"كل شعب يخسر أساطيره محكوم عليه بالموت بردا". -مثل قديم
رغم التقدم العلمي الذي شهده العالم في القرون الأخيرة ورغم النظريات العلمية المادية التي وضعت حدًّا للميتافيزيقا وأرست الفلسفات المادية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام العلوم الصحيحة، إلا الإنسان يبقى في حاجة ماسة إلى الأسطورة أو الخيال لحث العقل على التخلص من الحواجز ورغم محاولة تعويض الخيال الشعبي بالخيال العلمي إلا أن الخرافة أو الحكاية الخرافية مازالت تحظى بمكانة هامة عند الباحثين في ثقافات الشعوب.
ما الخرافة؟
تندرج الخرافة ضمن التراث اللامادي للشعوب، وتعتبر المحافظة على هذا النوع من التراث من أصعب الأمور، ذلك أنها (أي الخرافة) تختلف عن التراث الأثري وبقية الآثار التي تكتسي بالطابع مادي.
والتي يمكن ترميمها وتحصينها وتجديدها بالإضافة إلى ترسانة القوانين والتشريعات التي تخصصها كل دولة لتحصن هذا النوع من التراث الذي يمثل ماضيًا لتلك الأمة أو لمجموعة بشرية معينة.
هذه المسألة لا تنطبق على التراث اللامادي وخاصة “الخرافة” التي كانت ومازالت تشهد صعوبة في حمايتها وتأطيرها.
الخرافة بين صعوبات الحماية والتأطير
ومن بين أولى الخطوات التي خطت نحو حماية الموروث اللامادي هي مرحلة التدوين ورغم أهمية هذه الخطوة إلا أنها تجربة ليست سهلة بل كانت مليئة بالرهانات والمصاعب العديدة ومن أهم هذه المصاعب نذكر:
- اللهجة: ذلك أن الخرافات غالبا كانت تروى باللهجة العامية ومحاولة تدوينها بالعربية الفصحى ليس بالأمر اليسير فالفصحى لا يمكنها تضمين اللهجة وكل ما تحمل معها من خصوصيات والتي تتبلور في أزمة سميت “قصور المكتوب”.
- الطابع الأدبي: تعتبر الخرافة جنسًا أدبيًّا له بنيته السردية الخاصة وتحتوي على شخوص نمطية متمثلة في البطل الرئيسي الذي يحمل معه البرنامج السردي كاملا على طول الخط الزمني للخرافة، فهو بطل يحقق ذاته من خلال تغيير الواقع السلبي إلى آخر إيجابي، أما بقية الشخوص في الحكاية فتنقسم إما إلى شخوص مساعدة أو معرقلة وعادة ما يكون ليس لهذه الشخوص أسماء.
وكما سبق وذكرنا أن الخرافة كجنس أدبي خاص يتم نقله مشافهة عبر العصور والأجيال فهو يحمل في طياته علامات المشافهة وهذه العلامات لا يمكن تدوينها كتابة.
- التثليث: الذي يرمز إلى مرور زمن طويل، عندما يقول الراوي: يمشي يمشي يمشي، وهو دليل على أن الشخصية قد مشت كثيرا.
الصوت الروائي: ويعد من أهم علامات المشافهة والصوت الروائي إذ يستعمله الراوي بحسب نوعية الحدث أو الحوار، فيستعمل التفخيم والغلظة في الأحداث المخيفة ويستعمل الصوت الحاني في الأحداث السعيدة. - الحركات السردية: هي حركات تدعم الصوت الروائي وتعبر عن فحوى النص السردي وتُسهِم في إيصال النص والمعنى وتدعيم الحبكة الدرامية داخل نفس النص، بالإضافة إلى أنها تكوّن جسرًا وعلاقة خاصة بين الراوي والمستمع وذلك لجذب انتباه المستمع ومن ثمة تشريك المستمع في الحكاية لضمان ارتباطه بالخرافة وعدم تقطع حبل الفكرة وعدم السرحان.
يقول الراوي: "وحدوا الله يا جالسين" فيقول الجالسين بصوت واحد "لا إله إلا الله"
- الطابع العاطفي: عادة ما تتكون علاقة ذات طابع عاطفي بين الراوي الذي عادة ما يكون جدًّا أو جدة أو أحد كبار العائلة وبين المستمعين الذين يكونون عادة الأبناء أو الأحفاد، وإلى زمن غير بعيد كانت الخرافة هي المحمل الأساسي الذي من خلاله تورث الشعوب لأجيالها مجموعة القيم والأخلاقيات التي تسود مجتمعا ما.
الخرافة وتدوينها:
وبالحديث عن إعادة إنتاج الخرافة التي كرّست عن طريق حركة التدوين وينقسم التدوين إلى:
- تدوين ورقي
- تدوين سمعي بصري
قدم عبد العزيز العروي سلسلة قصص شعبية بالدارجة التونسية عبر الإذاعة وقد تم إنتاجها تلفزيونيا وعرفت باسم حكايات العروي.
تاريخيا ظهر التدوين الورقي للحكاية عامة منذ كليلة ودمنة الذي يعد من أول المواد التي تم تدوينها حوالي القرن الثالث ومن ثمة كتاب ألف ليلة وليلة (القرن 14).
في إيطاليا بدأ تدوين الأدب الشعبي منذ عهد النهضة (ق15-16)، أما في فرنسا فقد بدأ تدوين “الحكاية” في القرن 17 أي في عصر الكلاسيكي ومع بداية عصر التنوير.
أما ألمانيا فيمتد الهوس بالحكايات الخرافية إلى الادباء الألمان منذ فيلان المولود عام 1733، والشاعر هيردر، حتى توّج جوته ذاك الهوس الألماني بالحكاية الخرافية بإعادة إنتاج حكاية أماديس شعرًا، بل إنه اخترع حكايات خرافية -ميلوزين/ باريس/ الأفعى الخضراء/زهرة السوسن الجميلة- مُكرساً انتقال الحكاية الألمانية من الشفوية إلى أدب مكتوب، رفيع المستوى، عبر نزعة رومانتيكية تأملية، حيث الحكاية الخرافية عند جوته هي الحكمة بعينها، ولسوف يتجلى ذلك بوضوح في عمله الشهير فاوست.
مع ذلك فإن انتقال الحكاية الخرافية، وتأثيراتها في شعوب أخرى، قد وجد له انعكاسًا في الحكاية الخرافية الألمانية امتدادًا لحكايات الشعوب الهندو/جرمانية الآتية من الشرق الآسيوي، حيث الكثير من الباحثين يعتقدون بأن الشرق هو أول من بلور الحكاية الخرافية الشفوية وجعلها تتواتر عبر الحكي وحده على الأقل.
وهنا تجدر الإشارة أنه في الفترات القديمة، أي حوالي القرن الثالث والرابع قبل الميلاد، ظهر كتاب يقول عنه مؤرخو الأدب بأنه أول حكاية تدون على الإطلاق، ورغم أن هذه الحكاية تنتمي إلى جنس الرواية إلا إنها تحتوي بعض الأساطير أي أن مادتها أسطورية، وهي تعد أول تدوين للموروث الشفوي وكان ذلك في “نموميديا” أي منطقة تونس وبعض من شمال إفريقيا اليوم ويحمل هذا الكتاب عنوان “التحولات” أو “الحمار الذهبي” الذي كتبه كاتب نوميدي ومن ثمة تم تدوينه باللاتينية بعنوان “أفرلاين” وباليونانية بعنوان “أبوليوس” وبالفرنسية “أبولي”.
وعند التدوين باللغة العربية الفصحى فإن الفصحى غير قادرة على أداء اللهجات العامية خاصة فيما يسمى بالإيماءة أو التفخيم والترقيق للكلمات والحروف وهو أبرز التحديات التي سبق وتسميتها قصور المكتوب ثم هناك بعض المحاولات لنقل الحكاية الخرافية من الشفوية العامية الى الفصحى وهو يعد تصرفًا في الوثيقة التاريخية الشفوية وفيه إضافة بعض الصور وتسمى هذه التقنية الترقين illustration.
وفي الحضارة العربية الإسلامية من الأوائل الذين رقن الكتب هو الواسطي في القرن السابع للميلاد وهو الذي رقن مقامات الحريري.
و في إطار ترقين الحكاية تطرح نقطة في غاية الأهمية هي في علاقة بين النص والصورة إذ كما هو الشأن بالنسبة للحركة السردية هناك علاقة تكامل بين النص والصورة وهناك أيضا علاقة تكرار بينهما فالصورة تعيد ما يقوله النص وأحيانا تضيف تفاصيل لم يذكرها النص وأحيانا في حالة تكرارها نقع في الإسهاب.
كل هذه الإشكالات وأكثر تحف بعملية التدوين وهنا يمكن القول إنه في بعض الحالات فإن التسجيل السمعي البصري يكون في بعض الحالات أفضل من التدوين وهنا في حال الحكاية الخرافية لأن عملية للتسجيل أو الإنتاج السمعي البصري تحافظ على البنية السردية والقصصية للحكاية الخرافية كما هي.
الخرافة كتراث ثقافي غير مادي
صنفت وثيقة اتفاقية اليونسكو سنة 2003 الحكاية الخرافية ضمن باب التقاليد والتعابير الشفوية أي أن هذا التراث هو تراث حي لأنه يتجدد باستمرار ويتم نقله وتوارثه بواسطة النقل، إذ تحمله جماعات بشرية، هذه الجماعات تسمى كنوزًا بشرية، لكن باعتباره تراثا مادي أو شفوي فهو مهدد بالاندثار.
يُقال في المثل الأفريقي: "كلما مات شيخ اندثرت مكتبة"
كذلك النساء التي احترفن الحكي والقص الشفوي فقد نقص عددهن وقل الاهتمام بهن في ظل الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وعليه تجدر الإشارة إنه لابد من المحافظة على هذا الموروث.
ومن أفضل الطرق التي تم التوصل إليها هي إعادة الإنتاج، إذ إن تواصل سرد الحكاية الخرافية وإن في سياقات جديدة غير السياقات التقليدية داخل العائلة، كالاحتفاء في عدة أقطار عربية بمهرجان الحكواتي.
والحكواتي يعد حلقة مهمة جدا للحفاظ على هذا الموروث من الاندثار وإلى جانب الخرافة يمكن اعتماد التدوين سواء المكتوب أو السمعي البصري، إذ يتجلى فن الحكواتي بشكل واضح في العديد من المظاهر الدرامية العربية والتي تتخذ أشكالًا عديدة قد تكون ذات طابع طقسي ديني أو أدبي أو فلكلوري.
وهي تختلف في الظاهر باختلاف الأقطار العربية لكنها تلتقي في خصائص مشتركة كونها فنونًا شعبية تجمع فنونًا تمثيلية عديدة خصوصًا وأن هذه المظاهر الدرامية كانت قد أفرزتها طبيعة الواقع العربي آنذاك حيث تهدف إلى التسلية والترفيه وتمثل أيضًا اتجاهًا تربويًّا من خلال التوعية والوعظ الأخلاقي.
كيف استطاعت الحكاية الخرافية أن تصمد مقابل عالم التكنولوجيا وبحور الأفلام والروايات والمسلسلات؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تنقسم بدورها الى عنصرين:
- أولا: بنية الحكاية الخرافية السردية هي بنية ثابتة تيسر فعل التذكر والحكي والنقل لدى المتقبل والراوي.
- ثانيا: الإنسان بطبعه وخاصة الطفل ميال للخروج من الواقع لتفسير ما لا يجد تفسيره.
تمثل الخرافة حالة تعويضية للإنسان للخروج من واقع ضيق مبني على المادية والعقلانية، كنوع من السباحة في الخيال الذي يحمل إجابات الأسئلة الصعبة بعيدا عن شط وحدود المنطق.