جميع الأحداث التي تطرأ على الساحة السياسية والاجتماعية تحمل معها فرصا جديدة، وكذلك تخلق مشاكل جديدة، فمع بزوغ فجر التغير السياسي والاجتماعي في بلدان شمال أفريقيا والذي يؤرخ له في الغالب مع بداية الثورة التونسية في أواخر العام العاشر بعد الألفين، برزت معه فرصٌ جديدة للديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وفي الوقت ذاته عَمقت من فجوة إدراك هذه المفاهيم على المستوى السياسي والاجتماعي، وكذا طرحت جدلا واسعا فيما يخص الآليات التي يمكن بموجبها تفعيل مثل هذه التغيرات العميقة بشكل يضمن القطيعة النهائية مع وقائع الشمولية السوداوية التي رافقت شعوب المنطقة طيلة فترات الاستعمار وحتى بعد استقلالها الأول من المستعمر الخارجي.
ومع بداية رياح التغيير أو ما اصطلح عليه لاحقا بالموجات الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي، بدأت تبرز كذلك مصطلحات جديدة على غرار المعارضة؛ إذ إن هذا المفهوم وقبل الثورات كان وإن تم الإشارة إليه فذلك من باب التمثيل وتقديم التصورات، ولكن ثورات الربيع المغاربي جعلت من هذا المصطلح يروج أكثر، والأهم من ذلك أن أحزاب المعارضة وخاصة اليسارية منها أصبحت أمام واقع جديد لا يقتصر فقط على المعارضة من حيث المبدأ أو ممارسة المعارضة الشوفانية، وإنما يتوجب عليها انتهاج آليات المعارضة السياسية القائمة على فرض مبدأ الاختلاف وتقديم البدائل مع القدرة على تحمل مسؤولية السلطة في إدارة الشأن العام، ويعد هذا المسعى التحدي الذي سيكشف طبيعة المعارض بين إثبات الوجود أو الانحلال وسط السائد.
الحق في الاختلاف نهج جديد للمعارضة
الاختلاف ليس مرتبطا بالتحضر بقدر ما هو مرتبط بالطبيعة البشرية في حد ذاتها، فالاختلاف أمر حتمي، بينما النزعة لدرء الاختلاف ليس سوى نزعة إنسانية أنانية تعود لغريزتي الخوف والملكية، وبمبدأ نبذ الاختلاف خوفا من الآخر تارة أو لأغراض فرض السيطرة تارة أخرى عاشت المجتمعات الإنسانية حالت ركود وسواد لعقود طويلة، إلا أن عصر الأنوار الذي شهدته أوروبا عقب العصور الوسطى أفرزت مفهوم الاختلاف كحق إنساني طبيعي وكشرط من شروط النهضة والتعايش، وإن كان هذا التغيير العميق الذي طرأ على المجتمعات الأوروبية قد مكنها من الاعتقاد جزما بالحق في الاختلاف، فإن الثورة الفرنسية التي قامت على أنقاض الملكية الكنسية “الثيوقراطية” مكنت من تفعيل الحق في الاختلاف في الحياة السياسية، ولعل أبرز شاهد على ذلك هو اصطفاف جماعة المحافظين على يمين البرلمان بينما جنح التقدميين نحو اليسار في مشهد فلكلوري ينبئ عن بداية حقبة تاريخية جديدة.
والملاحظ في المشهد الفرنسي السابق ليس فقط إقرار مبدأ الحق في الاختلاف السياسي وحسب، بل وكذلك بيانُ لفاعلية الحوار والمشاركة في السلطة مع العدو، ففي ذلك الوقت كان المحافظون يجنحون إلى آراء قد تصل لمعاداة مبادئ الثورة والديموقراطية، والحال في أحزاب المعارضة في البلدان المغاربية مخالف تماما بل يكاد يكون متناقضا لحد بعيد، فرفضها التام لوجود أحزاب موالية للسلطات الشمولية في مرحلة التغير -وإن كان من الناحية المثالية أمرًا منطقيًّا- إلا أنه إنكار لمبدأ الحق في الاختلاف كما أن واقع السياسية البراغماتية يفرض منطقا ميكيافليا بالأساس يضع في الاعتبار سبيل بلوغ السلطة قبل الاعتزاز بالمبادئ وإن كانت هذه الأخيرة خلاقة.
وفي السياق ذاته تجدر الإشارة إلى أن هذا النهج المتزمت الذي تنتهجه المعارضة وخاصة اليسارية منها في البلدان المغاربية بالقدر الذي يجعل منها معارضة شوفانية، بقدر ما يجعل منها كذلك شبيهة بالحركات الاستئصالية على الرغم من تغني المعارضة اليسارية بمنازعتها، فتزمتها المطلق برفض الموالات -باعتبارها جماعات نفعية مفرغة من قيم الديموقراطية- يجعل منها حركات متطرفة رافضة لمبدأ الاختلاف الذي يعتبر أحد أهم ركائز الديمقراطيات الحديثة، ولعل هذا التزمت في رفض مشاركة القوى السياسية المحافظة في الساحة السياسية هو أحد أهم الأسباب الذي آل لانهيار ثورات الربيع المغاربي، والذي كانت من المفترض أن تناشد تفعيل الحق في الاختلاف السياسي قبل التحول الديمقراطي فما الديموقراطية سوى فوضى من الخلافات المنظمة.
المعارضة بين النخبوية والشعبوية
من بين أفظع الآفات التي تتعرض لها مجتمعات المعلومات -أو إنسان ما بعد الحضارة- هو ذلك التنامي الجامح للشعبوية في الأوساط السياسية والاجتماعية والأخطر من ذلك أن الشعبوية باتت تطرق أبواب العلم لتدنسه بأنماط تضليلية من الاستدلال والإثبات القائم على مقاربات عاطفية وإثنية ودينية، وتعد الثورة التكنولوجية السبب الرئيس لشيوع مثل هذا الخطاب اللاعقلاني في الأواسط السياسية، فهو في أبسط تجلياته يكمن في قيام شخص أو مجموعة من الأشخاص بنشر خطاب سياسي يتسم بالإنشاء في السرد، واستغلال بشع لعواطف ومآسي المجتمع، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي ليصبح هذا الخطاب قوة جامحة يصعب على العقل والمنطق السليم أن يصمد أمام جرفه الهائل، فالغالبية العظمى من مستخدمي هذه المنصات أناس من العوام لا يمتلكون المهارات المعرفية والعلمية التي تمكنهم من تحليل الخطاب ونقده، ونظرا لطبيعة العقل البشري الكسول فهو ميال لتقبل الأفكار ببساطة ساذجة، الشأن الذي يتداعى من خلاله انهيار كامل لنظام الحاكمية السياسية.
وإن كانت السلطات الشمولية بالدول المغاربية ملامة في اعتمادها على الشعبوية في الخطاب وتسيير الشأن العـام، فإن نتائج ذلك واقعة لا تحتاج إلى أي توصيف أو استدلال، فالانهيار المتسارع والتقدم نحو الخلف في جميع مجالات الحياة أصبح سمة ثابتة و لصيقة ببلدان المنطقة، بل أصبح ذلك الشائع في ظل استثناءات منشطرة.
إلا أن وباء الشعبوية لم يقتصر فقط على كونه سمة ثابتة لدى الأنظمة السلطوية، بل تسلل هذا الخطاب ليستقر كذلك وبصفة بنيوية في الأحزاب المعارضة، الشأن الذي يستدعي وجوبا تسميتها بالمعارضة الموبوءة، فجل خطاب المعارضة المنتهج من قبل هذه الحركات السياسية بات شعبويا وكلما تناقص رصيدها السياسي كلما زادت من خطابها الشعبوي لتجعل من النخبوية ضحية على مذبح السياسة، كما أن ثورات الربيع المغاربي عززت بشكل كبير من شعبوية المعارضة حيث أصبحت مقاربتها الوحيدة لتوجيه الخطاب المعرض للمتظاهرين السلميين في الشوارع تكمن في خطاب شعبوي، ذلك راجع لكون الثورات الحاصلة ثورات شعبية جاءت من دون تنظير أو تأطير فكري، فضلا عن عدم تمكنها من إفراز قيادة نخبوية مناسبة.
ومن أجل أن تضمن أحزاب المعارضة تواجدا فعليا في الساحة السياسية، بدأت تغالي في استخدام الخطاب الشعبوي، مبتعدة بذلك عن الممارسات السياسية الفضلى، ومن جملة تلك الممارسات الشعبوية التي أصبحت تمارسها أحزاب المعارضة نذكر:
- الامتناع عن الخطاب النخبوي العقلاني والتوجه نحو خطاب إنشائي شعبوي أجوف يتعارض مع الأعراف السياسية الحكيمة، فالمسؤولية السياسية تقتضي وجوبا توجيه خطاب عقلاني قائم على معطيات الواقع بدل مخاطبة العواطف.
- انتهاج المعارضة للخاطب الصفري ”الكل أو اللا شيء” إذ إنها أصبحت تعتمد على تصور أحادي يصنف القضايا والأشخاص للأسود والأبيض، من أمثلة ذلك تخوين كل من لا يتوافق مع طبيعة الخطاب الشعبوي السائد في الثورات، ونتيجة ذلك أن أصبحت الساحة السياسية معتركا صفريا قائما على التخوين، بدلا من أن يكون ساحة للاختلاف الفكري والأيديولوجي.
- تعنت أحزاب المعارضة السياسية في المشاركة بالعمل السياسي الرسمي، مما أدى إلى تشكل واقع سياسي مفرغ من أي معارضة سياسية حقيقية، الشأن الذي مكن السلطات من ملء ذلك الفراغ بمعارضة زائفة تصنع داخل المختبرات الأمنية، وذلك ما يزيد من تعقد الوضع السياسي أكثر مما هو عليه.
- فشل أحزاب المعارضة في بلورة برامج سياسية وخرائط تغيير عملية تؤسس لبديل جديد لمسار سياسي يمكن من خلاله الشروع في بناء دولة المواطنة والقانون.
- التسلل العميق للخطاب الشعبوي الرافض للنخبوية جعل من الأحزاب السياسية المعارضة تذوب في الحركة الشعبية، بدلًا من أن تكون الهيئة التنظيمية المؤطرة لها، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في فشل الثورات المغاربية في تحقيق أهدفها، نظرا لكون الخصوم السياسيين يتمتعون بنفوذ الإدارة البيروقراطية ودوائر السلطة المغلقة وكذا اعتمادهم على أحزاب منظمة تتسم بالرسمية والشرعية وإن كانت كرتونية إلا أنها دائما ما قامت بدورها في التأطير والحشد في المعتركات الانتخابية “وإن كانت مزيفة”.
المعارضة ما بين التغير من الداخل وأدوات السلطة
كما سبق وأن تم الإشارة إلى تغلغل الشعبوية داخل الأحزاب السياسية المعارضة، فان ذلك جعل منها أحزابًا منغلقة وصفرية المنهج، أدى بها إلى إقصاء افتراضات التغيير من الداخل، فالثورات السياسية تنتصر من خلال مقاربتين اثنتين هما:
- الإطاحة الكاملة بالنظام السابق، وباعتبار الحركات الشعبية في الدول المغاربية حركات سلمية، فإن تحقيق ذلك مستبعد جدا، لأنه لا يمكن استئصال نظام سياسي شمولي متجذر في دواليب السلطة والحكم من خلال مسيرات وشعارات شعبية، ومن خلال التجارب التي نستشفها من عديد الثورات الحاصلة في العالم، فوحدها الثورات المسلحة هي من تتمكن من الإطاحة النهائية للأنظمة المستبدة، إلا أن هذا المسار بجانب كونه مسارا دَمويا يتخلله انتفاء للحس الإنساني نظرا للضحايا والدماء التي تسال في سبيل ذلك، فإنه وفي الوقت ذاته ليس بمسار مضمون بسبب احتمال قيام سلطة ثورية شمولية تستأثر بالوطن ما يجعل الشعوب تعود لنقطة البداية ضمن حلقة مفرغة.
- المقاربة الثانية تتضمن التغيير من الداخل، وتعد أكثر العمليات الانتقالية ديمقراطية ورقيا، إذ تعتمد هذه الأخيرة على قيام أحزاب المعارضة السياسية من إقناع السلطات للدخول لمعترك سياسي تكون فيه قواعد اللعبة عادلة وشفافة، وإلى جانب ذلك تعمل على تنظيم المتظاهرين السلميين بطريقة هيكلية وتمكينهم من المشاركة في صنع القرار السياسي، الشأن الذي يمكن الدول على المدى البعيد من الانتقال الديمقراطي بشكل تدريجي في ظروف آمنة وأقل خطورة.
إلا أن أدوات السلطة دائما ما تكون مجندة إعلاميا وميدانيا على تحريض المعارضة والثورات للتوجه نحو المقاربة الراديكالية في التغيير الشأن الذي يسهل على السلطات الشمولية استخدام العنف وافتعال الحروب والأزمات والانشقاقات، كل ذلك ضمن غطاء دولي يتمثل في محاربة الإرهاب والفوضى هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن أدوات السلطة تعمل على تعكير الصفو السياسي الداخلي إذ تستغل الخطاب الشعبوي القائم على التخوين لدفع الأحزاب المعارضة لعدم المشاركة الفعلية في المسار السياسي الرسمي خشية منها على رصيدها السياسي، الأمر الذي يتيح لأدوات السلطة خلق معارضات سياسية وفق مقاربات أمنية تمكن الأنظمة الشمولية من استعادة زمام الأمور من خلال البقاء في السلطة جنبا إلى جنب مع معارضات فلكلورية يتم تسييرها من خلال أجهزة أمنية.
أمام هذا المشهد السياسي السوداوي والفوضوي تقف أحزاب المعارضة عاجزة أمام إشكاليات ذاتية متعلقة بضعف بنيتها الداخلية وانحلال أدواتها ضمن مقاربات شعبوية موبوءة في ظل غياب مقاربات وبرامج سياسية نخبوية، وإشكاليات أخرى مرتبطة بأدوات السلطة التي تعمل بكل قوة على تمييع الأحزاب المعارضة أكثر فأكثر حتى تستنزفها من أي قوة حقيقية من شأنها العمل على تحقيق التغيير السياسي المنشود.
وبذلك فإن أحزاب المعارض في البلدان المغاربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى على ابتكار حلول ابداعية وخلاقة تمكنها من تجاوز مشاكلها الداخلية وكذا التسلح بأدوات جديدة تمكنها من مواجهة أدوات السلطة، من خلال العمل على مقاربات نخبوية قادرة على حشد الشعوب الثائرة دون الانجراف للخطاب الشعبوي والنهج الصفري الرافض للاختلاف.