماء المصريات حوالي 700 جرةٍ من النبيذ المصري الذي دفن مع الملك وكنوزه بعناية كواحدٍ من أهم احتياجاته في العالم الآخر بعد الموت، الأمر الذي يوحي بالأهمية التي أولاها قدماء المصريين للنبيذ كشرابٍ مقدسٍ استخدموه في الطب وتنقية المياه واختص بشربه الملوك والكهنة، حتى يدفن معهم.
يقول ستيفان ستريخر في كتابه “النبيذ، السنوات الـ 7400 الماضية” إن الجرار التي عثر عليها كانت جرارًا مختلفة عن تلك التي يستخدمها اليونانيون، هذا بالإضافة إلى أن عملية التخمير وإعداد النبيذ كانت منقوشةً على جدران المعابد الفرعونية والأضرحة، في شكلٍ يوحي بالعلاقة المقدسة بين النبيذ وديانات المصريين القدماء لتنقش عملية صناعة النبيذ على جدران معابدهم.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقد كانت العلاقة بين شراب النبيذ والحضارة المصرية القديمة ذات خلفيةٍ ميثولوجية حملت تأثيرها على عقائهم وأساطيرهم حول الآلهة القديمة وارتباطها بالبشر في قصصٍ مختلفة، منها ما كان في ميثولوجيا الطوفان في نسختها المصرية.
اقرأ أيضا: قصتنا مع الشراب.. لقاء البشر الأول مع الكحول
تحمل مختلف حضارات الشرق وموروثها الميثولوجي الذي انعكس فيما بعد على الديانات الإبراهيمية رواياتها المختلفة والمتقاربة إلى حدٍ كبيرٍ عن ميثولوجيا الطوفان وغضب الآلهة على البشر واتخاذها قرار إبادتهم، ابتداءً من ملحمة جلجامش وحتى رواية القرآن.
المصريون أيضًا كانت لهم قصتهم عن الطوفان التي اشتركت في عدة نقاطٍ رئيسية مع الرواية الخاصة ببلاد ما بين النهرين والأديان الإبراهيمية، تختلف أسماء المنقذ في كل روايةٍ على حدة، وتشترك في وصفها للقصة بعذابٍ سماويٍ سخط به الإله على البشر الذين خلقهم، ولكنها تبدأ وتنتهي بصورةٍ أخرى لدى المصريين القدماء، في واحدة من أقدم خلطات الشراب الأحمر التي صنعتها الملائكة.
كان العذاب غضب السماء على البشر، ليرسل الطوفان ويغرق الأرض بمن عليها، لكن المصريين دون سفينةٍ تنقذ المخلص وأتباعه كان الطوفان في حد ذاته خلاصهم هم لا عذابهم.
يروي القصة عن الميثولوجيا القديمة الكاتب والباحث المصري، سليمان مظهر، في كتابه قصة الديانات، التي تحكي العلاقة المقدسة ما بين النبيذ وإنقاذهم من براثن الآلهة التي تفتك بهم.
في جلسةٍ لمجتمع الآلهة هتف إله الشمس في بقية الآلهة شاكيًا جحود أولئك البشر الذين خلقهم من فمه وتوقفوا عن عبادته وأفسدوا في الأرض وسخروا منه، الجد الأكبر للآلهة “نون” ينصح رع بأن يقيم العدل ويحاكم الظالم بظلمه والصالح بصلاحه.
رع لم يقتنع بذلك فغضبه كان كبيرًا على البشر، وخاف أن يفر المذنبون ويختبئوا في الصحاري والقفار، ليكون قرار الآلهة التسع أن عاقبوا البشر دون محاكمة.
حاتحور، عين رع الإلهية في صورة سخمت، كانت هي جلاد البشر في هذا العقاب القاسي الذي قرر به رع إفناء الجنس البشري.
بدأت حاتحور الانتقام لأبيها تلاحق البشر وتثخن فيهم القتل وتملأ الأرض دمًا، ليقف البشر عاجزين يملؤون الأرض من جنباتها بصرخات التوبة للإله رع وطلب المغفرة منه، ليطل رع من علاه ويرى مصر تغرق في الدماء وتملأ أرضها صفوف الجثث.
توقف رع وأخذته الرحمة بالبشر غير متصورٍ أن تفعل حاتحور كل هذا بخلقه الذين خلقهم، ليصرخ في ابنته أن تتوقف عن قتلهم، ولكنها للأسف لم تذعن له فغضبها كان عظيمًا عليهم، وهنا كان النبيذ.
ما الذي سيفعله رع؟ وكيف سيوقف حمامات الدم التي ترتكبها ابنته بحق البشر؟ الطوفان كان هو الحل، ولكن طوفان المصريين كان طوفان الرحمة والسعادة وخاتمة العذاب لمصر وأبنائها.
أرسل رع بإنهاء النهار لتتوقف ابنته ريثما يصنع بديعته الجديدة للمصريين طالبًا رسلًا أسرع من الهواء ليصنعوا له الحل.
يقول سليمان مظهر عن ميثولوجيا الطوفان المصرية، بأنه كان طوفانًا أرسل في طلبه رع من الرسل الذين ذهبوا مسرعين إلى جزيرة فيله لجلب ثمار الرمان والخشخاش، ليعصرها طحان هيلوبوليس ويمزجها مع مسحوق الشعير منتجًا مزيجًا مسكرًا بلون الدم الأحمر.
أغرق رع مصر بالنبيذ، لتصحو حاتحور على طوفانٍ من النبيذ الأحمر تظنه دمًا بشريًا، فظلت تشرب منه حتى سكرت وخدرت وهدأت ثورتها ونسيت أمر البشر، وعادت الحياة إلى مصر.
كان النبيذ أكثر من شراب لدى المصريين، فهو صنيعة إله الشمس رع، التي أنقذتهم وأبقت عليهم أمام أسوأ عذابات الآلهة التي حلت عليهم، وأسكرت حتى عين الإله، تشاطر المصريون النبيذ مع آلهتهم فرضيت عنهم ورضوا عنها.
Muwatin Media Network
Beyond Red Lines
United Kingdom – London
Contact us: contact@muwatin.net
Executive Director and Editor-in-Chief:
Mohammed Al Fazari
mkalfazari@muwatin.net
Muwatin Media Network
Beyond the Red Lines
United Kingdom – London
Contact us:
Executive Director and Editor-in-Chief:
Mohammed Al Fazari
All rights reserved to Muwatin Media Network ©
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: contact@muwatin.net
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري mkalfazari@muwatin.net
لتصلك نشرتنا الشهرية إلى بريدك الإلكتروني
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: contact@muwatin.net
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري mkalfazari@muwatin.net
جميع الحقوق محفوظة لشبكة مواطن الإعلامية©