ما يميز شعور الحب هو الدهشة التي تصحبه، دهشة المشاعر واللذة التي نستسلم لها كلياً دون حساب أو منطق. ماذا يحدث لو تحول ذلك الشعور، شعور الحب، إلى مجموعة من القواعد التي نتبعها كما نتتبع قواعد وحركات وحرارة رقصة التانجو في ترقب وبحرص تام؟
ثم ماذا لو استسلمنا تماماً وكسرنا كل القواعد لنرتجل فى عشوائية رقصة خاصة بنا نحن ثم ما لبث أن خفتت تلك الدهشة حتى تبخرت من بين أيدينا في النهاية لنكتشف أننا أخيراً كالعندليب، عبد الحليم حافظ، في أغنيته الشهيرة: “ماسك الهوا بإيديا”.
فن الإغواء
الصراع ما بين المنطق والحب يمثل إشكالية لا نهاية لها، لكننا جميعاً نتفق على تمتع بعض الناس بهالة من السحر تحيطهم، فنجدهم لسبب ما يتقنون ما نطلق عليه أحياناً “لعبة الحب” أو الذي اتُفق على تسميته بـ”فن الإغواء”.
هل فعلاً الحب هو حالة السحر التي تصيبنا فجأة فننطلق كالسهم نحو الشخص الذي سحرنا ثم نعيش حياة جميلة وشاعرية كلها رومانسية وسعادة؟! أم أن هذا ما يتم الترويج له دائماً عبر الإعلام والأفلام حتى وقعنا نحن ضحايا لإغواء هذه اللعبة وننتظر في يأس هذا السحر الجميل الذي يحول حياتنا إلى “بمبي بمبي” كما يخبرنا صوت سعاد حسني الذي يغلفه السحر بغنجها ودلالها.
إذا كنت ممن يعشقون كسرالقيود فسترى معي على الأرجح أن الحب هو خطوات عشوائية وكموج البحر الذي تُفاجأ بارتفاع أو انخفاض أمواجه، وكالمزاجية التي ترتفع بنا تارة إلى حد البهجة والمرح ثم تنخفض تدريجياً أو حتى بشكل مفاجئ إلى الأرض. أنت لا تتبع اللعبة أنت ببساطة تتورط بها فتصبح مهووساً بالحالة وبالشعور مندهشاً من نفسك ومن شعورك ومن الطرف الآخر تكون سعيداً حد البله لأنك لا تتحكم في شيء تستسلم فقط للسحر حتى يخفت وللأسف سرعان ما يخفت، نحن هنا نحب على طريقة أم كلثوم وجورج جرادق فـ”سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعالى.. تعالى أحبك الآن الآن أكثر”!
وهل نملك من الحياة إلا الآن يا ست؟!
لو نجح الجميع في لعبة الحب لما عرف العالم الفن
لو نجح الجميع في لعبة الحب لما عرف العالم الفن، فقصص الحب الفاشلة تتحول إلى فن بديع وبالتأكيد هذا شيء في غاية الأهمية فنحن كبشر نتمسك جميعاً بالفن كي ننجو كل يوم من العالم، فشعور الحب والألم هما المحرك الأساسي للفن، يدخلنا الله فى تجربة ثم يقودنا الحب أو الألم كوجهَيْ عملة إلى الفن حتى ننجو ثم ينجو الآخر حيث يلتمس طريقه بالفن الذي تصادف وخلق على يدينا للنجاة.
وأحياناً يقودنا الفن إلى الحب كما حدث مع “غوستاف كليمت” حيث تخيل نفسه رجلاً واقعاً في حالة سحر الحب يرتدي زيًّا مغطًّى بالذهب الذي كان يبحث عن منجمه والده، رسم نفسه واقعاً في غرام امرأة بكل وله وهيام واستسلام وكان يقبلها في رقة بالغة لتكون لوحته هي بداية قصة حبه وأيضاً لنجاحه كأحد أهم الرسامين حتى الآن.
الغواية والفن
لو نجح الجميع في لعبة الحب لما استسلمنا جميعاً لآهات الست وسحرها وهي تغني “وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد لسه ما همش بعيد”، ولما تساءلنا مع العاشق “عبد الوهاب” وصوتِه ذي النزعة الصوفية “ليه ليه يا عين ليلي طال؟” أو “كل ده كان ليه؟”.
يجبرنا الاعتقاد بأن الحب حالة من السحر على الاستسلام للألم، الطرفان هنا في اللعبة معرضان للشعور بذات الألم فقط على فترات متغيرة حيث تتبادل الأدوار فالطرفان هنا “عاشقين حيارى مظلومين”.
بعكس الاعتقاد في لعبة “الإغواء” فالطرفان في هذه اللعبة لا يتساويان، هناك نجم يسيطر بحرص على خيوط اللعبة كي يستنفد طاقة ضحيته كي تخضع له لأكبر وقت ممكن. الحب في لعبة الإغواء يتخذ شكل السلطة أكثر منه حباً صافياً بلا سبب أو شرط، بلا منطق أو خطة، لكنه بلا شك يحرر طرفًا واحدًا من الألم بينما يظل الآخر خاضعاً في قيود حالة من السحر “المزيف” الذي اختلقه الآخر حتى يخنقه في سجن شعوره إلى الأبد ويحرمه من سطوة شعور الحب بلا قيد من الجنون الذي يعالج الروح أحياناً من ندوبها ويحررها، فيصبح سجينًا لشخص وليس لشعور.
نجوم الإغواء
يقول علاء خالد فى روايته (ألم خفيف كريشة طائر): “الجميع سيجدون من يحبونهم في النهاية، الفاشل، والأناني، والخبيث، والمتهور، والجبان، والكاذب، يقف الحب مع الجميع وبدون استثناء”. لكن الحب في لعبة الإغواء بحسب رؤية (فرويد) يلزمه أن تقع في حب نفسك أولاً لأن التقدير المنخفض للذات هو صفة مضادة تماماً للإغواء، فأول شروط اللعبة إذن سواء إذا كنت تمتلك بالفعل مشاعر حقيقة في قلبك تجاه ذلك الشخص أم لا هو تقديرك لذاتك الذي قد يصل إلى حد النرجسية لأن هنا يكمن السحر، وقد تكون الحقيقة عكس ذلك إلا أن الأهم هو كيف تبدو في النهاية، ما هي خطواتك في الرقصة هل تتبع القواعد؟
الجميع سيجدون من يحبونهم في النهاية، الفاشل، والأناني، والخبيث، والمتهور، والجبان، والكاذب، يقف الحب مع الجميع وبدون استثناء
فكما يؤكد (روبرت غرين) صاحب كتاب (فن الإغواء): “موقفك تجاه نفسك يقرأ من قبل الشخص الآخر بطرق غير واضحة وغير واعية”.
فى الفيلم البديع ( Black Swan)، تحاول البطلة في القصة التي تمثلها برقصة الباليه أن تحتال على احتياج الرجل للمرأة الرقيقة الهادئة التي تحتاج إلى الحماية لكننا نلاحظ صراع البطلة ومعاناتها النفسية في تمثيل النصف الآخر للأنثى التي تقوم بالإغواء، فعليها أن تكون أكثر إغواءً حتى تحتفظ بالرجل الذي حصلت عليه لأن بمجرد امتلاكها عن طريقه فقدت اللعبة سحرها. واضطرت البطلة أخيراً في اللاوعي إلى قتل نفسها فقط “لتشعر بالكمال” بأنها قادرة على أن تصبح نموذج الأنثى المُغوي الذي يعشقه الرجل.
وعلى مدار التاريخ برزت نماذج عديدة في الإغواء حيث اخترعته النساء في البداية للسيطرة على الرجل فأصبح للإغواء دور هام في الحصول على السلطة وكسلاح هام ضد الرجل، ومنهم بالطبع “كيلوباترا” التي برعت في اللعبة ولقبها فى اللعبة الإغوائية “شخصية الحورية” التي تتبدل وتتشكل وتلهب خيال أنطونيو، تستطيع أن تكون الخاضعة الراجية للحماية ثم تنقلب لتكون المسيطرة حيث يعجز الرجل أمامها عن الشعور بالراحة أو الأمان بل هو دائماً مطالب بجهد هو دائماً أمام تحدٍّ كبير.
القواعد الأولى لأن تكون إغوائياً ألا تستغرق كثيراً في عالمك وأن تعتاد فقط على تجاهل مكامن عدم الأمان في شخصيتك، كلنا في حاجة دائمة للهروب من الواقع، خاصة الرجل لأن احتياجه عميق للهروب من مسؤولياته وقد أحسنت “كليوباترا” استخدام ذلك كسلاح مما يجعلها تتربع على عرش الإغواء لتنوعها كامرأة ولاستطاعتها اللعب بأنماط الخيال والوهم وخلق عالم خاص لإلهاء أنطوني جعله دائماً يهرب من حياته ليعود إليها في كل مرة.
اقرأ أيضا: اليودايمونيا وبحث هيكتور عن السعادة
نموذج آخر أكثر إنسانية في رأيي وأكثر حقيقة لشخصية الحورية التي ألهمت خيال الرجل، وهي (مارلين مونرو) التي اكتشفت إغواءها أمام شاشة السينما ومن قبل أثناء مراهقتها، ما يميز (مارلين) كحورية كان عنصر البراءة الذي يمتزج مع ذكائها والإيحاءات الجنسية بصوتها وطريقة مشيتها وغنجها، وعلى العكس من أسطورة “الطفل المدلل” التي تؤتي ثمارها مع الكثيرين فتبرز ثقة الطفل بنفسه حيث يرى كل العالم وكأنه من الطبيعي أن يلبي كل احتياجاته فتسير عملية الإغواء بشكل عفوي أكبر، جاءت إمكانيات “مارلين” في الإغواء على العكس من ذلك مما يؤكد بالطبع إمكانية توظيف صفاتك -وهذا هو المدهش فى العبة-، عاشت “مارلين” أو “نورما جين بيكر” طفولة قاسية ما بين أب مجهول وأمٍّ في مصحّة عقلية وتنقل ما بين بيوت الأصدقاء مما جعلها داخلياً تفتقد الكثير من الحب والحماية والذي أدى بدوره مع ذكائها لأن يتحول ذلك إلى مزيج من البراءة العفوية والإيحاءات الجنسية وقد أدركت بذكائها موهبتها منذ أن كانت في دار الأيتام.
ومن النجوم البارزين في “لعبة الإغواء” هي “لو سالومي” التي عرفت بقهرها للعديد من رجال الصفوة في عصرها، وإغواؤها كان أساسه هو استقلالها التام بنفسها وقوتها وذكاءها، فهي المرأة التي قهرت “نيتشه” رغم صغر سنها أمامه حينذاك إلا أنها استطاعت أن تهزمه وبقوة وقامت بفرض عروض الزواج منه أكثر من مرة، وحتى لقاؤها بالشاعر “ريلكة” ومن ثم “فرويد” استطاعت بعقلانيتها أن تقهر الجميع وقد حصلت على كل شيء الحب وحتى الزواج فيما بعد رغم أن علاقتها بالشاعر كانت أثناء زواجها فلا شيء كان بإمكانه أن يوقف تلك المرأة.
ما هو الحب حقاً؟
فى كتابه (فن الحب) يقول (إريك فروم): “رأيا آدم وحواء أنهما عاريان وكان خجلين، وبينما يدركان انفصالهما يظلان غريبين لأنهما لم يكونا قد تعلما بعد أن يحب كل منهما الآخر”.
إذا تحدثنا عن العُري هنا بمعنى الوضوح فهو النقيض تماماً من فن الإغواء الذي يعتمد على الغموض في الكثير من الأحيان، ولكن عندما تكتمل اللعبة ويكتمل العُري يدرك الطرفان اختلافهم ويصبح من البديهي حدوث النزاع والتصادم ومن ثم موجة من الابتعاد أما إن اكتمل ذلك الوضوح ومن ثم البعد ثم حدث لقاء آخر بينهما فإن هذا اللقاء يكون هو البداية الحقيقة لعلاقة الحب التي لن نراها أبداً في الأفلام والمسلسلات، هذه هي البداية بعد أن تكتب كلمة “النهاية” بشكل مجازي عند اجتماع الطرفين.
فبينما يحافظ الإغواء على دهشة البدايات، يأتي التعايش مع الاختلاف والحقيقة بمثابة المشاركة الفعلية لحياة الآخر. لكن هل نترك كل الأمر بعشوائية لقواعدنا الخاصة التي قد تحيطها الصدفة أو قوة عليا لا سيطرة لها علينا؟!
يقول روبرت غرين “أن ما يغوي الشخص هو الجهد الذي نبذله لأجله مظهرين بذلك مدى اهتمامنا وكم هو يستحق هذا الإهتمام، ترك الأشياء للصدفة هو وصفة كارثية ويظهر لنا أننا لا نحمل الحب والرومانس على محمل الجد”.
“التعويذة السحرية” التي نتغنى بها ونخلق من هالتها العديد من الفنون والحكايات والأساطير، هي لدى “غرين” و”فرويد” وغيرهم من رواد “فن الإغواء” هي ليست مسألة سحر لكنها مسألة علم نفس، فطالما فهمت نفسية هدفك واحتياجاتك تستطيع أن تخطط استراتيجياً لإنجاح الأمر لتصبح قادراً على رمي تلك “التعويذة”.