بلا أي شك، يرفض الإنسان الحديث، وأنا من ضمنهم، أي اعتداء وإيذاء يطال أخاه، مهما كان مختلفا عنه في الدين والجنس والعرق واللون والميول. وهنا تحديدا، أتكلم عما يحدث منذ فترة في فلسطين وإسرائيل (حتى ننتهي من أزمة المسمى)، من صراع يتجدد كل فترة حول قضايا مختلفة تطال إدارة الصراع بينهما وشكل العداء المستحكم بينهم منذ عقود طويلة.
ورغم أن قطار السلام وعقد اتفاقيات السلام بين عدد من الدول الخليجية والعربية والإسلامية والدولية، قد أخذ في الزيادة والوضوح، إلا أن المواجهات الدامية بين الشعب الفلسطيني والإسرائيلي ما تزال مستحكمة وقوية ومتجددة، ودائما ما يصب عليها الزيت والحطب ونفخ الكير وتصفيق الدهماء، وخصوصا من تيارات الإسلام السياسي، السنية والشيعية، وتحديدا من الإخوان المسلمين.
مؤخرا، أعلنت الدول المنضمة إلى قائمة دول العلاقات مع إسرائيل، الإمارات والبحرين، أعلنا عن إدانتهما للعمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الدفاع الإسرائيلي، على خلفية قضية حي الشيخ جراح وما يحدث في غزة، وهو إعلان أتفق معه وأدعمه نظرا لصدوره من دول انضمت مؤخرا إلى اتفاقيات السلام مع إسرائيل، والتي يتم اتهامها دائما بأنها عاجزة عن نصرة الشعب الفلسطيني حتى بالكلام، وكأن الدول التي لم تعقد أي اتفاقيات سلام يقف جنودها بمحاذاة غرفة نوم نتنياهو وزوجته سارة بانتظار القبض عليهما.
ورغم تصاعد وتيرة الاحتقان وسقوط عدد من الضحايا، الفلسطينيين والاسرائيليين، إلا أن تلك المواجهات، إذا لم يوقفها عقلاء المجتمعين، فسوف تصل إلى ما لا يحمد عقباه، وهو ما يضع العالم، وليس العرب فقط، أمام تحديات ومواجهات مختلفة تعيد إلى الأذهان الحروب العسكرية وحروب المنازل والطرق والشوارع والعصابات، والنتائج -كما تعودنا على مدار السنوات-: مزيد من الألم والأذى والموتى.
فكيف يمكن أن ننظر بعد سنوات طويلة، وأدلجة كبيرة، وكتابة تاريخ جديد، كيف يمكن أن ننظر أو نشخص العقل العربي المسلم في كيفية تعاطيه مع القدس؟ كيف يمكن أن يكون مجرد نطق الاسم أن يثير عاصفة ودموعًا وحسرات وأنينًا وكراهية وانتقامًا وتدميرًا؟ كيف يمكن أن تكون فلسطين، ذلك الجرح النازف الذي لم يندمل حتى اليوم؟ كيف يمكن أن نقدم حلولا جديدة وأفكارا عقلانية ورؤية استشرافية وأطروحات سياسية متقدمة دون أن يتم قذفنا بالحجارة نفسها التي يتم فيها رجم الإسرائيليين؟ بل كيف يمكن أن نتكلم وننتقد ونتحاور إذا كان المقاتل لا يفرق بين العدو والناقد والمدني والكاتب والمحلل والمثقف والشاعر والحب والسلام؟
إنها أسئلة بلا شك ستبقى رهنَ النسيان والتجاوز وغض العقل عنها، بل والتعوذ من الشيطان وأمريكا وإسرائيل وأوروبا وبعض العرب والدعوة عليهم بالموت والهلاك والحرق حتى تهدأ النفوس وتنتفخ الأوداج زهوا بالأحلام والتمنيات وتخيل حفلات الشواء في الدنيا والآخرة.
لكن، ما هو باقٍ وسيبقى بالتأكيد، هو كل دعوة إلى استخدام العقل ونبذ العنف والبدء من جديد، هو إيمان كل صاحب حق يرى أن الحق معه في أن يعيد النظر، وأن يرى من جديد، وأن يخوض حرب الشجاعة في إجبار العدو والمختلف والقوي، في أن يستكمل شروط التفاوض من وجهة نظر المسيطر وليس الذليل، المشارك وليس التابع، الند وليس الأقل والأدنى.
قال جون بول سارتر في كتابه "تأملات في المسألة اليهودية": "الشعب الفلسطيني مظلوم كما الشعب اليهودي سيان. وهكذا يجب أن ننظر اليوم إلى كيفية معالجة الانتهاكات والتعديات التي تحدث في فلسطين وإسرائيل من كلا الجانبين. علينا أن ندعم في وعينا وعقولنا أن الظلم مرفوض، وأن إيذاء الإنسان، مهما كان مختلفا هو أمر مستهجن ومنبوذ ويثير الغثيان، وأن غاية الروعة والجمال أن يحظى الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي بدولة ديمقراطية علمانية تكون لهم وحدهم
من خلال انتخابات رئاسية دورية بين حاكم فلسطيني وحاكم يهودي، يبعدان الديانة الإسلامية واليهودية من الشأن السياسي، ويتفرغان لإدارة الدولة وحل معظم الأزمات والمشكلات عبر برلمان حقيقي يمثل الأمة الفلسطينية والإسرائيلية، على أن يتزامن ذلك، وبالضرورة، ووفق القنوات الرسمية والدولية، تغيير شامل يطال أنظمة الحكم وبنى المجتمعات في الدول العربية، بما يتناسب مع إقامة الدولة الفلسطينية الإسرائيلية الأولى، وحتى لا يقال في الأثر إنه كانت هناك دولة واحدة ديمقراطية في الشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين”.
إن المواطن العربي، في الغالب، وأكرر في الغالب، لا ينظر الى القدس إلا بكونها وجبة العشاء الفاخرة التي يستلمها في السجن. المواطن العربي، يغضب ويثور ويصب اللعنات والشتائم والاتهامات على آمر السجن وحكومة السجن وحكام السجن (طبعا في سريرته حتى لا يعدم)، إذا ما تقلصت وجبة العشاء أو إذا تأخرت أو تم إلغاؤها أو تقنينها، هو يريدها كاملة كما كانت كما استلمها أول مرة عند ولادته في السجن، هو يريدها نظيفة، معقمة، ولامعة ومشبعة كما ينبغي.
المواطن العربي، لا ينظر إلى سجنه، إلى اتساخ مكانه، إلى فساد حكامه، إلى تهتك وانهيار الأخلاق والذمم والتنمية والمستقبل، إلى ظروف قمعه، إلى سجانه الظالم، إلى أسباب سجنه الطويل وبقائه متقبلا وبالعا ومرتاحا ومتكيفا مع الذل والسحق والوصاية والخوف والكبت في مجتمعه. هو مستعد أن يتقبل الضرب والإهانة والجلد، هو مستعد أن يتكلم ويرفع الشعارات ويكتب في وسائل التواصل الاجتماعي صبحا ومساء (طبعا دون أن يخطو خطوة في طريق تحرير القدس الذي أخفوا بوصلته لأن الغالبية تتكلم ولا تفعل)، هو مستعد أن يرجم ويحرق من يوقظه من غفلته، هو مستعد أن يعبد الاستبداد إلا أن تختفي القدس أو تتهود، لأنها في خياله ووجدانه ومشاعره، هي عشاؤه الفاخر اليومي وملاذه النفسي واستقراره العاطفي في سجنه العقائدي والمذهبي والقومي والمجتمعي.
في الحقيقة، هكذا يشعر بعضهم وأراها الغالبية السوداء من الشعوب المغيبة، دون وعي منهم، أو دراسة أو اقتناع، عن حقيقة ما يجرى على أرض الواقع في وعن مسألة القدس من مصالح سياسية قذرة، وتحالفات كبيرة براغماتية بين أقطاب، يرونها عدوة بينما هم في الخفاء أصدق الأصدقاء.
المواطن العربي، هو مجرد أداة وصدى المجتمع الذي يعيش فيه ويتعلم منه ويخوض صراعاته فيه. هكذا يتقبل الديكتاتورية والسجان والفساد وسرقة ثروات وطنه وفرض الضرائب وقمع رأيه وسحق كرامته والتجسس عليه. المواطن العربي، لا يستطيع أن ينتقد الحاكم أو الدين أو العادات والتقاليد أو النظام وأغلبية المجتمع الذي يعيش فيه، لكنه بقدرة قادر يصبح عنتر زمانه وشمشون الجبار وقاهر المحيطات والبحار إذا ما تعلق الأمر بالثرثرة عن القدس ورفع الشعارات، لأنهم هكذا علموه منذ ولادته، وهكذا أغصبوه رغما عنه، وهكذا تم إخصاء عقله وعقلانيته وإرادته وذاته وشخصيته ورأيه.
هكذا يصبح طرزان وغريندايزر وسوبرمان، يشتم أمريكا ويريد أن يحرق إسرائيل ويدمر من يريد السلام، يريد أن يكون عشاؤه موجودا وغير مهدد بالاختفاء، بل يريد المزيد والمقبلات والمشهيات حتى يتقبل الله عبادته ويرضى عنه رجال الدين والفقهاء ويمسح على جبينه القطيع والغوغاء.
المواطن العربي لا يعلم كيف باستطاعته أن يحل أزمة فلسطين ومشكلة القدس وجيرانه اليهود. المواطن العربي لا يعلم كيف يحاور وكيف يفاوض وكيف ينتصر على الأعداء ويهزم أمريكا وإسرائيل. المواطن العربي لم يتعلم الحرية ولا الديمقراطية ولا أهمية العلمانية وضرورة التقدم. المواطن العربي لا يغضب إلا من أخيه الإنسان، لا يغضب إلا إذا خالف أحدهم معتقده أو انتقد رأيه أو طالب بكشف حقائق تاريخه ومعتقداته وتقاليده.
المواطن العربي هنا يصب الزيت على النار ويحرق أعلام العدو ويزيد في الدعاء والشتيمة والكراهية ضد أخيه الإنسان، فهذا أقصى حد يصل إليه بعد أن تضع الأجهزة الأمنية ودوائر الاستخبارات ألف جهاز وجهاز لمراقبة تحركاته وتنفساته ومتى يجامع زوجته وصديقته ومتى يضرب أبناءه ويعنف الخادمة ويرمي القمامة في الطرق والشوارع. المواطن العربي خلال عقود طويلة تأدلج على هذا الوعي وحفظ هذه الخطوات وعلم متى يغضب ومتى ينام ومتى يلعن الأعداء والخونة والكفار ومتى يسكت تماما عن الكلام والصراخ.
المواطن العربي اليوم أصبح توليفة غريبة وشخصية فريدة من نوعها وشكلها وعقلها. المواطن العربي مشلول بسبب نفسه أولا وليس بسبب أمريكا وإسرائيل. المواطن العربي، يذكرني بتغريدة أظن أنها لشخص عراقي، وهم أصحاب النكتة الساخرة المؤلمة، حين قال أحدهم بعد أحداث غزة “بطران، جاي يبعثلي فيديوهات عن فلسطين وبلدي منهوبة من الشمال إلى الجنوب”.
- الآراء الواردة في المقال من حق الكاتب ولا تعبر بالضروروة عن شبكة مواطن الإعلامية